الجمعة, نوفمبر 22, 2024

مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي ( الحلقة الثلاثون)  الأديب والمفكر أحمد أمين هل هو كردي؟ ( 1886 – 1954 م )

د. أحمد الخليل

الفكر والشخصية

إنتاج المرء امتداد لشخصيته ولعصره ولبيئته.

ولا يكفي أن نقرأ أدب الأدباء وفكر المفكرين.

وإنما ينبغي أن نقرأ سيرهم أيضاً.

فعندئذ نفهمهم بشكل أفضل وبكيفية أعمق.

ولو كان ممكناً لاقترحت على الكتّاب أن يكتبوا سيرهم أولاً، ثم ينشروا مؤلفاتهم، لكن ذلك غير ممكن، فالقضايا والأفكار تختطفهم من أنفسهم، ولا يلتفت معظمهم إلى نفسه إلا في خريف العمر، ومع ذلك فلا بأس، فالتجربة تصبح أكثر نضجاً، والرؤية أكثر وضوحاً، وحينئذ يكون التأثير أبلغ، والفائدة أعمّ.

أقول هذا وأنا أرجع بالذاكرة إلى ما قبل أربعين سنة خلت؛ حينذاك كان لهونا الأكثر متعة هو المطالعة، ورغم أن المركز الثقافي في مدينة (عفرين) كان في طور التأسيس، وما كان ثمة بناء فخم ضخم، ولا قاعة مسرح، ورغم أن الكتب كانت قليلة، فقد كان الإقبال أكثر، بل كنا لا نجد أحيانًا طاولات كافية لنطالع عليها. وأذكر أني كتبت في إحدى حلقات سلسلة (عفرين بوّابتي إلى العالم): ” أمة لا تقرأ، أمة بلا ملامح “. وما زلت أؤمن بما كتبت حينذاك، بل أقول أكثر: ” شخصٌ لا يقرأ هو شخصٌ خارج العالم “. وأقول أيضاً: ” أمةٌ لا تقرأ هي أمةٌ خارج التاريخ “.

وخذوا مثقّفاً- أيّ مثقّف- تنتمي ثقافته التأسيسية إلى عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، واسألوه: من الأديب/المفكر الذي قرأت له، وتأثرت به أكثر؟ ستجدون أسماء معيّنة تتردد كل مرة: عبد الرحمن الكواكبي، مصطفى لطفي المنفلوطي، طه حسين، عبّاس محمود العقّاد، عبد القادر المازني، أحمد أمين، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، أحمد شوقي، جميل صدقي الزهاوي، معروف الرصافي، إيليا أبو ماضي، جبران خليل جبران، ميخائل نعيمة، وآخرون.

وتعود معرفتي بأحمد أمين إلى فترة التأسيس الثقافي الخاصة بي، وأذكر أني كنت أقرأ له حينذاك (فيض الخاطر)، و(فجر الإسلام)، و(ضحى الإسلام)، ولعله من أوائل كتّاب التاريخ الذين تعلّمت على أيديهم قراءة المعلومات التاريخية الخاصة بالعهود الإسلامية، ولعله أيضاً من الأوائل الذين تعرّفت في كتاباتهم فن النقد عبر كتابه (النقد الأدبي)، على أنه وقع بين يديّ منذ سنتين كتاب له بعنوان (حياتي)، وإذا بي أكتشف الرجل من جديد، ولذا كانت هذه الحلقة.

منهجي

وقد آليت على نفسي- وأنا أكتب هذه الحلقات-  ألا أكون حاطب ليل، كما أني لا أجد نفعاً في اختلاق المعلومات وتلفيق الأباطيل وخلط الأمور، بل أجد في ذلك الضرر كل الضرر؛ ولا سيما عندما يكون الأمر متعلّقاً بمعلومات تاريخية، ألم أكتب في مدخل هذه الحلقات أن ” التواريخ مقدّسات”؟! إذاً كيف لي أن أنتهكها؟! ألم أكتب أن كتابة التاريخ ” مسؤولية “؟! إذاً كيف لي أن أدير ظهري لهذه المسؤولية؟!

