جليل إبراهيم المندلاوي
في عالمنا المليء بالتحديات الجيوسياسية والأزمات التي تتسارع كالأمواج، هناك قضية كبرى قد تكون أكثر إلهاما من مسرحية هزلية، وهي “ضياع السيادة”، حيث يمكن تلخيص الأخبار اليومية لهذا العالم بجملة واحدة “حدث ما لم نتوقعه، ولكنه تكرّر”، ليقف مفهوم السيادة كضحية مدهوشة في مسرح جريمة لا أحد يريد التحقيق فيه، فهل نحن أمام قضية سياسية؟ أم مجرد نكتة طويلة تتكرر بنسخ مختلفة؟
فلنتخيل هذا المشهد: مطار دولي ضخم، حقيبة سوداء مكتوب عليها “سيادة” تختفي من على السير، ترامب يركض بتغريداته وهو يصرخ: “ليس لي علاقة بالموضوع”، عراقجي يهمس بابتسامة مبهمة: “قد تعود قريبا”، ونتنياهو يتسلل نحو بوابة الطائرات وهو يرتدي نظارات الواقع البديل ويردد: “أنا من صممت الخريطة”، وفي الزاوية، آخرون يكتفون بالمشاهدة، بصمت بارد..
فإذا كان هناك شيء واحد يمكننا أن نتفق عليه في هذا العصر المتقلب، فهو أن السيادة العالمية أصبحت تماما مثل حقيبة الظهر الضائعة في مطار دولي، حتى أضحت مجرد عبارة غامضة نسمعها من وقت لآخر، مثل الأنباء عن الطقس في العصور الوسطى، لنجد أنفسنا أمام مشهد سياسي يجمع بين ثلاث شخصيات يبدو أن أسلوبهم في التصريح والمناورة قد اختلط بين فصول الكوميديا السوداء والدراما المملّة، دونالد ترمب، الرجل الذي يستطيع إشعال تويتر بــ 140 حرفا، عباس عراقجي، الذي يختلط خطابه بين الحفلات السياسية والمناورات الدبلوماسية التي لا تصل إلى شيء، وبيبي نتنياهو، الذي يبدو أنه يقرأ السياسة من كتب هزلية في عالم الخيال السياسي.
فماذا يحدث عندما يتقاطع هؤلاء في ساحة واحدة؟ لذا، دعونا نغرق في بحر من الفوضى وننظر إلى هذا الزمن الذي تتداخل فيه الأحداث وتتسارع فيه التغيرات السياسية بشكل يبعث على الدوار، ودعونا نتأمل في هذا المهرجان العبثي، حيث باتت فيه السيادة مجرد “بند افتتاحي” في بيانات ختامية لا يقرأها أحد، وبين تغريدات دونالد ترمب التي تحرق الأخضر واليابس، ومؤتمرات عباس عراقجي التي تشبه حفلات الزفاف: الكثير من المجاملات ولا أحد يعرف من العريس، وأخيرا، هناك نتنياهو، الرجل الذي أهدانا دروسا في كيفية أن تكون مجنونا بأناقة، فهو الشخص الذي يجيد خلق الأساطير ويقوضها بدم بارد بينما يضحك على طريقة عقله المريض.. في خضم سباق الجنون الدولي وهذه الفوضى وجدنا أنفسنا نحن الشعوب المغلوب على أمرها، في مصاف الدول التي تُذكر كثيرا، وتمارس قليلا.. حتى أصبحنا في موقع لا يُحسد عليه، فلا لحانا بقيت، ولا سيادتنا صمدت، وكل ما جنيناه من صراخ الكبار هو مزيد من الفوضى، وتحوّلنا إلى هامش على دفتر حسابات لا نملك مفاتيحه.
ففي لحظة نادرة من “الشفافية”، يكتشف المواطن أن بلاده أصبحت شاشة عرض مجانية لتصادم الأقوياء، فيما هو لا يملك سوى الريموت المكسور، ترمب يكتب: “لقد فعلناها”، وعراقجي يبتسم: “ما زال أمامنا فرصة”، بينما يلوّح نتنياهو بالعلم الإسرائيلي، ويهدّد بحرية كل شيء، أما نحن، فنقف وسط المشهد ككومبارس تم تدريبه على جملة واحدة فقط: “نؤكد على احترام السيادة”، لا أكثر، ولا أقل، حتى هذه الجملة صارت تُقال بوجوه مصطنعة وكأنها إعلان عن شامبو جديد.
