مستقبل سوريا يعتمد على الأكراد
بعد أكثر من 50 عاما من الحكم بقبضة حديدية، تمت الإطاحة بنظام آل الأسد في سوريا قبل أسابيع قليلة. وقاد هجوم المتمردين ضد النظام أحمد حسين الشرع، الذي يعرف أكثر باسمه الحركي محمد الجولاني.
وكان الشرع المولود في سوريا قد أصبح الجولاني أثناء قتاله لصالح تنظيم القاعدة في العراق بين عامي 2003 و2006، وبعد قضاء خمسة أعوام في سجن للقوات الأميركية في العراق عاد إلى سوريا في عام 2011 لتأسيس جبهة النصرة الجهادية هناك، وهي أحد الفروع المحلية للقاعدة. وفي عام 2016 انفصل الشرع عن القاعدة وأسس هيئة تحرير الشام.
ويقول الدكتور ديفيد رومانو، أستاذ كرسي توماس جي سترونج لسياسة الشرق الأوسط في جامعة ولاية ميزوري الأميركية، إنه حتى مع سعيه إلى إظهار صورة جديدة أكثر اعتدالا، تعرضت هيئة تحرير الشام سريعا لاتهامات بقمع المعارضة في أجزاء من شمال شرق سوريا والتي جاءت للسيطرة عليها وفرض حكم استبدادي هناك بالتزامن مع تطبيق الشريعة الإسلامية.
وأضاف رومانو في تقرير نشرته مجلة “ناشونال انتريست” الأميركية أن الجولاني يأمل الآن في السيطرة على كل أنحاء سوريا. وقد كثف جهوده لعرض الاعتدال والشمول لطمأنة المجتمعات الدينية والعرقية المتباينة في سوريا ووجه قواته بعدم القيام بأعمال نهب أو هجمات انتقامية.
ويبدو أن جهوده تؤتي ثمارها، فبعد اجتماع عقد مؤخرا في دمشق مع دبلوماسيين أميركيين، وصفه الدبلوماسيون بأنه “جيد” و”مثمر للغاية”، رفعت الولايات المتحدة مكافأة تبلغ 10 ملايين دولار كانت قد رصدتها لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى اعتقال الجولاني قبل عدة أعوام. وبالمثل، يبدو أن الأوروبيين متحمسون إزاء هيئة تحرير الشام وبدأوا مناقشات لرفع اسم المنظمة من قائمة المنظمات الإرهابية.
وأشار رومانو إلى أن كل من تحدثوا معهم من المنطقة تقريبا بشأن الجولاني وهيئة تحرير الشام لا يصدقون ما يحدث. وقال إن صديقا إيرانيا سخر منه عندما سأله عن هذا الأمر وأجاب “لقد رأينا هذا من قبل في إيران. إنها لعبة قديمة، تماما مثلما حدث في عام 1979 عندما كان الناس يقولون إن الخميني ديمقراطي. لقد رأينا ما حدث.” وضحك آخر من العراق قائلا “هو ومن حوله جهاديون. ماذا يظن الناس؟ أنهم غيروا فجأة معتقداتهم وآراءهم؟”
ويرى رومانو أن الخطر يكمن في أنه بمجرد أن يرسخ نظام الجولاني الجديد الذي يقوده العرب السنة نفسه ويبدأ في الشعور بأمان أكبر، سوف تظهر حقيقته السابقة مجددا. وعندما يحدث ذلك، سينشأ نظام إسلامي متطرف في سوريا، وهي دولة ذات أهمية أكبر كثيرا من أفغانستان أو السودان أو أماكن أخرى ظهرت فيها مثل هذه القصة.
وتساءل رومانو عما يمكن أن تفعله الدول الغربية أو شعب سوريا لمنع هذه النتيجة، وقال إنهم لا يستطيعون تغيير طبيعة مقاتلي هيئة تحرير الشام الذين اكتسبوا صلابة من الحرب التي استمرت أعواما ولا أحد يرى الحاجة إلى القيام بذلك الآن، في المراحل المبكرة، وهم ضعفاء ولذلك يصدرون كل الأصوات التصالحية الصحيحة.
وقال رومانو مؤلف كتاب “الحركة القومية الكردية” (2006) والمحرر المشارك لكتاب “الصراع والتحول الديمقراطي والقضية الكردية في الشرق الأوسط” (2014) وكتاب “الأكراد في الشرق الأوسط: المشاكل الدائمة والديناميكيات الجديدة” (2020)، والأستاذ الزائر في جامعة كردستان في هولير (كردستان العراق 2024)، إن بإمكان الدول الغربية وشعب سوريا أن يضغطا بقوة من أجل تقاسم سلطة لامركزية في سوريا الجديدة بهدف الحد من الأضرار التي قد يسببها الجهاديون.
وإذا حكم الجهاديون فقط محافظات دمشق وحمص وحماة وإدلب، مع وجود قيود على قدرتهم على ممارسة حكم دكتاتوري مركزي على كامل أراضي سوريا، فقد يكون من الممكن إدارة الوضع بشكل أفضل. ويمكن للعلويين أن يظلوا آمنين داخل إداراتهم المحلية على الساحل. وينطبق الشيء نفسه على الدروز في جنوب غرب سوريا والأكراد في الشمال الشرقي، وكذلك المجتمعات المسيحية المتناثرة في مختلف أنحاء البلاد.
