لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء والتعريفة أم بالصواريخ؟ – الحلقة الثامنة

د. محمود عباس

في لحظة ما من التاريخ، لم يعد السؤال، ماذا يفعل الإنسان؟ بل، هل لا يزال الإنسان هو الفاعل الحقيقي؟

نحن أمام حقبة لم تعد تحكمها إرادة فردية أو حتى جماعية، بل تُقاد بخوارزميات تتغذى على سلوكنا وتعيد تشكيله دون وعي منا، وهذه ليست رواية خيال علمي، إنها زمن ما بعد الإنسان، حيث لم يعد الإنسان مركزًا في العالم، ولا معيارًا للقيمة، بل مجرد عقدة في شبكة معلومات ضخمة تديرها أنظمة لا نستطيع التنبؤ الكامل بقراراتها، ولا نملك وسيلة لإيقافها.

لقد تنبأ الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو بزوال فكرة “الإنسان كمقياس لكل شيء”، وقال إن الإنسان مجرد «اختراع حديث» في طريقه إلى الزوال، أما الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، فكان أكثر حدّة حين تحدث عن أن التقنية ليست أداة، بل مصير، وأن الإنسان بات أداة ضمن أدواته. واليوم، حين تنجح الخوارزميات في قراءة مشاعرنا، توقّع قراراتنا، وتحديد اختياراتنا قبل أن نفكر فيها، فإن سؤال “من أنا؟” لم يعد سؤالًا وجوديًا، بل استعلامًا في قاعدة بيانات.

في ظل هذا التحول، لم تعد السيادة للوعي، بل للقدرة على التنبؤ بالسلوك البشري، الذكاء الاصطناعي لا يفكر كما نفكر، لكنه يقرر عنا، ويتصرّف قبلنا، في وادي السيليكون لا تُناقَش الأخلاق، بل تُختبر التجارب، تُجرى ملايين العمليات الحسابية كل ثانية على سلوكك، لقياس مدى قابلية وعيك للاختراق، لا حريتك للقرار.

زمن ما بعد الإنسان ليس مستقبلاً غامضًا، بل واقع يتسلل بهدوء إلى يومياتنا، الهاتف الذي في يدك يعرف متى تغضب، الساعة الذكية على معصمك تراقب نبضات قلبك، والمساعد الصوتي يسجل ألفة لغتك ونبرة توترك. لم تعد أنت مركز التكنولوجيا، بل أصبحت هي مركزك.

وفي هذا الزمن، تُطرح أسئلة وجودية جديدة: من يمتلك الوعي؟ من يحق له اتخاذ القرار؟ من المسؤول عندما يتخذ الذكاء الاصطناعي قرارًا قاتلًا؟ حين تُسقط طائرة بدون طيار هدفًا بناء على تحليل خوارزمي، من يُحاسب؟

المؤرخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري كان من أوائل من أطلقوا جرس الإنذار حين كتب في كتابه “الإنسان الإله” أن “الذكاء سيتحرر من الوعي” ليس علينا أن نخشى الروبوتات ذات السلاح، بل الأنظمة التي تُقرر دون أن نفهمها. وهنا تكمن المفارقة: الذكاء يتسارع، والوعي البشري يتراجع أمام هذا الطوفان.

الرأسمالية نفسها تحوّلت إلى نظام لا يحتاج إلى مستهلك حرّ، بل إلى مستخدم مدمن، إلى فرد لا يُفكر، بل يُكرّر. وما يُنتَج ليس مجرد سلعة، بل إنسان مُعاد التشكيل، مهيأ للاستجابة، لا للتفكير. كل منصة رقمية اليوم، من شبكات التواصل إلى أنظمة الترفيه، تهدف إلى زيادة قابلية الفرد لأن يُعاد برمجته. والإنسان، في هذا السياق، لم يعد ذاتًا فاعلة، بل بيانات تتدفق في اتجاه السوق.

هل هناك من مفرّ؟

ربما، لكن البداية لا تكون برفض التكنولوجيا، بل بفهم بنيتها. لا تكون بالمطالبة بالحرية كما كانت تُفهم في القرن العشرين، بل بإعادة تعريف ما تعنيه الحرية في عالم يُعيد تشكيل حواسنا نفسها. نحن بحاجة إلى فلسفة جديدة، إلى سياسة جديدة، إلى ثقافة تقاوم الانصهار الكامل في هذا التيار.

ربما يكون زمن ما بعد الإنسان فرصة أيضًا، شرط أن يُعاد التوازن بين القدرة التقنية والكرامة الإنسانية، إذا استطاع الإنسان أن يُخضع الذكاء الصناعي لقيم أخلاقية شاملة، ويؤطره في إطار العدالة لا فقط الفعالية، فقد نكون أمام ولادة مرحلة جديدة، لا نهاية للإنسان، بل تحوّله.

لكن حتى يحدث ذلك، سيظل السؤال قائمًا، هل لا يزال لدينا ما يكفي من الوعي لنحمي أنفسنا من قدرتنا؟ أم أننا سنستسلم، رويدًا رويدًا، حتى تُمحى الحدود بين الإنسان وآلته، ويصبح العالم ليس مكانًا نعيش فيه، بل برنامجًا يشغلنا؟

لكن، وحتى يتحقق ذلك، يبقى السؤال قائمًا:

هل نملك ما يكفي من الوعي لنحمي أنفسنا من قدرتنا، أم أننا سنستسلم ببطء، حتى تُمحى الحدود بين الإنسان وآلته، ويغدو العالم ليس فضاءً نعيشه، بل برنامجًا يبرمجنا؟

ذلك البرنامج الذي يدفع بدونالد ترامب إلى لعب دور الوسيط لفرض السلام بين روسيا وأوكرانيا، وضمان الأمن بين روسيا وأوروبا، وفتح الطريق أمام الشركات الخوارزمية العملاقة، عبر إزالة الحواجز السياسية والعسكرية، وهو ذاته الذي يحثه على نقل الحرب من ساحات الميدان إلى حروب التعريفة الجمركية، طامحًا بأن تصبح الأسواق العالمية مفتوحة على مصراعيها أمام الشركات الأمريكية العملاقة.

فلو لم يكن ترامب، ربما كانت الحرب الروسية – الأوكرانية قد توسعت، وربما تعاظم نفوذ “الدولة العميقة الكلاسيكية” على حساب “الدولة العميقة العصرية” وهنا يظل السؤال، هل يقودنا الذكاء والمال إلى السيطرة، أم أن الصواريخ ستبقى الحكم الأخير؟

الولايات المتحدة الأمريكية

11/4/2025م

Scroll to Top