الثلاثاء, يناير 14, 2025

لمحة عن التاريخ الحديث لمدينة سري كانيه عروس الجزيرة -2-

عبد العزيز محمد أيو

لقد كانت سري كانيه، بعيونها المتدفّقة وبساتينها الحالمة، لوحةً منسوجةً من الجمال والذكريات، كلّ زاوية فيها تحمل بين طياتها حكاية، وكل نبع ينبض بروح المكان وعراقة تاريخه.

قطار الشرق السريع

 خط قطار الشرق السريع الذي يمر بشمال مدينة سري كانيه على الحدود التركية له مكانة خاصة في ذاكرة أبناء المنطقة. صوت صفيره وحركته يختزلان ذكريات وحكايات لا تُنسى. يُعتبر هذا القطار جزءاً من تاريخ سري كانيه، حيث عاش السكان المحليّون لحظات مليئة بالمشاعر على مر الزمن، سواء في انتظار وصول أحبائهم، أو في استرجاع قصص قديمة مرتبطة بهذا القطار الذي شكل جزءاً من الحياة اليومية لسنوات عديدة. وقد ربط سري كانيه منذ الثلاثينات من القرن الماضي بمدينة حلب. أما المحطة نفسها فقد أُنشئت عام 1940.

الحياة السياسية

 كان لكلّ الأحزاب السياسية السورية وجود في سري كانيه: الحزب الشيوعي السوري، الحزب القومي السوري الاجتماعي، الاتحاد الاشتراكي، حزب البعث العربي الاشتراكي قبل انقلاب 1963، جماعة الإخوان المسلمين، والحزب الديمقراطي الكردستاني في سوريا، وهو أول حزب سياسي كردي في سوريا وأصبح له تواجد في سري كانيه سريعاً بعد تأسيسه عام 1957م، ثم بقية الأحزاب التي ظهرت بعد ذلك.

مثّل سري كانيه في البرلمان السوري خليل بك إبراهيم باشا الملّلي منذ تأسيسه إلى عام 1950، وكان واحداً من أعضاء اللجنة الدستورية لكتابة أول دستور لسوريا ونال وسام أُميّة، الذي لا يُمنح إلا لمن قدّم خدمات كبيرة لسوريا. وبعده كان ابن أخيه محمد إسماعيل إبراهيم باشا المللي عضواً في البرلمان السوري من عام 1950 إلى عام 1954، وبعده كان ابن أخيه خليل محمود إبراهيم باشا المللي (خليل معمو) الذي عُرف بجوده وكرمه وخدماته التي كان يقدمها لكل من لجأ له. ودخل البرلمان السوري أيضًا كل من عبد الكريم أَخْتا-الشيشاني الأصل-. وعبد العزيز حسن بك أحد أعضاء اللجنة الدستورية في الأربعينات من القرن الماضي وكان أول نقيب للمحامين في الحسكة وأصبح وزيراً للعدل.

الحياة الثقافية والفنية

 في ستينات القرن الماضي، شهدت منطقة سري كانيه نهضةً ثقافيّة وفنيّة ورياضيّة تجلّت في ازدهار المسرح والفنون المختلفة. كان هذا العصر، بحق، عصر الإبداع المسرحي والفني الذي برزت فيه العديد من الأسماء المضيئة التي أسهمت في بناء هذا المشهد الثقافي.

في طليعة هؤلاء المبدعين، يبرز اسم المسرحي محمد نابلو (أبو علي)، الذي كان رائداً في مجال المسرح، مقدماً العديد من الأعمال المتميزة التي حظيت بإعجاب الجمهور، وكان من أبرزها مسرحية “براويز”. بعده، جاء جيل جديد من الفنانين والشغوفين بالمسرح، أمثال إبراهيم دوشي وأنطون كرمو، اللذين واصلا حمل شعلة الفن، برفقة مجموعة من شباب المدينة الموهوبين، ليكملوا مسيرة أبي علي ويساهموا في إثراء الحياة الثقافية في سري كانيه.

وقُدّمت الكثير من الأعمال المسرحية على مسارح أعياد النوروز من الأحزاب الكردية، وبرز الفنان المسرحي محمد عرب.

