د. ولات محمد
تشهد الساحة السورية منذ زمن تسابقاً محموماً بين فئة من المنتمين لمكونات المنطقة على النبش في صفحات التاريخ بغية الإتيان بأدلة وبراهين تثبت أصالة شعب معين في هذه الجغرافيا وطارئية شعب آخر، وذلك لتسويغ استئثار الأول بكل شيء وحرمان الثاني من كل شيء وإلغاء وجوده من الجغرافيا ذاتها والتقليل من شأنه الحضاري. والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق (بغض النظر عن صوابية ادعاء هذا الطرف أو ذاك من وجهة نظر تاريخية) هو: ما الجدوى من مثل هذا الطرح أو الجدل؟ ما الواقع الذي يمكن للتاريخ أن يفرضه أو يغيره راهناً أمام الحقيقة الجغرافية والديمغرافية القائمة منذ قرون من الزمن؟!
بلا شك يمكن لكل من العربي والكوردي والآشوري والكلداني والسرياني وكل من يقطن هذه الجغرافيا أن يأتي بعشرات المراجع والمصادر التاريخية والوثائق المحفوظة في أراشيف الدول الكبرى والصغرى التي تثبت أنه شعب عريق وأصيل وراسخ الوجود في هذه الجغرافيا التي يقطنها في الوقت الحالي، لأن لكل من هؤلاء مؤرخين قدماء وحديثين كتبوا عنهم وأثبتوا وجودهم وأصالتهم هنا بالأدلة والبراهين. ولكن السؤال الملح مرة أخرى هو: ما فائدة مثل هذا الإجراء؟ هل يستطيع أي واحد من هذه الشعوب من خلال الإثباتات التاريخية (التي يصرف جهوداً مضنية للإتيان بها من هنا وهناك) أن يطرد الشعوب الأخرى ويستأثر بالمكان لنفسه من خلال ما لديه من أدلة وإثباتات تاريخية وجغرافية؟ هل يستطيع أي واحد منها أن يقنع الآخرين بأنه الوحيد الأصيل على هذه الأرض وبأن الآخرين مجرد ضيوف وأن عليهم فقط الالتزام بآداب الضيافة أول الرحيل وبأن ليس لهم أي حق سوى حق الضيف على صاحب الدار؟
الجواب “لا” طبعاً. ذلك لأن واقع الحال يقول إن كل هذه الشعوب موجودة في الوقت الحاضر على هذه الرقعة من جغرافية العالم، ولا تعني عبارة “الوقت الحاضر” أن وجود أي واحد منها يعود إلى ما قبل أسابيع أو شهور أو سنوات أو حتى عقود من الزمن. وبناء عليه يحق لكل أبناء هذه المكونات المجتمعية قاطبة التمتع بالحق الكامل في العيش بأمان وكرامة في أماكن تواجدهم، بما في ذلك حقهم الكامل في التعبير عن الذات الحضارية والقومية والفولكلورية والثقافية بكل حرية ودون أن يكون ذلك منّة أو تصدقاً من أحد.
إذن، ما الفائدة من اجترار هذا الخطاب الممجوج كلما دق الكوز بالجرة؟ وما النفع من الحروب الإعلامية التي يخوضها بعض الموتورين على مدار الوقت (أغلبهم عن جهل تام وبعضهم عن وعي) لإثبات أنهم أبناء الأصالة والعراقة وأن غيرهم طارئون وضيوف ليس لهم حق في أي شيء، وأن أمامهم فقط القبول بما يتصدقون به عليهم أو الرحيل أو الموت.
في كل أرجاء العالم الحديث لم يحدث أن قام شعب بطرد شعب من جغرافيا ما بداعي أن الأول أقدم من الثاني في ذلك المكان. لقد حدث ذلك أحياناً في العصور القديمة، ولكن الفيصل في ذلك لم يكن أقدمية هذا على ذاك، بل ميزان القوة والكثرة؛ فالأقوى والأكثر عدداً (وليس الأكثر أصالة) كان يغزو الأضعف والأقل حيلة ويجتاح دياره ويبيد سكانها ويطرد من المكان من يفلت منهم من الموت.
إن واقع الحال يقول إن كل هذه الشعوب وبشكلها الحالي موجودة على الأقل منذ عدة قرون على هذه الرقعة الجغرافية في حالة تجاور دائماً وتشارك أحياناً. هذه هي الحقيقة الوحيدة التي يجب البناء عليها من أجل إيجاد صيغة تعايش مشترك تحفظ حقوق الجميع وكراماتهم، لأن أي واحد من تلك الشعوب لا يستطيع إلغاء أو إفناء الآخر، وهذا غير مطلوب وغير ضروري وغير حضاري أساساً؛ فالحياة بكرامة حق كفلته كل الشرائع السماوية والأرضية لكل فرد وكل مجموعة بشرية، ولا يحق لأحد أن يستأثر بكل شيء ويحرم الآخر من كل شيء وكأن الله عيّنه وصياً أو وكيلاً على قاصر يتصرف بحياته وأملاكه كما يشاء.
