د. محمود عباس
في لحظة ما، قد تُطلق رصاصة واحدة، لا لتُنهي حياة رجل، بل لتفتح فجوة في نسيج التاريخ، حين تصبح الدماء سياسة، والموت مدخلاً لإعادة برمجة أمة، فإن السؤال لا يكون عمّن سقط، بل، مَن صعد من بين الركام؟ لا تُسفك الدماء فقط، بل تنفتح أبوابٌ غير مرئية لتغيير التاريخ، في لحظة واحدة، كاد العالم يشهد حدثًا كان سيقلب الموازين لا داخل أمريكا فحسب، بل على مستوى النظام العالمي بأسره.
لا نسعى إلى استحضار خيال بوليسي، بل إلى تفكيك الواقع كما هو، من خلال سؤال حاد، ماذا لو نجحت محاولة اغتيال دونالد ترامب؟ ومن كان سيتحكم في الفراغ؟ هل كانت أمريكا ستبقى كما نعرفها، أم كانت لتتحوّل إلى إمبراطورية أكثر نعومة، وأكثر هيمنة؟
حين ارتفعت بندقية توماس ماثيو كروكس، الشاب العشريني، على سطح أحد المباني في بتلر، بنسلفانيا، وأطلق النار من بندقية AR-15 على دونالد ترامب، لم يكن وحده من يخطو في حقل ألغام السياسة الأمريكية، بل كانت يد خفية، غير مرئية، تتابع وتختبر وتُعيد ترتيب الطاولة، كما تفعل دائمًا.
تخيل أن الرصاصة أصابت الهدف، ترامب سقط، في لحظة، ينهار جسد الرجل الذي شغل أمريكا والعالم، وتدخل البلاد دوامة لا تشبه الاغتيالات القديمة، لأن المسألة لم تعد تتعلق برئيس، بل بمنظومة آخذة في التحوّل، هنا، لا تعود الدولة العميقة كما نعرفها، تلك التي تسكن أروقة البنتاغون والـ CIA بل تظهر نسختها الجديدة، الشبكات الرقمية، إمبراطوريات البيانات، الجيوش الناعمة التي لا تطلق رصاصة، بل تعيد برمجة وعي الشعوب عبر شاشة.
في اللحظة التالية لموته، كانت آلة الحزب الجمهوري ستدخل في حالة استنفار، ليس فقط للبحث عن بديل انتخابي، بل لتطويق الأثر العاطفي الذي سيجتاح جمهورًا يرى في الرجل رمزًا للمواجهة مع المؤسسة، بل وللانقلاب عليها، فإن اختيار البديل لم يكن ليخضع فقط لحسابات الكفاءة، بل للقدرة على تجسيد شخصية ترامب في مخيلة القواعد الشعبية، والأرجح أن الحزب كان سيتجه نحو شخصية تملك قدرة تمثيلية رمزية لخطاب ترامب أكثر من امتلاكها وزنًا إداريًا عميقًا، كأن تكون من الجناح الشعبوي أو من التيار الأقرب إلى التيارات القومية المسيحية، التي تُحاكي قاعدته.
لكن المفارقة أن غيابه ما كان ليضعف فرص الجمهوريين، بل قد يعززها، فالرجل، في حياته السياسية، كان مثيرًا للانقسام، وأبعد كثيرًا من المعتدلين، بل حتى من الجمهوريين التقليديين، لكن موته المفاجئ، وخاصة في حادثة اغتيال، كان سيوحّد الحزب حوله كرمز، ويحوّل حملته إلى ما يشبه الحركة العاطفية الوطنية، وقد رأينا في التاريخ الأمريكي كيف تحوّل مارتن لوثر كينغ إلى أيقونة بمجرد لحظة رصاص.
بل ربما كان ليصنع لحظة تحوّل غير مسبوقة، تُعيد تشكيل الخطاب السياسي ضمن حالة وجدانية جارفة، فالتاريخ الأمريكي، كما في حالة لينكولن أو كنيدي، يُظهر أن اغتيال الزعماء غالبًا ما يتحوّل إلى لحظة تعبئة وطنية، تتجاوز الانقسامات وتُلهب المخيلة الشعبية، وبدل أن تنكفئ الحركة الشعبوية مع موت ترامب، كان من الممكن أن تُعاد صياغتها كقوة رمزية، وكأن أمريكا، مرة أخرى، تنهض فوق جثة زعيم، لا لتودّعه، بل لتجسّد مشروعه في هيئة أسطورة قابلة للتوظيف السياسي طويل الأمد، بل قد يعززها.
