لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء والتعريفة أم بالصواريخ؟ الحلقة العاشرة

د. محمود عباس

حين يُسحب الزناد بلا رصاصة، وتُدار المعركة بلا جنود، ندرك أننا في زمن الحرب الصامتة؛ حرب لا تبدأ ببيان أول، بل بهمسة في أسواق البورصة، ورمز مشفّر في سلاسل الإمداد. هذا ما دفع دونالد ترامب إلى جعل الحرب الاقتصادية سلاحه الأول، ساعيًا بكل طاقته لإيقاف الحروب الكلاسيكية، متباهياً بأنه أوقف سبع حروب بين دول وشعوب في أقل من عام على دخوله البيت الأبيض، لكنه يتجاهل الحديث عن حروبه الاقتصادية التي دمّرت ركائز العلاقات الدولية، تلك التي لا تهدف إلا إلى إزالة الحدود الجغرافية أمام الشركات الخوارزمية العملاقة في المدى البعيد، وكأنه يقول، الحرب لم تعد تنطلق من منصات الصواريخ، بل من شيفرة مخزونة في خوادم بعيدة، جاهزة لتعطيل مطار، شلّ مستشفى، أو تفجير سوق العملات. السؤال لم يعد، من يطلق النار؟ بل، من يربح العالم؟

لقد تبدّل شكل المعركة في النظام العالمي الجديد الذي تصوغه الدولة العميقة العصرية، حيث لا تقلّ النتائج دموية عن الحروب التقليدية، وإن تغيّرت أدواتها. فالحرب اليوم ليست لإسقاط الجيوش، بل لتفكيك الدول عبر الاقتصاد الرقمي. إنها مواجهة بين الدولة العميقة الكلاسيكية، المتشبثة بوسائلها القديمة، والدولة العميقة الناهضة، التي تصوغ قواعد الهيمنة العالمية بلا منافس، في هذه الحرب الاقتصادية–الرقمية لا نُحصي القتلى، بل الخسائر، ولا نقيس الأرض المستعادة، بل الحصص السوقية المنتزعة. الجيوش لا تزال في الميدان، لكن الجنرالات الجدد هم المبرمجون، والمحللون، ومديرو الشركات الكبرى، لا يحملون أوسمة ولا رتبًا، بل شعارات شركاتهم كلوجو جديد للسلطة.

من هجوم “ستاكسنت” الذي تسلل إلى البرنامج النووي الإيراني، إلى حملات التضليل المعلوماتي التي اخترقت الانتخابات الأمريكية، إلى الصراع المتصاعد على أشباه الموصلات، تتضح معالم حرب تُخاض في الظل وتُربح قبل أن يُدرك أحد أنها بدأت، وما فرضه ترامب من رسوم جمركية على معظم دول العالم، من دون تمييز بين حليف وعدو، لم يكن سوى جزء من هذه معارك الظل.

والأدهى أن هذه الحروب لا تُخاض بين الدول فقط، بل من الداخل، داخل المجتمعات والأفراد. إنها حرب تمزق الهوية قبل أن تهدم المدن. ما يجري الآن في الأروقة السياسية الأمريكية، حتى داخل الحزبين الكبيرين، ليس إلا بداية إعادة تشكيل إيديولوجي جديد، الحرب المعاصرة لا تقتحم الحدود، بل تصنع حدودًا داخل الذات، تُقسّم الشعوب عبر الخوارزميات إلى جزر معزولة من الصدى، عاجزة حتى عن التواصل مع نفسها، لم تعد الحرب تدمّر الجسور، بل تمحو القدرة على التفكير المشترك.

وفي هذه الحرب، تتسلل أدوات السيطرة عبر أقنعة المفاهيم النبيلة، حرية السوق، الخصوصية، الشفافية، لكنها لم تعد غايات بحد ذاتها، بل أعيد توظيفها لتصبح أدوات للهيمنة الناعمة. المواطن تحوّل إلى وحدة في معادلة اقتصادية، تُحلله الخوارزمية لا القانون، وتُقيّمه لا كصوت انتخابي، بل كزبون دائم التفاعل، مقيّدًا بحاجاته التي تُصاغ مسبقًا عبر الخوارزميات ذاتها.

لم تعد السيادة، في إيديولوجية الدولة العميقة العصرية، مسألة جغرافيا وحدود، بل مسألة تحكّم في البنى التحتية الرقمية. من يسيطر على شبكات الاتصالات، على منصات الذكاء الاصطناعي، على صناعة الرقائق الإلكترونية، هو من يرسم خريطتك، لا السياسية فقط، بل الحضارية أيضًا. وهكذا تتآكل مفاهيم كلاسيكية مثل الردع، الحياد، أو حتى النصر، في ظل منهجية دونالد ترامب والإدارة المصممة على مقاس الذين يوجّهون دفة الإمبراطورية الأمريكية، بل والنظام العالمي كله.

لم نعد نعرف متى تبدأ الحرب أو متى تنتهي، لأن آثارها لا تُرى بالعين المجردة، بل تتراكم مثل فيروس يعمل في خلفية النظام، يُضعف الثقة ببطء، ويصيب الدول كما تُصاب الذاكرة بالتلف، تدريجيًا، صامتًا، ثم فجأة بلا رجعة.

هل هناك مخرج من هذا التآكل البطيء للسلام؟

ربما، لكنه لا يبدأ بالعتاد العسكري، بل بالوعي. وعيٌ أدرك ترامب بعض ملامحه حين حاول، على طريقته، أن يُركّز على الكلفة البشرية في حرب روسيا وأوكرانيا، ولو من زاوية سياسية براغماتية، فالمعركة اليوم ليست “هناك” على الحدود فقط، بل “هنا” في الشاشة، في القرار المالي، في منطق الاستهلاك، نحن بحاجة إلى جبهة مقاومة ثقافية وأخلاقية، لا إلى دفاع إلكتروني فحسب. نحتاج إلى تعريف جديد للسيادة، للسلام، وللهوية، في عالم لم يعد يُدار من عواصم الدول، بل من مراكز البيانات.

إن لم يُكتب دستور جديد لهذا العالم الرقمي، فسيبقى الصراع بلا نهاية، لأن من لا يعرف من يقاتل، لن يعرف أبدًا متى يوقف النزيف.

 

الولايات المتحدة الأمريكية

11/4/2025م

Scroll to Top