مساعي عودة فرنسا إلى سوريا وصراع المصالح مع تركيا
لزكين إبراهيم – باحث في مركز الفرات للدراسات
تسعى فرنسا للعودة إلى سوريا من أجل تحقيق أهداف استراتيجية متعددة تشمل استعادة نفوذها الجيوسياسي، وتعزيز حضورها الاقتصادي، وترسيخ دورها كلاعب رئيسي في الترتيبات الإقليمية لما بعد الحرب. إذ ترى باريس في سوريا نقطة استراتيجية حيوية على البحر الأبيض المتوسط، تتيح لها مواجهة التحدّيات الناتجة عن تراجع نفوذها في إفريقيا وتصاعد النفوذ الروسي هناك. كما تعتمد فرنسا على توحيد الصف الكردي كمدخل لتأمين حضورها في الشمال السوري، ما يمنحها ورقة ضغط فعالة في مواجهة تركيا وتعزيز علاقتها بالقوى الكردية كحليف استراتيجي. في المقابل، تتجلى مخاوف أنقرة من التحركات الفرنسية في دعم باريس للكرد وتحالفها مع “قسد”، ما يعمق الصراع الفرنسي-التركي حول مستقبل سوريا.
فما هي أهداف فرنسا من مساعي العودة إلى سوريا، وما مبرراتها في لعب دور محوري في سوريا بعد الحرب؟ ولماذا ترفض تركيا أيّ دور لفرنسا في مستقبل سوريا؟
أهداف فرنسا من العودة إلى سوريا
تسعى فرنسا للعودة إلى سوريا بعد الحرب لتحقيق مجموعة من الأهداف السياسية والاقتصادية والأمنية لاستعادة نفوذها الجيوسياسي في المنطقة معتمدةً على مجموعة من العوامل التي تمنحها مبرراتٍ قويةً للعب دور محوري في إعادة إعمار البلاد.
قد يكون لتراجع دور فرنسا في إفريقيا وظهور النفوذ الروسي هناك تأثيرٌ كبير على توجهات السياسة الفرنسية في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة سوريا. فبعدما شهدت إفريقيا تقاربًا متزايدًا بين روسيا وبعض الدول الإفريقية، حيث عززت موسكو وجودها العسكري والاقتصادي هناك، تجد فرنسا نفسها أمام تحدّياتٍ كبيرةً لاستعادة نفوذها في مناطق أخرى مثل الشرق الأوسط. وسوريا التي تعتبر نقطة استراتيجية على البحر الأبيض المتوسط، تمثل فرصة ذهبية لفرنسا لتستعيد دورها في المنطقة، وتضمن حضوراً دائماً على الساحة الدولية.
إنّ العودة الفرنسية إلى سوريا بعد الحرب قد تكون بمثابة محاولة لاستعادة مكانتها في المنطقة، على حساب تراجع الدور الروسي هناك. يمكن لفرنسا أن تسعى لتوسيع نفوذها عبر تقديم نفسها كقوة موازية في مواجهة النفوذ الروسي، خاصة مع تسارع الدعوات الأوروبية، لانسحاب القواعد الروسية من سوريا. هنا، يمكن لفرنسا استثمار القضايا السياسية والأمنية، مثل محاربة الإرهاب وحماية الأقليات، كورقة ضغط لتحقيق هذا الهدف، ما يسمح لها بتعزيز وجودها العسكري والدبلوماسي في سوريا.
أمّا من منطلق المصالح الاقتصادية، تطمح فرنسا للعب دور رئيسي في عدة مشاريع اقتصادية استراتيجية في البلاد، خصوصاً في قطاع الطاقة. ومن أبرز هذه المشاريع تطوير خطوط نقل الغاز والنفط عبر سوريا إلى أوروبا، مثل إعادة إحياء خط أنابيب الغاز العربي الذي يمر عبر سوريا إلى البحر الأبيض المتوسط. كذلك، يمكن لفرنسا أن تساهم في تجديد وتوسيع خطوط أنابيب النفط التي تربط العراق بسوريا، ما يساعد في تأمين إمدادات الطاقة الأوروبية ويعزز الاقتصاد السوري. كما أنّ فرنسا تستطيع الاستثمار في مشاريع الطاقة المتجددة في سوريا مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وهو ما يتماشى مع خططها لدعم تحول أوروبا إلى الطاقة النظيفة، مع إمكانية ربط هذه المشاريع بشبكات الطاقة الأوروبية.