ثم إني لا أرضى لنفسي- كما لا أرضى لغيري- أن تركبني (النرجسية)، فأشن الحملات الشعواء على تراث الشعوب، لأنهب منه كل ثمين، وأضمّه إلى تراث الكرد، أو أن أغزو تواريخ الأمم، وأسلبها مشاهيرها، وأضع على كل منهم طابع (كردي)، فذلك ما لا يفعله عاقل دعك من مثقّف أو محبّ للثقافة، ولا ينشغل به إلا كل محدود الرؤية، ضيّق الأفق، هو إلى الجهلة والغوغاء أقرب منه إلى المثقفين والعلماء، وكنت – وما زلت – أؤمن أن هذا العالم آية من آيات الله، إنه جميل بتنوّع شعوبه، رائع بتفاعل ثقافاته، وينبغي أن يبقى جميلاً رائعاً.

  ولذا كان منهجي في هذه السلسلة أن أصرّح بالأصل الكردي للعَلَم الذي أكتب عنه؛ إذا كانت الوثائق التاريخية لا تترك مجالاً للشك في أنه كردي. وأن أرجّح الأصل الكردي للعلَم، إذا كان بين يديّ من الأدلّة والقرائن ما يعطيني حق الترجيح من المنظور العلمي. وأجدني في هذه الحلقة لست بالجازم ولا بالمرجّح، وإنما أقف موقف (المتسائل)؛ فأتساءل مع القارئ: هل أحمد أمين من أصل كردي؟

والذي حملني على ذلك هو أحمد أمين نفسه، رحمه الله.

وإليكم التوضيح.

رأس كردي!

بلى، وقفنا في حلقة سابقة عند (زيت كردي!)، و(سمّاق كردي!)، و(عقل كردي!)، وها نحن نقف الآن عند تسمية جديدة؛ إنها (رأس كردي!)، والحق أني لست صاحب براءة اختراع هذه التسميات، وإنما أنقلها كما سمعتها أو قرأتها، وقد نقلت التسمية الجديدة من أحمد أمين، فهو يقول في كتابه (حياتي،ص 56):

” نظر مرة إلى رأسي أستاذ جامعي في علم الجغرافيا، وحدّق فيه، ثم قال لي: هل أنت مصري صميم؟ قلت: فيما أعتقد. ولم هذا السؤال؟ قال: إن رأسك – كما يدل عليه علم السلالات – رأس كردي “.

ويضيف معلّقاً على سؤال الأستاذ الجامعي:

” ولست أعلم من أين أتتني هذه الكردية؟! فأسرة أبي من بلدة (سُمُخراط)، من أعمال البحيرة، أسرة فلاحية مصرية، ومع هذا فمديرية البحيرة على الخصوص مأوى المهاجرين من الأقطار الأخرى، فقد يكون جدي الأعلى كما يقول الأستاذ كردياً أو سورياً أو حجازياً أو غير ذلك. ولكن على العموم كان المهاجرون من آبائي ديمقراطيين من أفراد الشعب، لا يؤبه بهم ولا بتاريخهم، ولكن لعل مما يؤيد كلام الأستاذ أني أشعر بأني غريب في أخلاقي وفي وسطي “.

وبالتدقيق في قول أحمد أمين نخرج بما يلي:

أولاً: أن من ربط بين رأس أحمد أمين والأصل الكردي ليس شخصاً عادياً، وإنما هو ” أستاذ جامعي في علم الجغرافيا “؛ أي أنه مختص أكاديمياً في مجال الجغرافيا البشرية، وما يتفرّع على هذا المجال من علم السلالات، ومعروف أن هذا العلم من العلوم الدقيقة والمعتمَدة في ميادين التأصيل السلالي، حتى وإن كان قد مرّت على جمجمة ما آلاف السنين.

وثانياً: أن أحمد أمين لم يُنكر على الأستاذ الجامعي قوله، ولم يقل له: لا، لست كردياً، وكان بالإمكان أن يقول ذلك، ونحسب أن الذي منعه من ردّ قول الأستاذ الجامعي هو شعوره، وربما من اجتماع قرائن أخرى، بأن في قول الأستاذ الجامعي قدراً ما من الصحة.

وثالثاً: أن أحمد أمين لم يمرّ بقول الأستاذ الجامعي مروراً سريعاً، ولم يتعامل معه تعامل من لا يعبأ به، وإنما وقف عنده، وصار يقلّب فيه النظر، ولخّص رأيه في المسألة قائلاً: “ ولكن لعل مما يؤيد كلام الأستاذ أني أشعر بأني غريب في أخلاقي وفي وسطي “.

