لمحة عن تاريخ سري كانيه Serê kaniyê / رأس العين
علي شيخو برازي – كاتب وباحث
مجلة الحوار – العدد /83/ – السنة 31 – 2024م
سري كانيه Serê kaniyê / رأس العين عاصمة الميتانيين (وآششوكاني)، تعود الحضارة في هذه المنطقة إلى 7000 عام قبل الميلاد، احتلّها الملك الآشوري أدد نيراري الأول 1305 – 1274ق. م. وتعد سري كانيه من المدن الهامة والرئيسة في الجزيرة الفراتية، وهي حاضرة وادي الخابور تاريخياً، كانت الحد الفاصل بين الروم والفرس قبل الإسلام، وكانت بيد الإمبراطورية الساسانية في بداية القرن السابع الميلادي، تميّزت بسورها وأبراجها الرومانية قبل الغزو الإسلامي العربي لها. لم يستطع الجيش الإسلامي الدخول إليها إلا بعد سنة، لصمود أهلها ومناعة حصنها، وكانت سري كانيه من أهم محطات القوافل على طريق الحرير بين الموصل وأورفا وحلب والاسكندرونة حتى نهاية العهد العثماني، عرفت بكثرة ينابيعها وخصوبة تربتها، وكانت ينابيعها تعدّ من أهم روافد نهر الخابور*.
حملت أسماء كثيرة منها: رزان تودويوبوليس – رش عينا – عين الوردة – سري كانيه – رأس العين … قال عياش: “اسمها بالسريانية :(رش عينا) وكانت تسمى في العهد الروماني: (رزان تودويوبوليس، ورزان تعني: الرأس أو العنب، والتركيب الآخر نسبة إلى الإمبراطور ثيودوس الأول أو ثيودوس الثاني”. (عياش، 1984، ص336).
في عهد الدولة العباسية كانت من أهم محطات القوافل على طريق بغداد – الرقة، وكانت تحت حكم المروانيين الكورد خلال القرن الحادي عشر الميلادي، إلى أن احتلّ السلاجقة الجزيرة الفراتية، ثم كانت في حكم الزنكيين حتى قيام الدولة الأيوبية التي سيطرت على بلاد الجزيرة بالكامل.
دمّرت المنطقة دماراً شاملاً أثناء الغزو المغولي للجزيرة الفراتية، وبقيت شبه خالية حتى العهد العثماني، فكان سهل ماردين من الجزيرة الفراتية مرعى لأغنام العشائر الكوردية الكبيرة مثل المللية والكيكية، باستثناء سهل نصيبين وخاصة منطقة چل آغا وما حولها امتداداً لشنگال (سنجار)، التي كانت شبه مستقرة منذ القرن الثامن عشر.
من بين الشعوب الذين سكنوا الجزيرة الفراتية وسوريا منذ العصور التاريخية القديمة، وعاشوا على هذه الأرض حتى الآن هو الشعب الكوردي، فقد تبلورت سمات الهوريين والميتانيين والسوباريين في المنطقة منذ الألف الثانية قبل الميلاد، وهم من شعوب جبال زاغروس القديمة، وهم أسلاف الشعب الكوردي، وفي هذه الجزئية أميل إلى رأي مينورسكي: “إن من المحتمل جداً أن يكون الشعب الكوردي قد هاجر في الأصل من الشرق (شرقي إيران) إلى الغرب (كوردستان الحالية) واستوطن به منذ فجر التاريخ – وهذا لا يمنع أنه كان قبل قدوم هذا الشعب المهاجر، هناك في كوردستان الأوسط، قوم أو أقوام مختلطة تعيش تحت أي اسم مشابه لاسم ذلك الشعب الوافد، ك (كاردو) مثلاً فاختلط الشعب الوافد بذلك القوم، أو بتلك الأقوام المحليّة واندمج فيها اندماجاً كليّاً، وصاروا جميعهم أمة واحدة على مدى الأيام والظروف.” ويضيف المؤرخ الكوردي محمد أمين زكي: “أن نظرية القول بتمثيل الشعب الكوردي لجميع الشعوب المختلفة القديمة بكوردستان، نظرية قوية جداً.” (زكي، 2005، ص 100).