لم يكن المسرح وحده هو المزدهر في هذه الفترة، بل كانت الموسيقا أيضاً حاضرة بقوة. فقد تشكلت فرقة موسيقية متميزة ضمت الفنان ناجي الرهاوي، والمبدع عبد اللطيف مزعل، وضمَّت أيضاً ظافر ديبو. كما برع العازف ناجي الرهاوي، بشكل خاص، في العزف على آلة العود، ليضع بصمته الفنية الفريدة ويثري المشهد الموسيقي في المدينة.

آل الرهاوي هي عائلة معروفة في منطقة سري كانيه، وكان لها تأثير كبير على الحياة الفنية هناك. يعود هذا التأثير إلى تعدد المواهب الفنية في هذه العائلة التي ساهمت في إغناء المشهد الثقافي والفني للمنطقة. شملت هذه المواهب مجالات مثل الموسيقا، الرسم، المسرح، مما جعل من العائلة رمزاً للإبداع والتميز في المنطقة.

وقد لعب الشاعر والأديب الكردي المعروف يوسف برازي (1931-2009) م ، الملقب بـ (بي بهار Bêbuhar)، دوراً ملحوظاً في سري كانيه بنضاله القومي، حيث كان من أوائل المنضمين لأول حزب كردي في سوريا وبدوره الأدبي واهتمامه باللغة الكردية، وقد اعتقل بسبب ذلك من السلطات، مع مجموعة من النشطاء في العام 1966.

أنجبت المدينة أيضاً العديد من الفنانين والمطربين الذين شقّوا طريقهم إلى الشهرة. كان من بينهم المطرب نواف مزعل، الذي اكتسب شهرة واسعة في دمشق، قبل أن ينتقل إلى بريطانيا ليواصل مسيرته الفنية. وكذلك الفنانان الشقيقان محمود عزيز ومحمد علي شاكر، اللذان قدّما العديد من الأغاني والألحان الكردية التي نالت إعجاب الجمهور على مستوى كبير جداً تجاوز حدود سوريا، وخصوصاً الفنان محمود عزيز، الذي تميز بمشاركته من خلال فرقة “سركفتن” في تقديم الأغاني على مسرحي سينما “ريفولي” و”الجندول” في بيروت خلال السبعينات، بحضور نخبة من الفنانين والشخصيات السياسية البارزة، وعلى رأسهم رئيس مجلس الوزراء اللبناني آنذاك، صائب سلام. كما قدم مع الفرقة المذكورة حفلاً فنياً في الأردن بناءً على طلب من جمعية صلاح الدين في الأردن. وكان له حضور مميز في الإذاعة الكردية ببغداد، حيث سجل العديد من الأغاني التي لا تزال محفورة في الذاكرة.

وبرز أيضاً كل من الفنانين أوميد سليمان وخضر سليمان وروني جان (محمد حسو) وحمي أبو زيد ومصطفى خالد وجوهر أوسو. وكان لعائلة كيكي دور في المشهد الموسيقي والثقافي المحلي من خلال الفنانين صلاح وسعيد ومحمد أمين كيكي، حيث تعاونوا في العزف على الآلات الموسيقية والغناء وتنظيم الأنشطة الفنية. هذا يعكس دور العائلة في الحفاظ على التراث الموسيقي وتقديمه للأجيال القادمة في المنطقة. وبرز أيضاً المطرب محمود عبوش الذي كانت هوايته الغناء منذ صغره، والفنان عمر سليمان الذي وصلت شهرته إلى كل مكان. هكذا كانت سري كانيه في تلك الفترة منارة للفن والموسيقا، حاضنة للإبداع، وموئلاً للمواهب التي أثرَت الساحة الفنية والثقافية بأعمال خالدة تردد صداها في أرجاء المنطقة، وظلّت شاهدة على عصر ذهبي من تاريخ المدينة.

الرياضة

 شهدت الرياضة نشاطاً ملحوظاً، لا سيما في كرة القدم. تم تشكيل العديد من الفرق والأندية الأهلية، منها هومنتمن، فريق السوري، فريق الخابور، فريق الجزيرة، وفريق صلاح الدين. ونشطت فرق كرة الطائرة والسلة وبرز في هذه الألعاب أسماء لاعبين كبار.

