الخميس, سبتمبر 12, 2024
آراء

ليس للكردي سوى عشيرته

*جوان ديبو

طفت على السطح في الآونة الأخيرة ظاهرة تجديد وانتعاش الصحوة العشائرية لدى الكُرد في سوريا في الوطن والمهجر، بعد أن تراءى للبعض في لحظة من اللحظات المخاتلة انكماش الانتماء العشائري لصالح تقوية وتمتين الانتماء القومي الكردي والوطني الكردستاني. وتتجسد هذه الصحوة (الغفوة) في تنظيم وانطلاق العديد من الفعاليات والأنشطة العشائرية المتشعبة سواء في داخل كردستان سوريا أو لدى الجاليات الكردية في أوروبا والشتات.

ومن هذه الفعاليات، عقد اجتماعات دورية للعشائر، وانتخاب رئيس أو رؤساء لها، وتنظيم وإدارة شؤونها، وإنشاء صناديق مالية خاصة بها يقوم أفرادها بالتبرع. وكذلك بروز ظاهرة التخاطب والمواساة والتعازي باسم العوائل والعشائر بدلاً من الأفراد على وسائل التواصل الاجتماعي. بالإضافة إلى إنشاء مجموعات الدردشة العائلية والعشائرية، وتدشين مضافات عائلية وعشائرية في الوطن والمهجر، وصولاً إلى جنوح بعض الكُتّاب المأجورين إلى تأليف كتب عن بعض زعماء العشائر الراحلين، وهي متخمة بالتزوير والتحريف والاختلاقات وليّ عنق الحقيقة والتاريخ.

وللتوضيح أقول، إن المراد من هذه التوطئة ليس القول بأن العشائرية أو التفكير العشائري لدى الكُرد في سوريا بمن فيهم (النخب) كان مطموراً قبل هذه الموجة الأخيرة من الاستفاقة العشائرية المتفاقمة، وإنما للإشارة فقط إلى طغيان هذه الظاهرة وتبيان بعض العوامل التي أدت إلى بروزها بعد أن بقيت لعقود خلت راكدة تراوح مكانها، أو لربما أن الحياء كان ينتاب أصحابها والمنافحين عنها لإظهار نزوعهم ومراميهم بهذا الشكل الفاضح وغير المستور، وأنهم كانوا فقط يتحينون الفرصة المناسبة وقد نالوها.

وقبل الخوض أكثر في حيثيات انتعاش هذا التفكير العشائري الكردي، ولاسيما لدى أبناء الجاليات الكردية في الغرب الأوروبي والمهجر، والذي يبعث على القنوط والإحباط، لا مندوحة من البوح أن العشائرية هي نمط حياة اجتماعي وحالة اجتماعية متجذرة في المجتمع الكردي، ولطالما كان للعشيرة دور في التجييش والاستقطاب والتثوير في وجه سالبي الحقوق الكردية. وعليه فيمكن القول إن إبداء وتفاعل المشاعر الإنسانية الأولية والبسيطة في الإطار العشائري أمر لا ضرر ولا ضرار منه.

لكن ما يحدث في كردستان سوريا، هو العكس تماماً، حيث يتم اللجوء إلى إحياء مفهوم العشائرية وإنعاش العشيرة من حيث التنظيم، وتفعيل هذا التنظيم ودعمه مادياً ومعنوياً وتأهيله لقيادة المجتمع. وهذا الإحياء والانتعاش للفكر والممارسة العشائرية هو السير عكس الاتجاه المطلوب وأمر يتنافى مع مفهوم التطور الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والحضاري. هذا ما عدا أنه يشكل عائقاً جديداً يضاف إلى جملة العوائق والتحديات المتراكمة والمتكدسة والمتكاثرة بجنون أمام تفاهم الكُرد وتقاربهم. فضلاً عن أنه ينسف كافة الجهود والمرامي في سبيل مجابهة وإزاحة أحد العوائق الرئيسية أمام التقاء الكُرد وتلاحمهم في سبيل تحقيق الهدف الأسمى ألا وهو الحرية والاستقلال. هذا بالإضافة إلى أن العشائرية تؤدي إلى الانزواء والانكماش والانطواء على الذات وإبطال العقل وتغييب النقد بسبب صلة القرابة والتبعية والولاء المطلق، وإلى اختزان واختزال الوطن والشعب والقضية في العشيرة أو رئيس العشيرة الذي قد يتحول إلى رئيس حزب عشائري أيضاً.