إضافة إلى ذلك، يمكن أن تساهم فرنسا في تحديث البنية التحتية السورية، بدءاً من تطوير الموانئ السورية، مثل طرطوس واللاذقية، وصولاً إلى مشاريع الرّبط الكهربائي بين سوريا والدول المجاورة. هذا التعاون الاقتصادي سيمكّن فرنسا من تعزيز وجودها في قطاع الطاقة العالمي، بالإضافة إلى دعم إعادة الإعمار من خلال مشاريع البناء والصناعة التي تشمل تطوير المصانع والمرافق الإنتاجية. ستعزز فرنسا من خلال هذه المشاريع، موقعها الاستراتيجي في المنطقة.
مبررات عودة الدور الفرنسي إلى سوريا بعد الحرب
إن الإرث التاريخي الفرنسي في سوريا له دور حيوي في تأسيس الدولة الحديثة في هذا البلد، وهو ما يضع فرنسا في موقع استراتيجي قوي ومتقدّم لاستعادة دور محوري في عملية إعادة الإعمار بعد الحرب السورية. كما أنّ حضورها الدبلوماسي القوي وعلاقاتها الوثيقة مع الأطراف الفاعلة يمنحانها دوراً محوريّاً في التسوية السياسية وبناء مؤسسات الدولة الجديدة.
إضافة إلى ذلك فإنّ دور فرنسا في التحالف الدولي لمحاربة داعش والإرهاب في سوريا، يعزز من مبرراتها لتحقيق استقرار طويل الأمد في البلاد، حيث تشكل مشاركتها في محاربة الإرهاب جزءاً أساسياً من ضمان عدم عودة التنظيمات المتطرفة، ما يجعلها لاعباً رئيسياً في مرحلة ما بعد الحرب لضمان أمن المنطقة واستقرارها.
إن توجه فرنسا نحو حماية الأقليات في ظل تصاعد المخاوف يمكن أن يمنع انزلاق سوريا نحو حرب أهلية، بالاستناد إلى مبدأ “مسؤولية الحماية” (Responsibility to Protect) يعزز دورها السياسي والأخلاقي في حماية المدنيين والأقليات وضمان استقرار سوريا، ومنع أيّة صراعات جديدة.
في هذا السياق تسعى فرنسا إلى توحيد الصف الكردي في سوريا لتحقيق عدة أهداف استراتيجية؛ فمن جهة، يمنح الاستقرار في المناطق الكردية في شمال شرق سوريا فرنسا فرصةً لترسيخ حضورها كلاعب دولي في الأزمة السورية، خاصة مع تراجع نفوذ بعض القوى الأخرى. ومن جهة أخرى، يُمكّن توحيد الكرد فرنسا من بناء شراكة قوية مع القوى الكردية الفاعلة، مما يعزز نفوذها في الملفات الإقليمية عند التعامل مع تركيا وإيران، ويؤمّن لها دوراً في تحديد مستقبل سوريا السياسي. كما تسعى فرنسا من خلال هذا التوحيد إلى تأكيد التزامها بدعم الأقليات وحقوق الإنسان، ما يعزز صورتها كلاعب أخلاقي وسياسي في المنطقة.
تركيا وفرنسا: صراع المصالح في سوريا
في خضم الصراع المستمر على سوريا، والذي يعكس توازنات القوى الدولية والإقليمية، يتجدّد الخلاف التركي-الفرنسي حول الدور المستقبلي لكلّ منهما في إعادة تشكيل المشهد السوري بعد سقوط نظام الأسد. وقد أظهرت التصريحاتُ المتبادلة بين أنقرة وباريس خلال الأسابيع الماضية بوضوح مخاوفَ تركيا المتزايدة من أيّ دور فرنسي في مستقبل سوريا، خاصة فيما يتعلق بالشمال الشرقي والعلاقة مع الكرد.
أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، بشكل صريح، رفض بلاده لأي دور للقوات الفرنسية في سوريا، مؤكداً أنّ الولايات المتحدة هي الطرف الوحيد الذي تتعامل معه أنقرة في هذا الملف. تصريحات فيدان تعكس تخوفاً تركياً عميقاً من أيّ وجود فرنسي، سواء عبر تحالفاتها مع قوات سوريا الديمقراطية “قسد” أو من خلال دورها الدبلوماسي في دفع الحلول السياسية في دمشق.