كان إقليم الجزيرة الفراتية قبل الإسلام مقسماً بين الروم البيزنطيين والساسانيين، وقد أشار إلى هذا التقسيم أبي يوسف يعقوب المتوفى سنة 182 هـ 798 م، في كتابه الخراج: “إن الجزيرة كانت قبل الإسلام، طائفة منها للروم، وطائفة لفارس، ولكل فيها في يديه منهما جند وعمال، فكانت رأس العين فما دونها إلى الفرات للروم، ونصيبين وما وراءها إلى دجلة لفارس، وكان سهل ماردين ودارا إلى سنجار وإلى البريّة لفارس، وكل جبل ماردين ودارا وطور عبدين للروم.” (اليعقوبي، 1979، ص39)
احتلّ العرب المسلمون الجزيرة الفراتية العليا أيام خلافة عمر بن خطاب، على يد عياض بن غنم عام 639 م. ومن ثم على يد عمير بن سعد الأنصاري، وكانت رأس العين (عين وردة) أشدّ مقاومة ضد جيش عياض بن غنم كما أسلفنا، وقد فشل عياض في احتلال مدينة رأس العين وقتلَ مجموعة من جيشه فتركها، ومات عيّاض في سنة 20 هجرية، فاحتلها عمير بن سعد الأنصاري بعد قتال شديد.
قال البلاذري: “حدثني محمد عن الواقدي عن عبد الرحمن بن مسلمة عن فرات بن سلمان عن ثابت بن الحجاج قال: “فتح عياض الرقة وحرّان والرها ونصيبين وميافارقين وقرقيسيا وقرى الفرات ومدنها صلحاً وأرضها عنوة”. (البلاذري، 1900، ص183) وهنا يفهم من كلام البلاذري أنّ مقاومة أهل القرى كانت أشد من مقاومة أهل المدن، ويقول أن المدن فتحت صلحاً، بينما نرى في تفاصيل هذا (الفتح) مقاومة شديدة ضد المسلمين، فمقاومة أهل مدينة رأس العين، ونقض أهل الرها للصلح بعد حادثة سميساط خير دليل على ذلك، حيث احتلّها المسلمون بعد مجزرة عظيمة بحق أهل رأس العين: “وأبواب السماء قد انفتحت، والأجسام قد جرحت، والروم مع نسائهم قد افتضحت، البطارقة قد ذبحت، ودلائل الحق قد اتضحت، والقتل يعمل في رأس العين” ( الواقدي، 1996، دون، ص 154) ويقول الواقدي207 هـ 823 م، في موضع آخر “ولم يأخذ من ديار بكر بالسيف إلا رأس العين” ( الواقدي، دون، ص 187). وكانت القبائل العربية من أشد الرافضين لدين الإسلام في الجزيرة الفراتية: “كان مع الروم كثير من العرب المتنصّرة عند حصار رأس العين، وكانوا بقيادة بني تغلب التي تعد منطقة عانات والحصون المجاورة لها، من شق الفرات الشامي من أهم مراكزهم. وبعد أن حقق المسلمون الانتصارات داخل الجزيرة أجابوا عيّاض بن غنم للمصالحة “. (الشريف، 2007، ص 36)
عدّ المقدسي رأس العين من مدن ديار ربيعة: “وأما ديار ربيعة فقصبتها الموصل ومن مدنها: الحديثة، معلثاى، الحسنيّة، تلّعفر، سنجار، الجبال، بَلَد، أذرَمَة، برقعيد، نصيبين، دارا، كفرتوثا، راس العين، ثمانين، وأما ناحيتها فجزيرة ابن عمر ومدنها: فيشابور، باعيناثا، المغيثة، الزّوزان”. (المقدسي, 1991, ص 137)
في عهد الدولة الدوستكية الكوردية