لكن لماذا لم يجد الكردي بعد عشرات السنين ملاذاً يلوذ به للاستقواء والاحتماء والتفاخر سوى عشيرته؟ وما هي الأسباب النفسية والفيزيائية الكامنة وراء هذه “النهضة” العشائرية الموجعة واللافتة للنظر في كردستان سوريا، وخاصة لدى أبناء الجاليات الكردية في المهجر؟ من البديهي القول إن الأسباب وراء ظهور هذه الآفة كثيرة ولا يمكن ذكر معظمها أو أهمها في هذه العجالة، لكن يبدو أن السبب الجوهري هو فشل الكُرد، وبشكل أدق، الزعامات السياسية في تأسيس مرجعيات وطنية شاملة وإحلال الانتماء الوطني الكردستاني والقومي الكردي الواحد محل الانتماءات العشائرية والمناطقية المتضاربة، وغياب القيادة السياسية الكاريزمية التي يجب أن تركز على بناء وتربية الإنسان ذي الانتماء القومي والوطني بدلاً من الإنسان ذي الانتماء والولاء العشائري والمناطقي والحزبي. وهذا الأمر استساغه تاريخياً معظم القادة الكُرد أو استسهلوه، والسبب لأن الانتماء للعشيرة أو إظهار الولاء لها أمر غير شاق وغير مكلف ولا يتطلب جهداً يذكر ولا يحتاج إلى صراعات ومشقات لتوفر الأرضية والتربة الخصبة للإنبات والنمو، بينما الانتماء والولاء للوطن أمر مكلف ومضن وفاتورته باهظة ويحتاج إلى المزيد من المعرفة والرغبة والإرادة والجهود والوقت.

وعلى الرغم من أن الكُرد أسسوا أول حزب سياسي في العقد الخامس من القرن الماضي، إلا أن العشيرة بقيت هي الأقوى إلى أن شهدنا حزب العشيرة، وعلى الرغم من أن الكُرد طرحوا وتبنوا نظرياً مشروع الفيدرالية والكونفيدرالية والدولة الحديثة، إلا أننا شهدنا فيدرالية أو كونفيدرالية أو دولة أو دويلة العشيرة والعائلة والمنطقة. وبقيت السلوكيات والعقليات رازحة تحت تأثير العشائرية. وبالرغم من أن العشرات من الأحزاب التي ظهرت في كردستان سوريا قد ضمت المئات والآلاف من الأفراد من مختلف العشائر والفئات والشرائح، إلا أن معظمهم امتهنوا السلوك العشائري في ممارساتهم الحزبية من اتهام وتخوين لبعضهم البعض وإجراء النقاشات السياسية والحزبية وفق الطراز العشائري المقيت.

نعم لا ملاذ للكردي سوى عشيرته ليستقوي ويحتمي ويتباهى بها بعد أن أخفق قادته في تأسيس المرجعية الوطنية الكردستانية سواء على الصعيد الجزئي أو على الصعيد الكلي لتكون مركز الولاء وبؤرة الانتماء. حاول الكردي منذ عقود الانتماء إلى الأحزاب بدلاً من العشائر فماتت الأحزاب وعاشت العشائر، وسعى الكردي منذ عقود إلى إظهار الولاء للوطن والشعب والقضية بدلاً من العشيرة والحزب والزعيم، فتقهقر الثالوث المسمى بالوطن والشعب والقضية وساد الثالوث الأقوى المسمى بالعشيرة وحزب العشيرة وزعيم العشيرة. أدمن الكردي المراوحة في المكان والدوران في الحلقة المفرغة منذ أكثر من قرن، فهل من معين ومنقذ وهل من أمل ليتحرر الكردي أولاً من ظلمات نفسه، ليتحرر ثانياً من ظلمات غيره؟

*كاتب سوري كردي

المصدر: العرب اللندنية

الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين