محمود درويش: كأنه يكتب بالكوردية

أ.م.د. ژینۆ عبدالله- جامعة السليمانية

في بداية كل عام دراسي، وقبل أن أحضّر مادة الشعر الحديث لطلابي، أعود إلى ديواني المفضل. هذا الديوان الذي أهداني إياه الصديق العزيز، الصحفي المخضرم والمترجم البارع جميل علي، يمنحني زادًا جديدًا لتذوق الشعر وفهم أعماقه.
كلما قرأت محمود درويش (1941-2008)، شعرت وكأنه شاعر كوردي. ليس لأنه ينتمي إلى الجغرافيا الكردية، بل لأنه يتحدث عن هموم إنسانية عالمية نعرفها جيدًا: “الأرض، الوطن، الاحتلال، المقاومة، تاريخ النضال، ومعاناة شعب”. في كثير من قصائده، يبدو وكأنه يصف الواقع الكوردي بكل تفاصيله المؤلمة.
علامة فارقة في الشعر العربي
يحتل درويش مكانة مميزة في خريطة الشعر العربي والعالمي. فهو يمثل قيمة رمزية كبيرة تتجاوز الحدود. بين ديوانه الأول وديوانه الأخير، نحن أمام مشروع شعري متكامل، له تأثير عميق على القارئ. صوته في القراءة الشعرية فريد، قلما نجد مثله عند معاصريه. لقد أصبح ظاهرة فنية تجاوزت زمانها، وجعلت القضية الفلسطينية قضية عالمية.
الرومانسية والثورة
في ديوانه “أوراق الزيتون” 1964، تميز أسلوب درويش بالطابع الرومانسي والثوري معًا. كانت لغته في تلك المرحلة تتسم ببعض السهولة في السرد والمباشرة في المعني. لكن إذا قرأنا أشعاره بعد ذلك، نجد أنه خرج من دائرة الشعر الثوري الغاضب إلى آفاق أوسع.
كان شعره في تلك الفترة يحكي تاريخ الإنسان المظلوم والأرض المحتلة. تجربته الشعرية كانت في تطور مستمر. وعندما نقرأ صوره الفنية ومعاناة شعب يناضل بلا هوادة لنيل حقوقه، نشعر وكأننا نقرأ التاريخ الكوردي نفسه.
النضج والعمق
مع مرور الوقت، أصبح شعر درويش أكثر نضجًا وقربًا من القارئ. في الثمانينيات، أكد مكانته كأحد أهم المثقفين العرب. في قصيدته الشهيرة “مديح الظل العالي”1983، يبدو وكأنه يتحدث عن معركة غير متكافئة وكانت القصيدة غاضبة تجاه الأنظمة العربية التي تركت الشعب الفلسطيني وحيدًا. يقول فيها:
“وحدي أدافع عن جدارٍ ليس لي
وحدي أدافع عن هواءٍ ليس لي
وحدي علي سطح المدينة واقفٌ…”
تكرار كلمة “وحدي” يعكس عمق المأساة. في هذه القصيدة، جمع درويش بين البعد الوطني والبناء الفني العالي. شهدت هذه المرحلة تحولات كثيرة في شعره، تطورًا في الشكل والمضمون، وظهرت فيها فلسفة شعرية أكثر عمقًا.
التحول نحو العالمية
بعد عقد الثمانينيات، دخل درويش مرحلة جديدة. خفّت نبرة الغضب، وولدت شعرية جديدة. في قصيدته “عابرون في كلام عابر”، يقول:
“أيها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف – ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار – ومنا لحمنا
منكم دبابة أخرى – ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز – ومنا المطر
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا”
في هذه المرحلة، تغيرت أفكاره نحو رؤية أكثر عالمية. أصبح شعره أكثر تعقيدًا، وغابت اللغة الثورية المباشرة. لم يعد يكتب للجمهور المحلي فقط، بل استبدل الخطاب الثوري بخطاب إنساني عالمي.
الإنسان العالمي
في دواوينه الأخيرة، خاصة “لماذا تركت الحصان وحيدًا” 1995، تحدث درويش عن الواقع المرير بأسلوب فلسفي عميق. يقول في هذا الديوان:
“إلي أين تأخذني يا أبي؟
إلي جهة الريح يا ولدي…”
هذا الديوان يُعتبر من أجمل وأكمل ما كتب، وله مكانة خالدة من الناحية الفنية.
في ديوانه “جدارية” 2000، وصلت لغته إلى مستويات عالية من الجمال. تحدث فيه عن قضايا ذاتية وإنسانية بأسلوب لا يعتذر عن جماله. استخدم التناص بشكل ناضج، مما منح شعره عمقًا إضافيًا.
ترك محمود درويش إرثًا شعريًا كبيرًا. لهذا، عندما أقرأ دواوينه أو أستمع إلى صوته الجهوري، أشعر وكأنني أمام شاعر كوردي، يحكي معاناتنا وأحلامنا، ويعبّر عن قضايانا الإنسانية بلغة عالمية تتجاوز الحدود.

 

Scroll to Top