في هذا الفراغ السياسي، بدأت ملامح معركة غير مرئية تتشكّل، كما لو أن التاريخ ذاته انقسم إلى جناحين يتنازعان على مقود المستقبل، من جهة، الدولة العميقة الكلاسيكية، المتجذّرة في البيروقراطية والجيش والمؤسسات الأمنية، والتي تتنفس بلغة السرية والملفات المغلقة؛ ومن الجهة الأخرى، تجسدت الدولة العميقة العصرية في هيئات لم تُنتخب، لكنها تُراقب وتُصنّف وتُقرّر من خلال الشيفرة والأرقام.
كأننا أمام مشهد درامي يتقاطع فيه الماضي والمستقبل، حيث يهمس جنرال قديم في أروقة البنتاغون بعبارات تعبوية، بينما تبرمج خوارزمية جديدة خارطة التأثير العالمي عبر مركز بيانات في وادي السيليكون، كل طرف يظن أن لحظة الاغتيال تلك ستكون فرصته الذهبية للتمدد، وكأن جسد ترامب كان منصة الإقلاع لعصر جديد، إما أن يُستعاد فيه النظام، أو يُعاد ترميزه، لتتأهب للعودة إلى المشهد، المؤسسات الاستخباراتية، والعسكرية، ودوائر صنع القرار التقليدي، لكن في ظل معركة خفية مع الدولة العميقة العصرية التي تمثّلها شركات التكنولوجيا العابرة للقارات، منصات الذكاء الاصطناعي، ومراكز البيانات العملاقة، ذلك التحوّل الذي تشهده أمريكا اليوم من القوة الصلبة إلى القوة الذكية، من الجيوش إلى الخوارزميات، لم يكن ليُلغى بموت ترامب، لكنه كان على الأرجح سيتباطأ، أو يتّخذ شكلاً مختلفًا.
وربما كانت الشركات التكنولوجية العملاقة لتسعى إلى ملء الفراغ، وتُعيد صياغة الخطاب السياسي برمّته، لتصبح أمريكا أكثر براغماتية في تحالفاتها، وأكثر حسمًا في تعريف أعدائها وحلفائها بناءً على المصالح الاقتصادية لا التحالفات التاريخية، وهذا ما نراه اليوم بوضوح، إعادة تشكيل العلاقات الدولية على مبدأ الربح والخسارة، والخروج من المعسكرات الثابتة إلى شبكات متحركة من المصالح.
فهذه المؤسسات، التي تمثّل اليوم شكلاً جديدًا من أشكال الدولة العميقة، كانت تظهر على أنها في صراع مستتر، وأحيانًا معلن، مع ترامب، الذي اتهمها مرارًا بتقييد حرية التعبير، وحجب أصوات اليمين المحافظ، وفي الواقع مع خروجه من المشهد، كانت هذه الشركات ستخسر إلى فترة ما إحكام قبضتها، لكن بقاءه بينت لحظة الحقيقة، ظهورها على مسرح السياسة العالمية وبقوة، فهل تملك الشرعية الشعبية؟ أم أنها مؤسسات عابرة للقوميات، تُنتج أدوات لكنها لا تملك خطابًا سياسيًا جامعًا؟
ويظل السؤال المفتوح، لن يكون العالم كما كان قبل الرصاصة، ولن تُرسم الخرائط كما رُسمت بعد الحرب الباردة، فحين تُصاغ السياسة بالخوارزميات، وتُستبدل الحروب بالعقوبات، وتُختصر العلاقات في تعريفات جمركية، يصبح السؤال: هل ما زلنا نعيش في عالم تُقرّره الشعوب، أم أننا ندور في مدار إمبراطورية لا نرى وجهها، لكنها ترى كل شيء؟
الولايات المتحدة الأمريكية
11/4/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=67094