ورابعاً: لو لم يكن أحمد أمين مهتماً بالأمر، منشغلاً به، لعدّ كلام الأستاذ الجامعي أمراً عابراً، ولما حرص- بعد سنوات كثيرة- على أن يورده في كتاب خاص بحياته، ولما بحث عن قرائن تجعله لا يستبعد الأمر، وكانت القرائن- حسبما ذكر- هي طباعه وأخلاقه.

وخامساً: لماذا اتخذ أحمد أمين طباعه وأخلاقه قرينة تقوّي احتمال صحة قول الأستاذ؟ هل كان على معرفة بالشخصية الكردية؟ لا شك في ذلك، وكيف لا وهو الموسوعي الثقافة، وكاتب الدراسات التاريخية؟! ثم إنه كان طالباً في الأزهر، وكان يعرف (رواق الكرد) فيه، ولعله كان يخالط الطلبة الكرد في ذلك الرواق، كما أنه كان معاصراً لمشاهير آخرين من الكرد المصريين، منهم: أحمد تيمور وأبناؤه، وقاسم أمين، وأحمد شوقي.

وسادساً: هل ثمة خصوصية ما للشخصية الكردية؟ نعم، بكل تأكيد. وكذلك الأمر بالنسبة للشعوب الأخرى، فالشعوب تتشابه في بعض الطباع والصفات، لكنها تختلف في بعضها الآخر، ومن الطباع التي شهد بها الآخرون للكرد قديماً وحديثاً: الصدق، والاستقامة، والأمانة، والإخلاص، والجدّية، والانفتاح على الآخر، وشدّة الاحتمال، والصلابة في الموقف، وعدم السكوت على القهر، والحدّة، وارتكاب أية حماقة عند الغضب، وسرعة الرضا. وأتحدث هنا عن الصفات الكردية الأصيلة، وليس الصفات الدخيلة التي باتت تتفشّى في المجتمع الكردي.

وسابعاً: كانت مصر- إضافة إلى بلاد الشام- المهجر المحبَّب إلى الكرد منذ عهد الدولة الأيوبية (1171 – 1250 م)، وهاجر إليها خلال تلك الفترة آلاف الأسر الكردية، وانتشر فيها الكرد من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، وكانوا بين حاجب، وجندي، وموظف، وعالم، وتاجر، وإقطاعي، فهل انقرض أحفاد هؤلاء دفعة واحدة؟

وأحسب أننا أطلنا الوقوف عند هذه المسألة، و لا بأس في ذلك، فهي محور الحلقة، وكم أتمنى لو أن بعض أولاد أحمد أمين وأحفاده في مصر، أو بعض الكرد المصريين، بحث في هذا الأمر، وأطلعنا على القول الفصل فيه.

ولننتقل الآن إلى سيرة الرجل.

في القاهرة

أحمد أمين بن إبراهيم الطبّاخ، من أسرة فلاحية من بلدة سُمُخْراط، وكانت تملك فيها نحو اثني عشر فداناً من الأرض، لكن توالى عليهم ظلم السخرة وظلم الضرائب، فخرج والد أحمد أمين وأخاه الأكبر في ليلة من الليالي، يحملان معهما القليل من الزاد والأثاث، تاركين الأرض مباحة لمن يستولي عليها، ونزلا في القاهرة، حي (المنشية) قسم الخليفة، حيث لا قريب ولا مأوى، وكان قسم الخليفة من أكثر أحياء القاهرة عدداً، وأقلها مالاً، وأسوأها حالاً، ولم تمسّها المدنية الحديثة إلا مسّاً خفيفاً.

وسكن الأخوان المهاجران في بيت صغير بحارة العيادية المتواضعة، وعاشا على القليل مما ادّخرا، ولقيا كثيراً من البؤس والعنت في أيامهما الأولى بالقاهرة، لكن سرعان ما شقّ الأخ الكبير (عمّ أحمد أمين) طريقه في الحياة، فكان صانعاً كسوباً، ووجّه أخاه الأصغر (إبراهيم) نحو العلم، واحتمل نفقته.

وتقدّم إبراهيم في طريق العلم بعزيمة قوية، فحفظ القرآن، والتحق بالأزهر، وكان ذا خطّ جميل، وكان كلما احتاج إلى كتاب يقرأه خطّه بيمينه، كي لا يرهق أخاه الأكبر بالإنفاق عليه، وأعانه على ذلك – حسبما يذكر أحمد أمين (حياتي، ص 58)- أنه ” لم يتعوّد لعباً قطّ، ولا جلس على مقهى قطّ، وإنما كانت حياته جدّ في جدّ “.

ونجح إبراهيم في دراسته الأزهرية، رغم طول مدتها وصعوبة موادّها، وعمل مصحّحاً في المطبعة الأميرية ببُولاق، ثم مدرّساً في مدرسة حكومية أحياناً، وتزوّج من فتاة أصلها من (تلا) من أعمال المنوفية كان أهلها يسكنون القاهرة، وولد أحمد أمين سنة (1886 م)، وكانت ولادة في بيت متواضع طابعه البساطة والنظافة.

شخصية والده

كان والد أحمد أمين مولعاً بالكتب في مختلف العلوم، في الفقه، والتفسير، والحديث، واللغة، والتاريخ، والأدب، والنحو، والصرف، والبلاغة، فكانت الكتب تشغل الحيّز الأكبر من البيت، وكانت أثمن ما فيه. وقد استفاد أحمد أمين من مكتبة والده العامرة، واتخذها نواة لمكتبته من بعد، وكان – الوالد- يغلب عليه الجد، وكان صارماً في تربية أولاده بقدر ما كان رحيماً بهم، وكان صاحب الكلمة الأولى في أمور البيت، يقول أحمد أمين (حياتي، ص 61 – 62):

” أما إيناسنا، وإدخال السرور والبهجة علينا، وحديثه اللطيف معنا، فلا يلتفت إليه، ولا يرى أنه واجب عليه، يرحمنا ولكنه يخفي رحمته، ويظهر قسوته، وتتجلّى هذه الرحمة في المرض يصيب أحدنا، وفي الغيبة إذا عرضت لأحد منا، يعيش في شبه عزلة في دوره العالي،… وقلّما يلقانا إلا ليقرئنا، أما أحاديثنا وفكاهاتنا ولعبنا فمع أمنا …. ولكن كان بيتنا – على الجملة- جدّاً لا هزل فيه، ومتحفّظاً ليس فيه ضحك كثير ولا مرح كثير، وذلك من جدّ أبي وعزلته الشديدة “.

ويصف أحمد أمين بساطة حياة والده قائلاً (حياتي، ص 194 – 195):

” وهو في حيّه محترم، إذ هو أكبر رجل ديني في الحيّ، يقوم له الناس إجلالاً إذا مرّ عليهم، ويفزع إليه الأغنياء والفقراء في أمورهم الدينية، وفي الفتيا في مسائل الزواج والطلاق والميراث، … وهو بسيط في أكله وشربه ولبسه ونومه، حتى ليأكل ما قدّم إليه من غير ضجر، وينام على حشية من غير سرير، ويلبس في دقيقة ملبسه البسيط في غير أناقة. يشتد على أولاده فلا يعطيهم من المال إلا بقدر الحاجة حتى لا يفسدوا، ويحاسبهم على تعلّمهم محاسبة عسيرة “.

ويذكر اهتمام الوالد بتعليم أولاده وبناته فيقول (حياتي، ص 194 – 195):

” فهو يمتحنهم في حفظ القرآن وحفظ المتون وفي فهم دروسهم، فإذا أخطؤوا حَسْبل وحَوْقل، وقد يغضب ويضرب، وكل صحبتنا له صحبة درس جديد أو امتحان في درس قديم، ولا أذكر أنه مزح معنا، وقلّ أن ضحك في وجوهنا، ولذلك كان اطمئناننا ومرحنا القليل ساعة يغيب عن البيت، وخوفنا ورهبتنا وحبس أنفاسنا ساعة يحضر، ومن مزاياه أنه كان يرى تعليم البنت كما يعلَّم الابن، فأرسل أختي الكبرى إلى المدرسة السيوفية، وكانت المدرسة الوحيدة المصرية لتعليم البنات، في حين أن أكثر الناس كان يرى تعليم البنت في المدارس جريمة لا تغتفر “.

وكان الشعور الديني يغمر البيت، فوالده يؤدي الصلوات في وقتها، ويربي أولاده تربية دينية، فيوقظهم في الفجر ليصلّوا، ويراقبهم في أوقات الصلاة الأخرى، ويسائلهم عنها؛ متى صلّوا؟ وأين صلّوا؟ ويربط أحمد أمين بين شخصيته وطريقة التربية التي تلقّاها في بيته قائلاً (حياتي، ص 67):

” ثم إن كل خصائص البيت التي ذكرتها انكعست في طبيعتي، وكوّنت أهمّ مميّزات شخصيتي، فإن رأيت إفراطاً في جانب الجدّ، وتفريطاً معيباً في جانب المرح، أو رأيت صبراً على العمل وجَلَداً في تحمّل المشقّات، واستجابة لعوامل الحزن أكثر من الاستجابة لعوامل السرور، فأعلم أن ذلك كله صدى لتعاليم البيت ومبادئه، … أو رأيت بساطتي في العيش، وعدم احتفائي بمأكل أو بمشرب أو ملبس، وبساطتي في حديثي وإلقائي، وبساطتي في أسلوبي، وعدم تعمّدي الزين والزخرف فيه، وكراهيتي الشديدة لكل تكلّف وتصنّع في أساليب الحياة، فمرجعه إلى تعاليم أبي، وما شاهدته في بيتي “.

من التعلّم إلى التعليم

بدأ أحمد أمين تعليمه في الكتاتيب، كغيره من الصبية حينذاك، ثم انتقل إلى مدرسة حكومية، وقد وضع له والده برنامجاً تعليمياً مرهقاً، وألزمه في المظهر والمخبر بما أثقل كاهله، قال يصف ذلك (حياتي، ص 86، 90):

” ها أنا في سنّ الرابعة عشرة تقريباً، يلبسني القباء والجبّة والعمّة والمركوب [الحذاء الشعبي]، بدل البذلة والطربوش والجزمة[الحذاء الحديث]، ويكون منظري غريباً على من رآني في الحارة أو الشارع، فقد عهدوا أن العمامة لا يلبسها إلا الشاب الكبير أو الشيخ الوقور. أما الصغير مثلي فإنما يلبس طربوشاً أو طاقية، ولذلك كانوا كثيراً ما يتضاحكون عليّ إذا رأوني بالعمّة، وكثيراً ما أرى الأولاد في الشارع يتغامزون عليّ، فأحسّ ضيقاً او خجلاً، أو أتلمّس الحارات الخالية من الناس لأمرّ بها… ومما آلمني أني أحسست أن العمامة تقيّدني، فلا أستطيع أن أجري كما يجري الأطفال، ولا أمرح كما يمرح الفتيان، فشخت قبل الأوان “.

واستكمل أحمد أمين دراسته في الأزهر، وبدأ حياته العلمية مدرساً للغة العربية، ثم انتسب إلى (مدرسة القضاء الشرعي)، ووصف تشدد الأزهريين وجمودهم حينذاك، إذ لاحظ أن واضعي منهاج (مدرسة القضاء الشرعي) تجنّبوا ذكر كلمة (الطبيعة)، كي لا يغضب الأزهريون، لأنهم كانوا يتناقلون بيتاً مشهوراً هو:

ومن يقل بالطبع أو بالعلّةْ   

                         فذاك كفرٌ عند أهل الملّةْ

وعمل أحمد أمين بعد تخرّجه قاضياً في جنوبي مصر، وتعلّم الإنجليزية، وكان يتردّد على صاحب مكتبة، بالسكّة الجديدة بحيّ الأزهر، غريب الأطوار، من أصل أناضولي، اسمه أحمد أدهم – يحتمل أن يكون كردياً أيضاً- أمين، صادق المعاملة، يقنع بكفاف العيش وبساطة اللبس، فكانت مكتبته كأنها مقهى، يطالع فيها الناس الكتب، وقد يشترونها وقد لا يشترونها، ويبيع الكتاب لهاويه بجنيه، ولا يرضى أن يبيعه لمن لا ينتفع به بجنيهين، وكان مشهوراً بين معارفه بأنه لا يعترف بالأولياء والأضرحة وزيارة القبور ونحو ذلك، ولا يكتم عقيدته، وقد ركب مرة القطار من القاهرة إلى الإسكندرية، فلما وصل القطار إلى طنطا قال أحد الحاضرين: الفاتحة للسيد البدوي. فصاح الكتبي: ومن يكون السيد البدوي؟ وما كراماته؟ وما قيمته؟ فأوسعه الحاضرون ضرباً، ولم ينج منهم إلا بعد عناء.

