بوتان زيباري
في قلب الشرق الأوسط، حيث تلتقي دماء التاريخ بجراح الجغرافيا، تقف كوردستان شامخةً كشاهدٍ على واحدة من أعظم المآسي الإنسانية. لم تكن مجرد أرضٍ تُقسَّم، بل كانت هويةً تُشرَّر، وشعبًا يُحوَّل إلى غريب في وطنه. فبعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، لم تكن خطوط سايكس-بيكو مجرد حدودٍ مرسومة على الورق، بل كانت شفراتٍ استعماريةً مزَّقت جسدًا حيًا، وحوَّلت تاريخًا عريقًا إلى ركامٍ من الهويات المزيفة. لقد صاغ المستعمرون البريطانيون والفرنسيون كياناتٍ هشة من فراغ، ثم زينوها بشعارات قوميةٍ مموهة، كالعروبة والطورانية، ليخفو وراءها جراحًا لا تندمل.
لم تكن “القومية العربية” سوى وهمٌ نسجه ضباط الاستخبارات البريطانيون مثل “ستورز” و”لورانس”، ثم أعادت المخابرات الأمريكية صياغته بأردية اشتراكية زائفة في عهد عبد الناصر. أما “القومية التركية”، ف مويز كوهين، المعروف بـ”كوك ألب” المتحول إلى رمزٍ قومي – الذي حوَّل الإرث العثماني المتعدد الأعراق إلى أسطورةٍ عنصرية تخدم مشروع أتاتورك التصفوي. وفي كلتا الحالتين، كان الهدف واحدًا: تفكيك المنطقة إلى كياناتٍ متناحرة، تُنكر بعضها بعضًا، وتنسى أنها جميعًا ضحايا المؤامرة ذاتها. لقد جُرِّد الكوردي من اسمه ولغته وتاريخه، ثم وُضع في قوالبَ مصطنعةٍ تمنعه حتى من تذكُّر ماضيه. ففي سوريا صار “عربيًا”، وفي تركيا “طورانيًا”، وفي إيران “فارسيًا”، بينما ظلَّ غريبًا في كلٍّ منها.
لم يكن التقسيم الجغرافي سوى الوجه الظاهر للمؤامرة، أما الوجه الخفي فكان طمس الهوية عبر تغيير أسماء المدن والقرى، وتجريم اللغة الكوردية، وتزوير التاريخ. فكيف يُطلب من شعبٍ أن يُشارك في مؤسسات كياناتٍ قامت على إنكاره؟ كيف يُنتظر منه أن يقبل بـ”حكم ذاتي” هشٍّ يُمنح كصدقة، بينما أرضه تُنهب وتراثه يُسرق؟ إن المشاركة في هذه اللعبة السياسية المزوَّرة ليست سوى إضفاء شرعية على كياناتٍ استعمارية، واعترافًا ضمنيًا بشرعية التقسيم.
لكن الأرض لا تكذب، والذاكرة لا تموت. فمن سومر إلى ميديا، لم تكن كوردستان مجرد جغرافيا، بل كانت وعاءً لحضاراتٍ صنعت التاريخ. اليوم، تخرج الأرض صرخاتها من تحت الأنقاض: نقوشٌ في آمد، وحجارةٌ في دهوك، وقصائدٌ تُنشد بالسورانية والكرمانجية، كلها تشهد على زيف تلك الحدود. فاكتشافات الآثار الحديثة تثبت أن هذه الأرض كانت مهدًا للإنسان قبل أن يُختزل وجودها إلى سطورٍ في اتفاقيات استعمارية.
إن المعركة اليوم لم تعد ضد المستعمر القديم وحده، بل ضد إرثه الذي تحوَّل إلى نظام عالمي جديد. فالدساتير الجديدة، والانتخابات الزائفة، وحتى الخطابات “الوحدوية” المعلبة، كلها أدوات لإدامة التبعية. ولكن طريق التحرر يبدأ بالاعتراف بالجريمة الأولى: أن كوردستان لم تُقسَّم بسبب ضعفها، بل لأنها كانت قويةً بما يكفي لتهديد مصالح الغزاة. لذا، فإن النضال الحقيقي ليس مسلحًا فحسب، بل هو ثقافيٌ في جوهره. تعليم اللغة، حفظ التراث، كشف زيف الروايات الرسمية – هذه معارك لا تقل أهمية عن المواجهات السياسية. فالأرض التي تُنسى لن يُعاد لها حقها، والشعب الذي ينسى نفسه لن يطالب بأرضه.
في النهاية، ليست قضية كوردستان مجرد صراعٍ على حدود، بل هي اختبارٌ لإنسانية العالم أجمع. ما قيمة القانون الدولي إن صمت أمام شعبٍ يُحاكم لمجرد تلفظه باسمه؟ وما معنى الحضارة إن كانت تُشرع لاستمرار احتلالٍ عمره قرن؟ ربما يأتي اليوم الذي تُدرك فيه الشعوب المجاورة أن التقسيم الاستعماري لم يظلم الكورد وحدهم، بل خدع الجميع. عندها فقط، ستنكسر الأوهام، وتُولد الهويات الحقيقية من تحت الرماد.
لذا، فإن الخيار الوحيد هو الوحدة: وحدة الصف الكوردي، وتعزيز الوجود الدبلوماسي الدولي، وبناء وعيٍ جماعيٍ يجعل من الأجيال القادمة حراسًا للهوية والحق. فالمستقبل لا يُبنى على تمجيد كياناتٍ هجينة، بل على التمسك بالجذور، والنضال من أجل كوردستانٍ حرّةٍ موحدة، من طوروس إلى زاغروس، حيث يعود الشعب إلى أرض أجداده، منتصرًا على كل أوهام التقسيم.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=71773