كانت رأس العين من ضمن أراضي الدولة الدوستكية الكوردية، وهذا ما جعل الملك البيزنطي يحمّل مسؤولية الغارات التي كان يقوم بها أصفر التغلبي على الدولة الدوستكية. يقول الكاتب الكوردي عبد الرقيب يوسف: “حمّل الملك البيزنطي الملك الدوستكي نصر الدولة، مسؤولية قيام أصفر التغلبي بالإغارة على بلاده عام 1048م، وكان أصفر من رأس العين عند معظم المؤرخين، فهذا يشير إلى أن رأس العين الواقعة الآن في منطقة الجزيرة من كوردستان سوريا، كانت تحت السيطرة الدوستكية.” (يوسف، دون ، ص32) كانت السلاجقة تطمع دائما في الاستيلاء على الدولة الدوسكتية الكوردية، وقد شجعهم ابن جهير على ذلك، فجهز السلطان السلجوقي ملكشاه جيشاً وأرسله مع ابن جهير إلى الأراضي الدوستكية، ودارت معارك كبير بين الجيش السلجوقي والجيش الدوستكي، وانتصر السلاجقة في النهاية: “فدخلت كردستان الوسطى وبلاد الجزيرة الفراتية وشمال سورية، تحت الحكم السلجوقي المباشر، وأقطع السلطان محمد ابن شرف الدولة بعض مدن الجزيرة :الرحبة وأعمالها، وحران، وسروج، والرقة، والخابور” (طقوش، 2015 ، ص86) وعند وفاة السلطان السلجوقي ملكشاه عام 1092م، استعد ناصر الدولة منصور الدوستكي دولته: “فتوجّه إلى كردستان واستعاد أولا مدينة الجزيرة واتخذها قاعدة لاتصالاته بالأكراد في المدن والمناطق التي كانت داخلة في إطار إمارته، ثم استعاد العاصمة ميافارقين عام 1093م (طقوش، 2015، ص87). لكن سرعات ما أعاد السلاجقة سيطرتهم على الدولة الدوستكية، لتنتهي بعد حكم دام 111 عاماً. ووقعت الجزيرة الفراتية بعد ذلك تحت حكم السلاجقة، ثم خضعت لحكم عماد الدين الزنكي حين عيّنته السلاجقة حاكماً على الموصل والجزيرة عام 1127م، وكانت رأس العين من المناطق التي طالها الغزو الفرنجي الصليبي، في أواخر النصف الأول من القرن الثاني عشر. قال ابن العبري: “وصلت جيوش الفرنج إلى آمد، ونصيبين، ورأس العين.” (ابن العبري، 1991، ص 143)
في عهد الدولة الأيوبية
خير من وصف راس العين/ سري كانيه Serê kaniyê في العهد الأيوبي الرحالة الأندلسي ابن جبير: “رأس العين هذا الاسم لها من أصدق الصفات”، حيث وصف أرضها وينابيعها وصفاً جميلاً، وقال أن أعظم هذه العيون عينان، إحداهما فوق الأخرى، فوصف كل ما فيها من: عمار وينابيع وجوامع وحمامات وخاگاهات وأشجار وبساتين، حيث يقول: “وشأن هذا الموضع كله عجيب جداً: فغاية حُسن القرى بشرقيّ الأندلس أن يكون لها مثيل هذا الموضع جمالاً أو تتحلى بمثل هذه العيون.” (ابن جبير، دون، ص 218) وقال ابن شداد عن رأس العين: “هي مدينة بمستو من الأرض أكبر من دارا، بها سور يشتمل على طواحين ومزارع وبساتين، وبها أكثر من ثلاثمائة عين جارية صافي، منها ما لا يعرف لها قرار”. (ابن شداد، 1978، ص 145) في عام 1182 م استولى صلاح الدين على حلب والجزيرة الفراتية بعد وفاة نو الدين الزنكي، وعين عماد الدين على مدن الجزيرة: “سنجار، الخابور، نصيبين، وسروج.” (طقوش، 2015، ص 75). في عام 1229م يقول البدليسي عندما جاء الملك الكامل من مصر لأخذ دمشق من صاحبها: “استقر الأمر بين الملك الناصر داود والملك الأشرف، على أن يكتفي الملك الناصر بحكومة الشوبك، ونابلس، والكرك، وأن يجلس الملك الأشرف على عرش دمشق، ويتنازل عن حران، والرها، والرقة ورأس العين، للملك الكامل.” (البدليسي، 2006، ص 110)