صاحب أسرة

تزوج أحمد أمين سنة (1916 م)، وقال في تجربته الجديدة هذه (حياتي، 182):

” بعد تجارب طويلة رأيت أن العقل أسخف وسيلة للتفاهم مع أكثر من رأيت من السيدات فأنت تتكلّم في الشرق، وهن يتكلمن في الغرب، … وهكذا أدركت أن من الواجب ألا ألتزم المنطق، وأني إذا أردت الراحة والهدوء فلأضحّ بالمنطق أحياناً “.

ووصف استغراب زوجته لما لمسته من طباعه، فقال (حياتي، ص 180):

 ” ولكن صدم زوجي بعد قليل أن رأتني هادئاً غير مرح، قليل الكلام، وقد تربّت في بيت مرح مملوء بالضحك والبهجة، يكثر فيه الحديث في الفارغ والملآن، فظنت أني لا أقدّرها أو نادم على الزواج بها، وأؤكد لها أن هذا طبعي كسبته في بيتي، فلم تصدّق ولم تطمئن إلا بعد طول العشرة ووثوقها من أني كذلك مع غيرها لا معها وحدها “.

وقال في طريقة تربيته لأولاده (حياتي، ص 182):

” وقد كنت قاسياً على أولادي الأولين، شديد المراقبة لهم في دروسهم وأخلاقهم، وأعاقبهم على انحرافهم ولو قليلاً، ولا أسمح لهم بالحرية إلا في حدود، حسب عقليتي إذ ذاك، ولكنها على كل حال قسوة لا تقاس بجانب قسوة أبي عليّ، وكلما تقدّمت بي السن، واتسع تفكيري، أقللت من تدخّلي، وأكثرت من القدر الذي يستمتعون فيه بحريتهم “.

وكان أحمد أمين راغباً في التقليل من الأولاد، توفيراً للزمن الذي يحتاجه للدرس والتحصيل، لكن زوجته أخذت بالمثل العامي ” قصيّه قبل ما يطير “، فرُزق بعشرة من الأولاد، توفّي منهم اثنان، وبقي له ستّة ابناء وابنتان، وها هوذا يقول (حياتي، ص 180 -181):

” لأعجب من لنفسي ويعجب لي غيري كيف استطعت أن أؤلف ما ألّفت، وأكتب ما كتبت، واقرأ ما قرأت، مع ما تتطلّبه تربية الأولاد من جهود لا نهاية لها، ويرجع الفضل في ذلك إلى الأم وحملها عني الأعباء التي تستطيع القيام بها، واكتفائي بالإشراف على تربيتهم العلمية والخلقية، ثم تقصيري في إطالة الجلوس معهم، ومسامرتهم، وإطالة عزلتي على مكتبي “.

ووصف ابنه جلال حياة والده قائلاً (في بيت أحمد أمين، ص 7):

” وحياة أحمد أمين العالئلية حياة هادئة مستقرة، لم يعكّرها زواج آخر أو طلاق أو نزوات طارئة، وهو عادل أيضاً في معاملته لأولاده، فلا أذكر أنه أبدى إيثاراً لواحد منا على الآخرين، وهو يريدنا أن نحكّم العقل أيضاً في أشد الأعمار طيشاً “.

في المجال الأكاديمي

في سنة (1926 م) دعا الدكتور طه حسين صديقه أحمد أمين أن يكون مدرساً في كلية الآداب بالجامعة المصرية، فتردّد ثم قبل، وفي سنة (1927 م) خلع العمة والجلباب، ولبس الطربوش والبذلة بعد سبعة وعشرين سنة من التعمم والتجلبب، وانتخب عميداً للكلية سنة (1939 م)، ثم أقيل، وظل يعمل في الكلية إلى أن أحيل إلى التقاعد سنة (1946)، في سنة 1948 م منحه مجلس كلية الآداب ومجلس جامعة فؤاد الأول الدكتوراه الفخرية، ومُنح جائزة فؤاد الأول، وكانت تُمنح لمن ينتج أحسن عمل في الآداب والعلوم والفنون.