السيادة؟ آهٍ على السيادة.. كانت في يوم من الأيام مفهوما يُدرّس في كتب التربية الوطنية، واليوم تحوّلت إلى إشعار على الهاتف المحمول: “انتهاك جديد: دخول طائرة مجهولة الأهداف فوق سماء المدينة، هل ترغب في الشجب؟ اضغط نعم أو انتظر التوجيه الأمريكي”.
والفوضى؟ الفوضى تسير وفق نظام عالمي دقيق: ترمب يقرّر، عراقجي يفاوض، ونتنياهو يعزف الجاز في حفلة موسيقية فوضوية، وحكوماتنا تكتب بيانا، المواطن يغضب، ثم يهدأ، ثم يعود ليتساءل: “ها، من كان؟ أمريكا أم إيران أم إسرائيل؟” لتأتيه الإجابة من الأخبار: “زيارة غير معلنة لمسؤول رفيع”، وبعدها ترتفع مؤشرات “ضغط السيادة” في الجو، ويبدأ موسم جديد من النفي والتأكيد.
لنكن صريحين: السيادة كانت آخر شيء اختفى في هذه الموجة المجنونة من السياسة، بين تغريدات ترامب الحارقة، ومناورات عباس عراقجي التي تبدو كخطة لتسويق مسحوق غسيل جديد، ونتنياهو الذي يلوّح بحرب في كل زاوية، نجد أن السيادة ليست سوى ذكرى متلاشية، ربما في عالمنا هذا، تكون السيادة أكثر تشويشا من كل كلمة تخرج من فم السياسيين الكبار، حتى لم يبقَ لدينا شيء لنتمسك به سوى اللحى.. اللحى التي تكاد تكون الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يختفي، اللحى تبقى، واللحى تنقلب إلى رمز للهوية، ولكن، في النهاية، السيادة؟ نتركها في صندوق الأمانات بين تغريدة وابتسامة في غرفة المفاوضات، لكن حتى اللحى، يا سادة، لم تسلم، ضاعت لحانا في دهاليز الاجتماعات المكوكية، حيث تتصافح الأيدي وتُبتلع المواقف، بينما يخرج البيان ليقول: “الجانبان اتفقا على مواصلة الحوار”، حوار لا نعرف متى بدأ، ولا متى سينتهي، لكننا متأكدون أن جدول أعماله لا يشمل سعر الخبز، أو انقطاع الكهرباء، أو الحصة التموينية.
لذلك، وحرصا على ما تبقى من السيادة (أو ما يُشبهها)، أقترح “من باب الوطنية الساخرة” أن نستحدث وزارة جديدة نطلق عليها اسم، “وزارة اللحى المهدورة والسيادات المهزوزة”، تكون مهمتها إصدار بيانات تعزية عند كل انتكاسة دبلوماسية، وتوزيع صور وطنية عالية الجودة يمكن طباعتها على بوسترات الانتخابات القادمة.
كما أقترح تطوير تطبيق “سيادتي+”، يربط مباشرة بهواتف السياسيين، ويرسل تنبيهات على مدار الساعة:
“تم تسجيل تدخل خارجي في ملف النفط – هل ترغب في تشكيل لجنة؟
“تم رصد قوات أجنبية تتحرك دون علمك – أرسل تغريدة استنكار؟”
وفي الختام، وبين صفقة تسليح ترمبية، وجولة مفاوضات عراقجية، وحدود وخرائط جديدة يعيد نتنياهو رسمها وفقا لمزاجه اليومي، لم نعد نملك سوى أن نبتسم سخريةً من هذا العرض السياسي، وننتظر أن نسمع عن “التغيرات الكبيرة” التي سيتم الإعلان عنها قريبا، وكالعادة، لا يحدث شيء، ولن يبقى لنا من السيادة سوى نسخة PDF محفوظة في الأرشيف الوطني،،، وربما صورة لمسؤول يضع يده على قلبه ويقول: “نحن دولة ذات سيادة”.
نبتسم ونردد بصمت: “بياناتنا قوية.. تماماً مثل ضعف قراراتنا”.. ثم نطفئ الشاشة، ونعود إلى الواقع.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=66979