وبقيت الجزيرة الفراتية جزء من الدولة الأيوبية ومرتبطة بشكل مباشر بحكام حلب، حتى الغزو المغولي، فخلال عامي 641هـ/1242م و642هـ/1244م، تحرك جيش المغول إلى إقليم الجزيرة، إلا أن وصل إلى ماردين (ابن العبري، 1991، ص 289)
في العهد المغولي
استولى المغول على الجزيرة الفراتي بقيادة هولاكو عام 1259، وكان نهر الفرات الحد الفاصل بين المماليك والمغول: “اجتاحت جيوش المغول بلاد خوارزم، في الوقت الذي كان ملوك الجزيرة منشغلين في نزاعاتهم الداخلية، وتطاحنهم السياسي لتحقيق مكاسب إقليمية” (قداوي، 2015، ص59 )، وبعد استيلاء تيمورلنك على بغداد عام 1393م، تعرضت القرى والمدن الكوردية للسب والنهب على يد ابنه ميران شاه، مما دفع الكثير من العشائر الكوردية إلى الهجرة نحو بلاد الشام، وتراجع قسم من القبائل الكوردية نحو المناطق الجبلية، وبعد الحكم التيموري باتت المنطقة شبه خالية من السكان، إلى أن سيطر الشاه إسماعيل الصفوي على بلاد الجزيرة في بداية القرن السادس عشر، وبعد صراع غير طويل مع العثمانيين انتصر السلطان العثماني سليم الأول على الشاه إسماعيل الصفوي عام 1516 في معركة قوچ حصار (قزل تبه) وأصبحت الجزيرة الفراتية تحت حكم العثمانيين.
في العهد العثماني
في عام 1534 كانت الدولة العثمانية قد سيطرت بشكل كامل على الجزيرة الفراتية، حيث كانت المنطقة خالية من العمران إلا ما ندر، نتيجة ما تعرّضت لها من دمار على يد المغول. وذكر كارستن نيبور مدينة رأس العين في القرن السابع عشر خلال رحلته من ماردين إلى ديار بكر: “رأس العين تقع على بعد 12 أو 14 فرسخاً إلى الجنوب الغربي من ماردين، وعلى نبع الخابور، وهي مدينة مهدّمة كلياً.” (نيبور، 2012، ص 300)
عن وجود القبائل العربية شمال دير الزور، وعلى الضفة اليسرى لنهر الفرات تتحدث الليدي آن بلنت في رحلتها في بداية عام 1878م، كانت قبيلة البقارة تسكن في وادي الفرات، حين شنت الشمر عليها غارة كبيرة ونهبتها: “في الحادي والعشرين من كانون الثاني طرأ تعقيد جديد على موافقتنا في الدير، جعلتني أشك بنوايا الباشا، مقتنعة أنه يخطط لإعادتنا إلى حلب من جديد. ففي هذا الصباح جاء رجل ليخبر الباشا أن عصبة من شمر أغارت على قبيلة البقارة الرعوية الصغيرة على الفرات، التي تقيم قبالة الدير في الضفة اليسرى من نهر الفرات، وساق الغزاة ثمانين فرسا وخمسة آلاف شاة.” (بلينت، 1991، ص 116) وهذه الغارات لم تكن ضد القبائل العربية المستقرّة وحدها، بل طالت القبائل الكوردية أيضاً، مما سببت هجرة جماعية للقبائل الكوردية من ديارهم مرّة أخرى. “وتتابع مجيء العشائر العربية البدوية من الجزيرة العربية إلى الجزيرة الفراتية ذات المراعي الخصبة لأغنامها، استوطنت براري الخابور، وكانت حرباً على ما تبقى من عمران وادي الخابور الذي ظل قفراً حتى الفترة الأخيرة من العهد العثماني” (العياش، 1989، ص 186)
أما القبائل الكوردية فكانت تعيش شمال وادي الفرات، في سهول نصيبين وماردين وويران شهر امتداداً إلى سري كانيه (رأس العين)، وهذه السهول امتداد طبيعي لمناطق سكنهم التاريخي.