أحب أن أقرأ تاريخي لأعرف أصلي ومنبتي وسيرة شعبي الذاتية في الماضي وعلاقة ذلك بوجودي في الحاضر، ولأدافع به عن ذلك الوجود إذا تعرض لخطر، لا لأجعل ذلك التاريخ سيفاً أقتل به غيري أو أطرده من المكان أو ألغيه ثقافياً وحضارياً، وكأن تاريخي هو الوحيد الأصل أو كأن الآخر لا وجود له إلا من خلالي أنا ومن خلال ما أقرّ به لذلك الآخر أو أتصدق به عليه. أما إذا بقيتُ مصراً على اتخاذ التاريخ منهجاً وملجأ وفيصلاً في تقييم وجود الآخر، فإن الآخر أيضاً سيفعل ذلك معي، وبالتالي سيستخدم كلٌ منا التاريخ لا للتعايش مع الآخر بل لإلغائه. وهنا تحديداً يتحول التاريخ من معرفة وتجربة ودرس إلى سلاح فتاك قاتل، بل إلى مذبح لا ينجو منه أحد.
إذا أصررتَ على الاحتكام إلى التاريخ والنبش في صفحاته لإثبات أقدميتك بغية طردي وإنهائي، فسوف تكتشف أن لي ديوناً كثيرة وثقيلة في رقبتك تعجز عن الإيفاء بها، إذ قد تنجح في إثبات وجودك وتثبيت أقدامك في رقعة جغرافية ما، لكنك سوف تكتشف في جغرافيات أخرى أن تلك الأقدام ذاتها بحاجة إلى أن تَقطع آلاف الكيلومترات كي تعود بك إلى الجغرافيا التي يثبت التاريخ ذاتُه أنها موطنك الأصلي.
إن ما تصرفه من جهد ووقت وتتكلفه من تعب نفسي وذهني في البحث عما يثبت أصالتك في المكان وطارئية الآخر عليه بغية تهميشه وإلغائه وطرده، لو أنك سخّرتَ كل ذلك الجهد والوقت والتفكير في البحث عن صيغة حضارية مدنية إنسانية توفق بها بين المكونات الإثنية والدينية والمذهبية المتعايشة منذ قرون على هذه الجغرافيا وتقيم بينها صيغة لعيش مشترك قائم على التساوي في الحقوق والواجبات، لنجحتَ بامتياز في إقامة دولة أنموذجية يرى فيها الجميع نفسه دون أن يكون ذلك على حساب الآخر.
الجغرافيا ثابتة وحقيقية لكن التاريخ متغير ومعظمه مزور. وما يجب الارتكان له في مثل هذه الأحوال هو الثابت لا المتغير؛ لأن الكثير من المصائر والحقائق تغيرت مع تغير التاريخ وتطوره وتشويهه، أما الجغرافيا فهي ثابتة وهي (بغض النظر عن تبدلات التاريخ) تحتضن منذ قرون كل هذه الشعوب وتشهد على التجاور والتعايش فيما بينها في كل المراحل والظروف.
هذه حقيقة وهذا واقع لا يمكن أن يتنكر لهما سوى أعمى البصيرة والفهم أو من كان في سوية النعامة. إزاء ذلك يكمن الحل الحضاري والإنساني الوحيد في اعتراف الجميع بوجود الجميع على هذه الجغرافيا وتساوي الجميع في الحقوق والواجبات، لأن البديل هو الخراب ولا شيء سوى الخراب.
وهنا أشدد على “التساوي” لا المساواة، لأن ثمة فارقاً بين الحالتين يجب أن نتنبه عليه، بل أكاد أقول إن هذا الفارق (هذا الخلط) هو أس المشكلة القائمة حتى الآن في هذا الإطار؛ فالمثل القائل “من ساواك بنفسه ما ظلمك” لا يعبر دائماً عن تحقيق عدالة بين طرفين.
أنت تريد أن تساويني بنفسك وتدّعي وتظن أنك بذلك حققت العدالة، أما أنا فلا أريد أن تساويني بنفسك، بل أن نتساوى، ما دامت هذه الجغرافيا الثابتة تجمعنا ومادام التاريخ عاجزاً عن الحسم لأنه نسبي ومتغير، وفي الكثير من الأحيان مفبرك، وإن لم نتعامل معه بعقلانية وحذر فإنه يتحول إلى مذبح يدفع الجميع ثمن الإصرار على جعله الحكَم الوحيد.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=71743