ويرى رومانو أن هذه النتيجة ستكون في مصلحة معظم سكان سوريا وكذلك القوى الغربية التي تشعر بالقلق من نظام إسلامي متطرف جديد ينشأ في دمشق. لكنها أيضا ستواجه معارضة شديدة من تركيا، التي تسعى حاليا إلى تدمير نموذج الحكم الذاتي المحلي الذي يوجد في الجزء الشمالي الشرقي من سوريا الذي يقوده الأكراد.
وقد كرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 23 ديسمبر تصريحات أدلى بها في عدة مناسبات تعارض اللامركزية، قائلا “الحفاظ على سلامة أراضي سوريا وهيكلها الوحدوي تحت كل الظروف هو موقف تركيا الثابت. لن نتراجع عن هذا على الإطلاق.”
وقال رومانو إن تركيا، بالطبع، لا تزال الداعم الرئيسي لهيئة تحرير الشام كما تنشر قوة سورية تعمل بالوكالة عنها تعرف باسم الجيش الوطني السوري الذي يتألف من جهاديين سنة ومرتزقة. ويهاجم الجيش الوطني السوري الإدارات المتمتعة بالحكم الذاتي بقيادة الأكراد وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة في شمال سوريا وغربها.
وسمحت تركيا، منذ فترة ليست بعيدة، بعبور جنود وموارد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من تركيا إلى سوريا. واعتبر رومانو أن هذه النتيجة مأساوية، خاصة لأن الإدارات المتمتعة بالحكم الذاتي في شمال شرق سوريا تظل هي الأخبار الجيدة الوحيدة التي نتجت عن الحرب الأهلية السورية (إلى جانب الإطاحة ببشار الأسد).
وقد وفرت هذه الكانتونات أو التقسيمات الإدارية العلمانية المتمتعة بالحكم الذاتي ملاذا آمنا للأكراد والعرب والمسيحيين واليزيديين والأرمن والسوريين العلمانيين، وغيرهم، وساعدت على بقاء الملايين من اللاجئين الآخرين بعيدا عن حدود أوروبا. كما أن مناطق الحكم الذاتي تعمل أيضا على تعزيز حقوق المرأة ومنح النساء والأقليات مناصب قيادية عليا.
وأشار رومانو إلى أن المنطقة ليست بالطبع مدينة فاضلة ديمقراطية؛ حيث يتم منع العديد من الأحزاب السياسية المنافسة، ومن بينها أحزاب كردية، من العمل في المنطقة، وتعمل قوات سوريا الديمقراطية والقوات المرتبطة بها بجد للحفاظ على احتكارها لاستخدام القوة وإبعاد أي جماعات مسلحة أخرى.
ورغم ذلك، حتى مع إغلاق الحدود مع تركيا وعدم السماح بدخول التجارة من بقية أنحاء سوريا وانفتاح محدود للغاية على كردستان العراق، تمت إعادة بناء المنطقة بعد الحرب بشكل مثير للإعجاب ولم يتبق سوى عدد قليل من المباني المدمرة. وبعد فترة راحة قصيرة من الحرب، رحبت الإدارات المحلية بالتنوع العرقي والديني ووفرت مساحة آمنة لجميع المجموعات هناك لسنوات عديدة بدءا من الآن.
ومع دفعة إضافية نحو التعددية السياسية، يمكن أن يكون هذا النوع من الترتيبات نموذجا للامركزية وتقاسم السلطة في سوريا الجديدة. وستمنح اللامركزية الطمأنينة لكافة المجموعات المتباينة في البلاد بأنه سيكون لها مكان ودور في المستقبل. ويقول رومانو إن الغرب، الذي يشعر بالقلق من احتمال ظهور نظام سلفي دكتاتوري في دمشق، سيكون أحمق إذا لم يدافع عن بديل موجود بالفعل على الأرض في سوريا.
وعلى الرغم من أن هذا سيتطلب صراع إرادة مع تركيا، فإن الولايات المتحدة بشكل خاص -بقواتها التي تتألف من ألفي جندي في شمال شرق سوريا- تستطيع ويتعين عليها أن تظهر تصميمها على عدم التخلي عن المجتمعات المتباينة هناك مع التـأكد في نفس الوقت من أنها لن تهدد تركيا على الإطلاق. وبإمكان واشنطن أن تتوسط في انتقال سوري يسمح بظهور اللامركزية في سوريا الجديدة وبذلك تقدم أملا لكل السوريين.
واختتم رومانو تحليله بالقول إنه إذا تم السماح بدلا من ذلك لأنقرة ووكلائها بالمطالبة بنظام سوري جديد مستبد ومركزي، فإن الحرب الأهلية السورية لن تكون قد انتهت حقا. وسيقاتل الأكراد ضد أي محاولة لإقصائهم وإسكاتهم مثلما كان يحدث في الماضي، وكذلك الجماعات الأخرى العربية غير السنية.
المصدر: العرب اللندنية
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=60958