وهذه شهادة مارك سايكس حول وجود العشائر الكيكية: “الآغا الرئيس للكيكية هو: عبد الرحمن، وهو رجل يجيد القراءة. وقد قام بقدر من العمل لغرض تحديد مواقع المدن القديمة على ضفاف نهر الخابور. لقد قرأ عدداً محدداً من كتب التاريخ، ويقول بأن الكيكية هم إحدى آخر بقايا السكان المستقرين في الجزيرة الفراتية، وبأنهم قد أُبعدوا شمالاً من قبل قبيلة شمر، وأنهم يأتون جنوباً فقط لغرض إظهار حقوقهم في الاستقرار، في حال إعادة إقامة أخرى للزراعة في الشطر الشمالي من الجزيرة.” (سايكس، 2007، ص 79) و “كانت قبيلة الجبور تعيش على نهر دجلة قرب الموصل، والسبخة على نهر الفرات، والبقارة على نهر الفرات قبالة دير الزور.” (بلينت، 1991، ص 418)
أما من الناحية الإدارية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تخبرنا سالنامه ولاية ديار بكر عن تفاصيل شؤون قضاء رأس العين الإدارية، حيث كانت تتبع لقضاء رأس العين، العشائر والنواحي التالية: دقوري، كيكي خلجان، كيكي جركان، مللي، ديريك، ويرانشهر.
الصفحة 80، من سالنامه ولاية ديار بكر الدفعة الأولى عام 1870 م
ترجمة الوثيقة:
قضاء رأس العين
1 – مأمور الملكية والشرعية: القائم مقام دكاب قپوجي* (باشيلرندن) يعقوب بك.
2 – كاتب ومحرر المالية: مدير المالية مصطفى أفندي.
3 – كاتب التحرير: سليمان.
4 – أعضاء إدارة مجلس القضاء: علي بك، جان تيمور أفندي، پاصيفو أفندي.
5 – ميزان مجلس الدعاوي: جان تيمور آغا، جاوبد بك، صقللو أغا
6 – ملحق النواحي: دقوري، كيكي خلجان، كيكي جركان، مللي، ويرانشهر، ديريك
7 – المدراء: جمال أفندي، قپوجي باشي محمود آغا، شيخموس آغا، أيوب آغا، محمد آغا، حسين آغا.
8 – الكتاب المعيّن: أفندي حسين أفندي.
