مصطفى عبد الوهاب العيسى
إن الانفتاح الحاصل في دمشق وكونها مركزاً حيوياً في الخمسينات والستينات لكثير من المسافرين والعابرين لم يكن كافياً باعتقادي لبلورة هذه المرونة والحنكة لدى مام جلال في بناء هذه العلاقات الكردية والعربية والدولية ، وإلا ما كانت ستكون له كل هذه المساهمات ، فبعض المقيمين والسياسيين في دمشق عاشوا وعرفوا دمشق قبل قدومه بسنين طويلة وما استطاعوا إنجاز ما أنجزه مام جلال .
ربما كان لرائحة الياسمين وأمطاردمشق ليلاً و رقة طباع الدمشقيين أسبابٌ في تهدئة روع هذا الطالب الثائرُ لقضيةٍ والباحثُ عن حلٍ لها .
ربما كان سيرُ هذا الشاب و خطواته في أزقة ركن الدين وهو في طريقه لمنزل روشن بدرخان مثلاً دورٌ في تدفق أفكار جديدة لذهنه تحثه على إيجاد حل لقضاياه يُرضي ضميره من ناحية ، ومن ناحية أخرى يُجبر جيرانه على مساندته والوقوف معه و تقديم العون له .
كان يرى مام جلال بأن أهم شروط تحرر العراق و كردستان هو العلاقات الودية والمتميزة للحركة التحررية الكردية مع الوسط العربي ، و هذه الرؤية ربما لا يستهجنها اليوم معظم العرب والكرد في عصر الإنفتاح والإنترنت و تراجع الشعارات القومية ، إلا أن هذه الرؤية بالنسبة لي كانت معجزة و طفرة في الفكر السياسي لشابٍ في العشرينات من عمره ، و يعيش في زمن كانت أصوات القومية ، وحتى المتطرفة ، تعلو كثيراً فوق أي صوت .
ربما لا يختلف الكثير منا اليوم على أن مام جلال كان أمهر مهندس للعلاقات الكردية مع الوسط العربي ، و لكنني أذهب أبعد من ذلك وأقول بأنه وجب علينا أن نعده مهندساً لهذه العلاقات منذ الخمسينات والستينات .
دون الخوض في كفاح شابٍ مغتربٍ يسعى لمتابعة التحصيل الدراسي و يبحث عن اللجوء السياسي في دمشق ، أي بعيداً عن العقبات الشخصية التي رافقته ، وبعيداً أيضاً عن الفكر السياسي الذي يصعب على العقل تقبُّله أو تقبُّل وجوده لدى شابٍ في مطلع العمر تبقى الأسئلة التي تدور في أذهاننا كثيرة .
كيف استطاع هذا الشاب أن يُحدث أثراً في الوعي القومي حينها ؟
أو كيف يُساهم في كتابة النظام الداخلي والبرنامج السياسي للديمقراطيين الكرد السوريين وهو لا يزال يتلمس خطواته الأولى في الحقوق والقانون ؟
كيف يتحدث و يجد حلولاً لمعضلة التوازن بين البعدين القومي والوطني بطرح خصوصية النضال المشروع واستقلالية القرار السياسي ؟
كيف بقي طوال حياته على علاقة جيدة بالشيوعيين رغم الدور الكبير الذي لعبه في إبعاد الكرد عن الشيوعية ؟
أيَّة مرونةٍ وأيُّ ثباتٍ وأيُّ ذكاءٍ تمتع بهم هذا الشاب ليكون سابقاً لعصره و متقدماً في الفكر السياسي على أقرانه و منافسيه ؟!
إن ما أكدته لنا سلسلة مام في الشام بأن ذكاء مام جلال و بنسبة كبيرة كان فطرياً ، ولم يهمله مام جلال ، بل سعى لتطويره بجهوده الذاتية والمواقف التي عاشها طيلة حياته و أسفاره التي يسرها القدر له فأحسن استغلالها .
إن الانفتاح على الوسط العربي وهذا السعي بالتعريف بالقضية الكردية و على نطاق دولي ( كما حدث في وارسو 1955 و موسكو 1957 ) كانا ربما من أهم الأحداث التي استغلها مام جلال بشكل لا يمكن أن نتصوره لشابٍ في مقتبل العمر و يستطيع الانفتاح على الآخرين و بناء العلاقات من بوابة مؤتمرات طلابية ، و أعيد وأكرر بأن العجب يكمن في ذلك الزمن و تلك المرحلة وليس في القرن الواحد والعشرين مثلاً .
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=78038