يتجاوز التوتر بين تركيا وفرنسا حدود التصريحات إلى ما هو أعمق؛ ففرنسا كانت دائماً داعمة لقوات سوريا الديمقراطية. وقد أكّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مراراً أنّ باريس لن تتخلى عن المقاتلين الكرد الذين وصفهم بــ”المدافعين عن الحرية”، متعهّداً بمواصلة دعمهم في محاربة الإرهاب، ولا سيما تنظيم داعش. لذا فإن أحد الأسباب الجوهرية لرفض تركيا أيّ دور فرنسي في سوريا هو التحالف الوثيق بين باريس وقوات سوريا الديمقراطية. وقد أضافت تصريحات الرئيس الفرنسي حول ضرورة “النظر إلى تغيير النظام في سوريا بدون سذاجة”، وزيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى دمشق، بعداً جديداً للتوتر، حيث رأت أنقرة في هذه التحركات محاولة فرنسية لتثبيت دورها في مرحلة ما بعد الأسد.
دعا وزير الخارجية الفرنسي، خلال زيارته لدمشق، إلى التوصل لحل سياسي مع الكرد وإتلاف مخزون الأسلحة الكيميائية السورية، في إشارة واضحة لدعم باريس لحقوق الكرد، وتعزيز مكانتهم السياسية ضمن المشهد السوري. تصريحات بارو هذه، زادت من انزعاج تركيا، خصوصاً أنها تتزامن مع مبادرات للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا بأنْ تتولّى قواتٌ أمريكية وفرنسية مشتركة مراقبة الحدود بين سوريا وتركيا، ذلك ما ترفضه أنقرة بشدة.
تركيا، التي شنّت عدّة عمليات عسكرية في الشمال السوري، بحجّة حماية أمنها القومي، تنظر بعين الريبة لأيّة مبادراتٍ تقودها باريس. وتصريحات بارو بأن “مصالح تركيا وفرنسا وأوروبا تكمن في استقرار سوريا” لم تُقنع أنقرة التي ترى في التحركات الفرنسية محاولة لاستبدال الدور التركي في إدارة الملف السوري. كما أنّ أنقرة تخشى أن تستغلّ باريس إرثها التاريخي لتقديم نفسها كشريك موثوق في عملية الانتقال السياسي، مما يضعف الدور التركي الذي يعتمد بشكل كبير على علاقته بالجماعات الإسلامية. أي أن المخاوف التركية ليست فقط من التحالفات الفرنسية مع الكرد، بل أيضاً بشأن الدور الذي تسعى باريس للعبه في مرحلة إعادة الإعمار.
تعمل فرنسا، التي تعتبر نفسها صوتاً أوروبياً رئيسياً في الشرق الأوسط، على تأمين موطئ قدم سياسي واقتصادي في سوريا المستقبلية، فقد أكد الرئيس الفرنسي أن بلاده سترافق العملية الانتقالية في سوريا “بشكل مطول”، في إشارة إلى رغبة باريس في لعب دور مستدام فيها، وهو ما يتعارض مع مصالح وتطلعات تركيا التي ترى نفسها صاحبة اليد الطولى في تقرير مصير سوريا، وتسعى لتعزيز نفوذها عبر السيطرة على الشمال السوري، وضمان ولاء الحكومة الجديدة لها.
في المحصلة، يبدو أنّ مخاوف تركيا من الدور الفرنسي في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، تكمن في مزيج من العوامل التاريخية والجيوسياسية. حيث إنّ فرنسا، بفضل علاقاتها التاريخية مع سوريا، قد تسعى لاستعادة دورها كقوة مؤثرة في المنطقة، وهو ما يهدّد النفوذ التركي المتزايد هناك. علاوة على ذلك، فإن التوترات حول القضية الكردية تضع تركيا في مواجهة محتملة مع فرنسا حول مسألة تشكيل الحكومة المستقبلية في سوريا. فتركيا، التي تعتبر نفسها الضامن الأمني والمنافس الرئيسي في شرق البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، تدرك جيداً أن أي تحرك فرنسي في سوريا قد يعني تقليصاً لدورها الإقليمي. لذلك، فإنّ السؤال المطروح اليوم ليس فقط حول كيفية استمرار تركيا في التأثير على الأحداث في سوريا، ولكن أيضاً عن كيفية مواجهة التأثير المتزايد لفرنسا في معركة النفوذ المستمرة في المنطقة. وهل يمكن أن يؤدي تنامي الدور الفرنسي في الملف السوري لدفع تركيا لتقديم التنازلات، وخاصّة في الملف الكردي، لتحافظ على دورها ونفوذها في مستقبل سوريا؟
المصدر: مركز الفرات للدراسات
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=60922