خلال رحلة أوبنهايم في الجزيرة الفراتية يؤكد وجود القرى الكوردية في سهول ماردين ونصيبين بقوله: “صحيح أنه لم يكن هناك مستوطنات كبيرة، في هذه المسافة من بلاد الرافدين، باستثناء نصيبين، وأنه وجدت قرى صغيرة جدا، استوطنها الأكراد وبدو رحل سابقون، غير أن المنطقة بأسرها مغطاة بتلال – هضاب – خرائب – دلت على أنها عرفت كثافة سكانية هائلة في الماضي.” ويذكر الصراعات القبلية في منطقة Serê kaniyê (رأس العين) بين القبائل العربية من جهة والعربية الكوردية من جهة أخرى فيقول: “كانت رأس العين ومنطقة حفرياتي* منطقة اضطرابات مزمنة في القسم الأعلى من بلاد ما بين النهرين، حيث تصادمت مناطق قوة وانتشار مجموعة قبائل كبيرة كالفدعان، عنزة، شمر، والمللي.” (أوبنهايم, 2004, ص 59)
في بداية القرن العشرين: “توجه سايكس من منطقة البليخ باتجاه الشرق وبعد مسيرة دامت سبع ساعات وصل إلى مضارب قبيلة العدوان. وهنا يزوّدنا سايكس بمعلومات هامة عن طبيعة السكان في الجزيرة، حيث يقول: “أن موقف عشيرة العدوان يعطينا نظرة ثاقبة عن التاريخ السياسي للمنطقة، هذه العشيرة هم في الأصل فرع من العنزة وقد هاجرو إلى الجزيرة من محيط تدمر بعد غزو قبيلة الشمر وذلك بنهاية القرن الماضي. منذ ذلك الوقت ابتعدت عشيرة العدوان تدريجياً عن وسطها العربي وارتبطت مع القبائل الكردية وبسبب المصاهرات مع الكرد أصبحوا كرداً تقريباً. يُدعى شيخهم محمود آغا ويتحدث العربية بصعوبة، وخلال حديثه عن سلوك الشيخ الذي يصفه سايكس بغير اللائق، يصفه سايكس بالآغا الكردي.
ويشير سايكس إلى الأمان الذي كان يتمتع به التجار خلال تحركهم ضمن مناطق قبيلة الملية، وبشكل خاص التجار الأرمن إذ يقول: “اليوم الثاني من الرحلة كان مشابهاً لليوم الأول حيث أننا في وضع جيد وآمن وصادفنا قوافل التجار الصغيرة التي تتاجر بين مختلف قبائل الاتحاد الملّي، وقد ساهم في تلك التجارة بعض تجار القرى الأرمنية حول ويران شهر، الذين كانوا يشعرون بأمان كبير ويتم معاملتهم بلطف واحترام في منطقة الملّان، في حين أنهم كانوا عرضة للسرقة في مناطق الحدود الجنوبية من قبل العنزة والشمر.) (درويش، مجلة الحوار، 2020، ص76)
الخلاصة:
تعايش الكورد في هذه الإقليم عبر التاريخ مع شعوب أخرى مثل: الآشوريين – الروم – الكورد – السريان – العرب – التركمان وغيرهم. وغالبة سكانه اليوم هم من الكورد، وقد ذكر وجودهم الكثير من المصادر التاريخية، من البلدانيين العرب والمستشرقين، والوثائق العثمانية.
قاوم أهل سري كانيه (رأس العين) وقراها أشد مقاومة ضد الغزو الإسلامي العربي، ولم تفتح المدينة إلا بعد خسارة كبيرة لحقت بالجيش العربي الإسلامي، وأدى ذلك إلى انتقام المسلمين من أهل المدينة وارتكاب مجازر عظيمة بحق الأهالي.
أدى الغرو العربي الإسلامي للمنطقة إلى إحداث تغيير جذري في معالم المنطقة، من إنهاء صراع الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية شرق البحر المتوسط والجزيرة الفراتية، وتغيّرت البنية الاجتماعية والسكانية والمعتقدات الدينية، وشمل هذا التغيير المنطقة الكوردية في الجزيرة الفراتية.
بعد استيلاء تيمورلنك على الجزيرة الفراتية، تعرضت المنطقة بأسرها للسب والنهب، مما دفع الكثير من العشائر الكوردية إلى الهجرة نحو بلاد الشام، ولتراجع قسم من القبائل الكوردية نحو المناطق الجبلية، باتت المناطق السهلية شبه خالية من السكان حتى العهد العثماني.
