لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء والتعريفة أم بالصواريخ؟ الحلقة الثالثة

د. محمود عباس

في كل لحظة مفصلية من عمر الإمبراطوريات، لا يكون التحوّل دائمًا انفجارًا ثوريًا أو انهيارًا مدويًا؛ بل قد يتجسّد في إعادة تموضع هادئة لمراكز النفوذ داخل بنية الدولة العميقة. فلو أصابت الرصاصة دونالد ترامب، لم يكن العالم ليهتز من الخارج، بل لاهتزّ من الداخل، عبر تحوّل رمزي يفتح الطريق أمام جيل جديد من الهيمنة. لم يكن ليسقط النظام، بل لتتجدد الرأسمالية الكلاسيكية بوجه أكثر نعومة، أقل وقاحة، تتسلل منه السلطة لا عبر وادي السيليكون، بل من بوابات البنتاغون.

وادي السيليكون، أحد أعمدة الدولة العميقة المعاصرة، لم يكن على هامش المشهد، بل في صدارته، قادته كانوا إلى جانب ترامب في زيارته لدول الخليج، ليس كمستشارين تقنيين، بل كمفاوضين استراتيجيين، يبرمون اتفاقيات بلغة جديدة، ومنطق مختلف تمامًا عن سابق العهود، من الاستثمارات الهائلة في تكنولوجيا الخوارزميات، إلى العقود الضخمة لصالح عمالقة الصناعات الإلكترونية، كان كل شيء يشير إلى أن الدولة العميقة العصرية تخوض مرحلة الهيمنة وانتشار ذكية، ممتدةً عبر عدة محاور وتقاطعات في بنية النظام العالمي.

في كل لحظة مفصلية من عمر الإمبراطوريات، لا يكون التحول ثوريًا دائمًا، بل قد يأتي على هيئة إعادة توزيع هادئة للسلطة داخل أجهزة الدولة العميقة، ولو أصابت الرصاصة ترامب، لم يكن العالم ليتغير من الخارج، بل من الداخل، بتحوّل رمزي يُطلق جيلًا جديدًا من الهيمنة، فبدل الانهيار، كانت الرأسمالية الكلاسيكية ستستمر، بنسخة أقل وقاحة، تُدير العالم من البنتاغون بدل وادي السيليكون.

وادي السيليكون التي هي أحد ركائز الدولة العميقة العصرية، قادتها هم من رافقوا ترامب إلى دول الخليج، وكانوا في الواجهة، كانت الحوارات والاتفاقيات على أسس مختلفة وبلغة مختلفة عن سابقاتها، من الاستثمارات الهائلة وجلها في مجال الخوارزميات، إلى عقود مع الشركات الإلكترونية العملاقة، سبقتها تسخير أدوات الدولة العميقة الكلاسيكية وفي عدة أطراف وجهات.

لكن ما لم يُطرح بما يكفي هو أن ظهور ترامب نفسه لم يكن خروجًا على المؤسسة، بل نتاجًا لانقلاب داخلها، لقد تم دفعه إلى الواجهة لا لأنه يمثّل الخارج، بل لأنه النموذج الأنسب للداخل الذي يُعيد تشكيل قواعد السيطرة. لم تكن الدولة العميقة التقليدية من أطلقه، بل نسختها الجديدة، الشركات، الخوارزميات، إمبراطوريات البيانات، ومراكز التأثير التي لم تُنتخب قط.

ترامب لم يكن استثناءً، بل كان الخوارزمية تتكلم، صوت السوق وقد خلع بدلته الرسمية، وتجسّد في رجل أعمال فجّ، لا يتقن فن الخطابة، لكنه يعرف كيف يصنع الحدث، كان ترامب الصورة البشرية للمنظومة الجديدة، لا تهتم بالاتساق، بل بالاختراق، لا تُعير اهتمامًا للبروتوكولات، بل تقيس النجاح بعدد الصدمات في الدقيقة.

الرأسمالية ما بعد الدولة لم تعد تكتفي بإنتاج الأشياء، بل صارت تصوغ السلوك، من اقتصاد السوق إلى هندسة الوعي، من السيطرة على الموارد إلى السيطرة على القرار، كما كتب هربرت ماركوز، فإن “الهيمنة في المجتمعات المتقدمة لم تعد تُمارس بالقوة، بل بالتشبع”، ونحن اليوم نعيش هذا التشبع حتى الغرق.

محاولة اغتياله، لو نجحت، كانت لتفتح المجال لمن كان ينتظر في الظل، ليس لتقليد مساره، بل لاحتلاله، لكن ببقائه أصبحت الشركات الكبرى، من غوغل إلى أمازون إلى تسلا، لم تعد فقط تُطوّر أدوات، بل باتت تُعيد تشكيل الحياة، لم تعد تبيع منتجات، بل تُنتج الزمان، والمكان، واللغة والقرار، لم تعد تتدخل في السياسة كفاعل اقتصادي، بل تحولت إلى بنية سيادية، متكاملة، تصوغ الإعلام، وتعيد تشكيل الأخلاق، وتُعرّف ما هو الصالح العام.

في حضوره تسارعت مرحلة “عصر الشركات السيادية” مفهوم لم يعد نظريًا، حيث لم تعد الحكومات من يُدير العالَم، بل من يُصممه رقميًا، ويبرمجه أخلاقيًا، ويُعيد إنتاجه إعلاميًا، لم تعد المنصة أداة، بل سلطة، لا تعمل من خلال الانتخابات، بل من خلال هندسة السلوك، لا تفرض قوانين، بل تعيد تعريف المقبول والمرفوض، المسموح والمحرَّم.

هذه الهياكل الزجاجية، غوغل، ميتا، آبل، أمازون، أصبحت مراكز قرارات أكثر تأثيرًا من البيت الأبيض نفسه، ومفارقة هذا العصر أن هذه الشركات، رغم أنها أحيانًا اصطدمت بترامب، كانت دومًا تستفيد من كل صدمة يخلقها، فكل فوضى يفتعلها كانت ترفع من رصيدها كقوة بديلة، كعقل أكثر رصانة في مواجهة الجنون.

موت ترامب لم يكن ليُضعف النظام الجديد، فبديله الجمهوري، رجل الدولة العميقة العصرية الأقل حدة وجرأة منه، كان ليسمح بإعادة ضبطه، لتنتقل الرأسمالية من هيمنة السوق إلى هيمنة القرار، من التنافس بين الدول إلى التنافس بين الشركات التي تعرفك أكثر مما تعرف نفسك.

في النهاية، لم يكن السؤال ليصبح: من سيخلف ترامب؟ بل: من سيصمم نموذج الهيمنة المقبل؟ من سيملك خرائط الوعي قبل أن تُولد؟

عند تلك النقطة، لن يعود التاريخ يُكتب بالحبر أو يُخاض بالسلاح، بل يُبنى بالرمز الرقمي، لا تصوت عليه شعوب، ولا تمرره برلمانات، إنه عصر الحوكمة الخفية، لا تديره دولة، بل عقل اصطناعي موزع بين مليارات الخوادم، يراقب، يتنبأ، ويُعيد برمجة ما كنا نظنه “إنسانًا حرًا.”

ويظل السؤال معلّقًا: هل كانت محاولة اغتياله رسالة ترهيب خفية من الدولة العميقة العصرية؟ وهل شكّلت تلك الرصاصة الفاشلة لحظة مفصلية سرّعت بسط هيمنتها على البيت الأبيض؟

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

11/4/2025م