الأحد, مارس 9, 2025

لجنة حوار وطني أم محكمة تفتيش؟ 

شورش خاني
مع بداية الشهر الثاني، استبشر الشعب السوري خيراً لدى سماعه عن نية الحكومة الانتقالية السورية إصدار قرار بتشكيل لجنة حوار وطني سوري كخطوة أساسية للانتقال نحو دمقرطة سوريا في المشهد الراهن، حيث يُفترض أن يكون الحوار الوطني بوابة نحو إعادة تعريف الدولة والمجتمع والسلطة على أسس ديمقراطية. قبل أن نجد أنفسنا أمام إعادة تدوير بائسة ويائسة لخطابات إقصائية تُعيد إنتاج الماضي بثوب جديد تحت قناع الحوار، حيث يتم إخضاع الهويات والتجارب المختلفة لميزان إيديولوجي محدد سلفاً لا يُسمع فيه إلا الصوت الذي ينسجم مع طموحات قوى الإسلام السياسي، بينما يُدفع كل خطاب مغاير إلى زوايا مفرغة أو يُعاد تأطيره ضمن منظومة فكرية تجعل منه مجرد امتداد خاضع للسلطة الدينية الناشئة. إن القضية هنا ليست مجرد انحياز فكري، بل هي عملية ممنهجة لإعادة تشكيل المجال العام وفق نسق معرفي يُقصي التعددية ويفرض شروطًا صارمة على من يُسمح له بالكلام وما الذي يُسمح له بقوله.
وكما أشار ميشيل فوكو، فإن السلطة لا تمارس قمعها عبر المنع المباشر فقط بل عبر تشكيل منظومة «الحقيقة» التي تحدد من يملك شرعية الخطاب. بهذه الآلية، يصبح الحوار الوطني مجرد محكمة تفتيش فكرية، حيث يتم إخضاع المفاهيم والهويات إلى امتحان الولاء لمشروع إيديولوجي يفرض تصوراً أحادياً لسوريا المستقبل. وفي هذا السياق، يتم التعامل مع الكرد وسائر الجماعات غير المنسجمة مع خطاب الإسلام السياسي في سوريا كموضوعات قابلة للإدماج المشروط، لا كذوات فاعلة تمتلك حق تقرير المصير الثقافي والسياسي.
هنا، يظهر العنف الرمزي بأوضح صوره، كما وصفه بيير بورديو، حيث لا يتم قمع الصوت المخالف فحسب، بل يُعاد تشكيله ضمن منظومة دلالية تسلبه حقه في التمثيل الذاتي. فالكرد في هذا الحوار لا يُسمح لهم بالتحدث إلى أنفسهم، بل يُجبرون على التحدث إلى الآخر وفق قاموس لا يعكس تجربتهم الفعلية، بل يطوعها لخدمة التصور الإسلاموي للدولة والمجتمع. نجد أن هناك محاولة مستمرة لتعريف «الوطنية» و«الشرعية» و«الهوية» وفق مقاييس ضيقة تُقصي كل من لا يتطابق معها. تحاول القوى المهيمنة فرض تصوراتها الخاصة، سواء عبر الخطاب الإعلامي أو عبر التحكم بآليات المشاركة أو من خلال فرض محددات دينية وقومية وإيديولوجية ضيقة لا تعترف بتعدد الهويات داخل المجتمع السوري. في مثل هذا المناخ، يتحول الحوار الوطني إلى ممارسة سلطوية لا تختلف كثيراً عن أدوات الإقصاء التقليدية التي مورست عبر التاريخ. كما أن اللجنة الوطنية للحوار تتماهى سيكولوجياً مع الدولة التركية في التزلف والقهر وعقدة التبعية والولاء، ما يجعلها أداة لإعادة إنتاج أنماط السيطرة بدلاً من أن تكون مساحة للتحرر والتغيير الحقيقي. لا يختلف هذا النمط من «الحوار» كثيراً عن آليات السيطرة التي مارستها الأنظمة الشمولية عبر التاريخ، حيث يتم الترويج لصورة زائفة عن التعددية، في حين يتم التحكم في الخطاب داخل دوائر مغلقة من السلطة الإيديولوجية. وحينما يُطرح السؤال حول الهوية الوطنية، لا يكون المقصود بناء مفهوم مشترك قائم على التفاعل الحر بين المكونات السورية المختلفة، بل فرض نموذج معياري يُملي على الجميع كيف يفكرون وكيف يُعيدون تعريف أنفسهم داخل المنظومة القيمية التي يفرضها المنتصر في الصراع الأيديولوجي (من يحرر يقرر).
إن إعادة إنتاج الإقصاء تحت شعار الحوار هو أخطر أشكال الاستبداد لأنه يمنح السلطة القدرة على إعادة إنتاج نفسها دون الحاجة إلى القمع المباشر. وهذا ما يجعل أي مشروع للحوار الوطني محكوماً بالفشل ما لم يكن قائماً على تفكيك هذه البنى السلطوية واستعادة حق الجماعات المختلفة في إنتاج خطابها المستقل دون الحاجة إلى اجتياز محاكم التفتيش الفكرية التي يحاول الإسلام السياسي فرضها كمدخل لأي مشاركة سياسية. في النهاية، ليس السؤال الجوهري من يُسمح له بالكلام، بل من يُمنح الحق في أن يُسمع. ما يجري اليوم ليس حواراً، بل إعادة صياغة للصمت حيث لا يُسمع إلا الصوت الذي يتوافق مع النموذج المطلوب، بينما يتم دفن كل الأصوات الأخرى تحت ركام الإقصاء.

 

المصدر: المركز الكردي للدراسات

شارك هذه المقالة على المنصات التالية