د. محمود عباس
نشرت واشنطن بوست، إحدى أعرق الصحف الأميركية وأكثرها ادعاءً للمعايير المهنية، بتاريخ ديسمبر/كانون الأول 2025 مقالةً بعنوان: «كيف تسعى الأنشطة الإسرائيلية السرّية في سوريا إلى عرقلة حكومتها الجديدة»، شارك في إعدادها مراسلون معروفون بتغطياتهم للشرق الأوسط. غير أن ما قُدِّم تحت هذا العنوان لم يكن تحقيقًا استقصائيًا، ولا تحليلًا سياسيًا رصينًا، بل نصًّا مشوّهًا، محمّلًا باتهامات خطيرة، ومبنيًا على سردية أقرب إلى بيانات التحريض منها إلى الصحافة.
الأخطر ليس مضمون المقالة فحسب، بل توقيعها، حين تنشر صحيفة بحجم واشنطن بوست مادةً بهذه الضحالة، وبهذا القدر من التلفيق والتناقض، فإنها لا تسيء إلى موضوعها فقط، بل تُطلق رصاصة في صدر سمعتها المهنية، وتضع نفسها، طوعًا، في خانة أدوات الصراع السياسي الإقليمي.
المقالة لا تُخفي هدفها: اتهام المكوّنين الدرزي والكوردي بالخيانة، عبر ربط أي شكل من أشكال الدفاع الذاتي أو المساعدة الإنسانية بتهمة “العمل كأدوات لإسرائيل”، في لحظة تاريخية كانت فيها هذه المكوّنات مهددة بالمجازر، ومحاصَرة بخطاب تكفيري، ومتروكة بلا حماية من سلطة انتقالية فاشلة.
بدل أن تسأل الصحيفة السؤال البديهي:
أين كانت الدولة السورية حين هُدد الدروز؟ وأين كانت حين وُضع الكورد على لوائح القتل؟
اختارت أن تُدين الضحية، وتُبرّئ الفراغ، وتمنح الفشل السياسي غطاءً أخلاقيًا زائفًا.
ثم تأتي الفضيحة المهنية الكبرى:
“أكثر من عشرين مسؤولًا ومحللًا إسرائيليًا وغربيًا” بلا اسم واحد.
في أي مدرسة صحفية يُسمح بتوجيه اتهامات تمسّ مصير شعوب، استنادًا إلى مصادر مجهولة بالجملة؟ هل تحوّلت الصحافة الاستقصائية إلى همس بلا توقيع؟ أم أن هناك من أراد رواية بلا شهود كي لا يُحاسَب؟
الأكثر فجاجة أن المقالة تسير في مستنقع تناقضاتها دون خجل.
فإسرائيل، بحسب النص، وافقت على سقوط نظام الأسد، وسلّمت دمشق لهيئة تحرير الشام ضمن تفاهمات دولية، وسارت في مسار تفاوض مع أحمد الشرع، لكنها في الوقت نفسه، وبقدرة سحرية، تُخطط لتقسيم سوريا عبر “دعم الدروز والكورد”.
أي منطق هذا؟ وأي عقل يُطلب من القارئ أن يسلّمه لهذه المهزلة؟
أما ما قُدِّم بوصفه “أدلة”، فحدّث ولا حرج:
24 ألف دولار، نصف مليون، تدريب نساء، إسقاط دروع واقية، مساعدات طبية.
هل هذا هو “مشروع التقسيم” في القرن الحادي والعشرين؟
وهل صحيفة بحجم واشنطن بوست تعتقد فعلًا أن الجاليات الدرزية، أو القوى الكوردية، تحتاج إلى هذا “الالتفاف الهزلي” لتأمين مبالغ أو دعم، بينما تُسقَط الأسلحة والمساعدات علنًا حين تقتضي الحاجة؟
إقحام النساء في هذا السرد ليس تفصيلًا عابرًا، بل انحطاط أخلاقي.
استخدام تدريب النساء كأداة تشهير سياسي، هو إهانة مزدوجة، للمرأة، وللنضال، وللمجتمعين الدرزي والكوردي معًا. وهذا وحده كافٍ لإدانة المقالة مهنيًا.
لكن الأخطر من كل ما سبق، هو الخلفية السياسية التي تنضح من بين السطور.
المقالة لا تُدافع عن “سوريا موحّدة”، بل عن نموذج مركزي قسري، تُمسكه سلطة انتقالية عاجزة، ذات جذور تكفيرية، وتُعاد فيه إنتاج معادلة النظام البائد نفسها:
أمس كان الطغيان باسم “الأقلية الحامية”، واليوم يُعاد تدويره باسم “الأكثرية المتشددة”.
وكل من يطالب بسوريا تعددية، لا مركزية، ديمقراطية، يُدفع فورًا إلى خانة “الانفصال” و” العمالة”.
هنا يحقّ للقارئ أن يسأل، وبصوت عالٍ، لصالح من كُتبت هذه المقالة؟
ومن المستفيد من شيطنة الدروز والكورد؟
ولماذا تتقاطع هذه السردية، حرفيًا، مع خطاب لوبيات إقليمية معروفة في الشرق الأوسط، ترى في أي نظام لا مركزي تهديدًا مباشرًا لمشاريعها التوسعية؟
لا أحد يملك دليلًا قاطعًا على أن المال دفع ثمن هذه المقالة، لكن الصحافة تُدان أحيانًا بما تشبهه أكثر مما تُدان بما تثبته. وما نُشر هنا يشبه بيانات التحريض الإقليمي أكثر مما يشبه العمل الصحفي المستقل. وهذا وحده كافٍ لطرح سؤال المصداقية، لا همسًا، بل علنًا.
إن أخطر ما تفعله واشنطن بوست في هذا النص، ليس الإساءة إلى الدروز أو الكورد فحسب، بل تجريم فكرة النجاة ذاتها. فحين يصبح الدفاع عن النفس خيانة، والمطالبة بالحقوق مؤامرة، والمساعدة الإنسانية دليل إدانة، نكون قد دخلنا رسميًا مرحلة ما بعد الصحافة.
سوريا لن تُبنى بتخوين مكوّناتها، ولن تُوحَّد بوصم ضحاياها.
ومن يختار أن يكتب ضد التعددية، وضد اللامركزية، وضد حق الشعوب في الأمان، لا يكتب تحليلًا سياسيًا، بل يُشارك، بوعي أو بدونه، في صناعة الخراب القادم.
وإذا كانت هذه هي المعايير الجديدة لـواشنطن بوست، فإن الخسارة ليست خسارة الدروز ولا الكورد، بل خسارة صحيفةٍ كانت تُحسب، يومًا ما، على ضمير الصحافة العالمية.
الولايات المتحدة الأمريكية
24/12/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=81622