لعبت العشائر البدوية العربية دوراً تخريبياً في الجزيرة الفراتية، حيث انعدم الأمن والأمان جراء غزواتهم على سكان المنطقة من كورد وعرب، حتى سيطر الاتحاد الملّي، وأعاد الأمن للمنطقة وأبعدهم من سهل ماردين وسهل رأس العين.
————————
الهوامش:
* – ركاب قپوجي باشيلرندان يعني: القائم على سفارة الركاب.
* – قپوجي هو السفير الرسمي للسلطان العثماني، الذي أسمته الدولة العثمانية للبولنديين في مولدوفا في العصور الوسطى. وكان من المقرر أن يتم استدعاء مهمته وواجباته مرة أخرى بسلطة غير محدودة فيما يتعلق بالمضيف (في بعض الحالات، يشمل ذلك إعدامات سريعة واعتقال أسرى).
* – من أسماء العيون والينابيع في رأس العين: عين الزرقاء – عين البانوس – عين الحصان وعين سالوبا
* – يقصد أوبنهايم: حفرياته في تل حلف قرب رأس العين.
——————–
المصادر والمراجع:
1 – زكي, محمد أمين, خلاصة تاريخ كورد وكوردستان, ط2 , العراق- بغداد 2005 .
2 – اليعقوبي, أبي يوسف , الخراج , دار المعرفة, بيروت – لبنان, 1979 .
3 – العياش, عبد القادر, حضارة وادي الفرات, ط 1, دمشق – سوريا, 1989 .
4 – البلاذري, أحمد بن يحي, فتوح البلدان, 1900 , دون مكان الطبع .
5 – الواقدي, محمد بن عمر, فتوح الشام, ج 2, الاسكندرية دون سنة الطبع .
6 – الواقدي, محمد بن عمر, تاريخ فتوح الجزيرة والخابور وديار بكر والعراق, الوقدي, دمشق 1996 دار البشائر.
7 – المقدسي, أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم,القاهرة, ط 3, 1991.
8 – الشريف, حامد محمد الهادي, أحوال غير المسلمين في بلاد الشام, عمان- الأردن,2007 .
9 – يوسف, عبد الرقيب, الدولة الدوستكية,
10 – طقوش, د. محمد سهيل, تاريخ الأكراد 637 – 2015, ط 1, دار النفائس, بيروت – لبنان.
11 – ابن العبری, أبي فرج جلال الدين, تاریخ الزمان، دار المشرق, بيروت – لبنان 1991.
12 – ابن شداد, عزالدين محمد بن علي, الأعلاق الخطيرة,ج 3, دمشق 1978 .
13 – البدليسي, شرفخان, تاريخ الدول والإمارات الكردية, ج1 , دار الزمان, ط 2, دمشق – سوريا . 2006 .
14 – ابن جبير, محمد بن أحمد, رحلة ابن جبير, بيروت – لبنان, دون سنة الطبع .
15 – قداوي, د. علاء محمود, الموصل والجزيرة الفراتية في عهد دولة المغول الايلخانية, عمان – الأردن 2015 .
16 – نيبور, كارستن, رحلة إلى شبه الجزيرة العربية وإلى بلاد أخرى مجاورة لها, ج 2, بيروت – لبنان, 2007 .
17 – بلنت, الليدي آن, قبائل بدو الفرات 1878, دار الملاح, دمشق – سوريا, الطبعة الأولى 1991.
18 – سايكس. مارك , القبائل الكردية في الإمبراطورية العثمانية, دار الزمان , دمشق – سوريا, 2007 .
19 – سالنامه ولاية ديار بكر الدفعة الأولى عام 1870 م .
20 – أوبنهايم , ماكس, البدو , الجزء الأول, , دار الوراق للنشر, المملكة المتحدة, 2004 .
21 – درويش, د. نضال, مجلة الحوار العدد 76, 2020م, الجزيرة الفراتية في مطلع القرن العشرين من خلال كتاب مارك سايكس ميراث الخلفاء الأخير.
22 – سالنامه ولاية ديار بكر الدفعة الأولى عام 1870 , ص 80
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=59310