ومع ذلك، كانت الرياضات التي حازت على شهرة أوسع في المدينة تشمل رياضة كمال الأجسام، المصارعة، وحمل الأثقال، حيث برز العديد من الرياضيين في هذه المجالات، ما أكسب المدينة مكانة مرموقة في عالم الرياضة المحليّة. ومن أبرز هؤلاء الرياضيين البطل نوري أيوب المللي، الذي فاز عدة مرات ببطولة الجمهورية في كمال الأجسام لفئة الطويلة لأعوام 1958 و1960 و1961 و1963 و1965، ورُشّح لبطولة العالم لعام 1966، إلا أن ظروفه لم تسمح له بالسفر. وكان راعياً ومدرّباً لهذه الألعاب وهو حكم دولي مجاز. كما كان لبقية الألعاب الرياضية دور وحقق اللاعبون مراكز متقدمة في المسابقات مثل الكاراتيه والجودو وكرة الطاولة والجري وسباق الدراجات.

من الثورة إلى الاحتلال التركي

 مع اندلاع الثورة السورية، شارك أهالي سري كانيه بفعالية في المظاهرات السلمية، لكن سرعان ما تحولت المدينة إلى ساحة للصراع المسلح. في 18 تشرين الثاني 2012، دخلت المجاميع المسلحة، مثل “غرباء الشام” و”كتائب الفاروق” و”جبهة النصرة” إلى سري كانيه، ما أدى إلى انقسام المدينة إلى قسمين: القسم الغربي تحت سيطرة تلك المجموعات، والقسم الشرقي تحت سيطرة وحدات حماية الشعب. بعد اشتباكات عنيفة، تمكّنت وحدات حماية الشعب من تحرير المدينة بالكامل.

في التاسع من تشرين الاول 2019، شنّ جيش المحتل التركي، بمساندة المجموعات المرتزقة التابعة لها، هجمات احتلالية أُطلق عليها “نبع السلام”، تحت ذريعة حماية أمنها القومي، مما أدى إلى تهجير معظم سكان سري كانيه نحو مدن الحسكة، قامشلو، الدرباسية، وعامودا، حيث أنشئت لهم مخيمات إيواء، مثل مخيم “سري كانيه” و”واشو كاني”.

اليوم، يعيش الآلاف من المهجرين في ظروف صعبة للغاية، وسط قلة التجهيزات واللوازم المدرسية، وتدني الخدمات الأساسية، وارتفاع تكاليف المعيشة.

تعيش المدينة اليوم واقعاً مريراً تحت سيطرة جيش الاحتلال التركي ومرتزقته، مما يعرف بـ “الجيش الوطني السوري” مثل “الحمزات” و”السلطان مراد”، الذين فرضوا سطوتهم على المدينة وأهلها. يُعد التنقل من وإلى سري كانيه أمراً في غاية الصعوبة والخطورة، وتتعرض كل محاولة للعودة من قبل الأهالي للتحقيقات والاعتقالات التعسفية. تم إسكان الوافدين من إدلب ومناطق أخرى في منازل السكان الأصليين بعد الاستيلاء عليها، ما أدى إلى تغيير ديموغرافي كبير، وأصبحت المدينة مقراً لصراعات المجموعات المرتزقة على النفوذ والغنائم.

في ظل هذه الأوضاع، بات من الضروري العمل على تنظيم تحركات دولية ومحلية لتسليط الضوء على معاناة أهالي سري كانيه من خلال:

ـ تنظيم اعتصامات سلمية أمام سفارات الدول المعنية للضغط على تركيا لإنهاء احتلالها.

ـ تقديم الدعم الإنساني والإغاثي للمهجرين، سواء داخل المخيمات أو في أماكن تهجيرهم الأخرى.

ـ مطالبة المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية بتحمل مسؤولياتها وإطلاق سراح المعتقلين والمختطفين، وضمان عودة المهجرين إلى منازلهم.

ـ توثيق الانتهاكات الجارية في المناطق المحتلة، والتواصل المستمر مع المنظمات الدولية.

ـ تنظيم ندوات ومحاضرات لشرح معاناة المهجرين ونشرها إعلامياً بشكل دوري.

إن ما يعانيه أهالي سري كانيه من تهجير قسري، وتشرّد وفقدان ممتلكاتهم، يتطلب جهوداً حثيثة من المجتمع الدولي وأبناء المدينة في الشتات، لتبني قضاياهم والعمل على إنهاء معاناتهم التي امتدت على مدار سنوات دون حل.

​المصدر| صحيفة روناهي

 

شارك هذه المقالة على المنصات التالية