وأحمد أمين كاتب غزير الإنتاج، متنوّع الاهتمامات الثقافية، له من المؤلفات: كتاب (فيض الخاطر) وهو مجموعة مقالات، و(فجر الإسلام)، و(ضحى الإسلام)، و(ظهر الإسلام)، وقد تناول في هذه السلسلة مسيرة الحضارة الإسلامية على نحو عقلاني متدرّج، وله (يوم الإسلام)، و(الصعلكة والفتوّة في الإسلام)، و(هارون الرشيد)، و(زعماء الإصلاح في العصر الحديث)، و(الإمام محمد عبده)، و(الأخلاق)، و(النقد الأدبي)، و(قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية)، و(المهدي والمهدوية)، و(إلى ولدي)، و(حياتي). كما أنه ترجم كتابي (مبادئ الفلسفة) و(الشرق والغرب)، وحقق اثني عشر كتاباً بالاشتراك مع آخرين.

وجدير بالذكر أن أحمد أمين جمع بين التعمّق في الثقافة التراثية والثقافة الحديثة، واطّلع على الفكر الأوربي؛ لذا نجده يوفّق في كتاباته وأفكاره بين أصول الفكر العربي الإسلامي ومقتضيات التطور في عصره. أضف إلى هذا أنه قام برحلات إلى أوربا وإلى دول عديدة في الشرق (لبنان، سوريا، العراق، السعودية، تركيا)، ورغم أنها كانت رحلات قصيرة، لكن فطنة أحمد أمين ودقة ملاحظته مكّنته من أن يخرج منها بملاحظات ثمينة ومقارنات طريفة.

وساهم أحمد أمين في نشاطات مجمع اللغة العربية في القاهرة، وفي المجمع العلمي العربي في دمشق، وفي عدد من مؤتمرات الاستشراق، وشهد له من كتب عنه بمكانته العلمية، قال محمد السيد عيد في (أحمد أمين، ص 3):

” ودور أحمد أمين في النهضة ليس محدوداً، بل هو دور متعدد الجوانب، بالغ الثراء، فهو صاحب المحاولة الأولى لكتابة تاريخ الإسلام العقلي، وهو أحد الروّاد الأوائل للدراسات النقدية والشعبية “.

وذكر سامح كريّم في (إسلاميات، ص 60) أن من خصال أحمد أمين العلمية:

” خصلة التعميم والتنظيم، فقد كانت لديه قدرة غريبة على استخلاص الأفكار الكلية التي تجمع الجزء إلى الجزء، وتضمّ العنصر إلى العصر، فإذا الكل يستوي قائماً، وإذا الفكرة تتمثل واضحة، وهو لذلك دائم التحوّل من الجزئيات إلى الكليات“.

وخصلة أخرى تنبّه لها سامح كريّم في (إسلاميات، ص 61)، هي الحرية العقلية:

” فهو يجهر بالحق في صراحة، وبدون مواربة، وبدون أيّ تكلّف، يجهر به في كل ما يمسّ الحياة دنيا ودين، ومن خير ما يمثّل ذلك موقفه من المعتزلة، فقد كان ينصرهم دائماً ويشيد بهم، ولكن ذلك لم يستر معايبهم، فمضى يشرحها شرحاً واسعاً “.

ومن خصاله أيضاً (إسلاميات، ص 61):

” عدالته في الحكم على الأشخاص والآراء، عدالة ملؤها النزاهة “، و” الطموح إلى تحقيق المثل الأعلى في البحث الدراسة “.

شخصيته وآراؤه

أحمد أمين في شخصيتة يشبه كثيرين من أعلام الكرد عبر التاريخ، فهو مخلص لأصدقائه، ومثال ذلك أنه لم يتخلّ عن صديقه الدكتور طه حسين، حينما تعرّض لانتقادات شديدة من الجهات المناوئة لارائه المنفتحة، ونُقل على أثر ذلك من كلية الآداب إلى وظيفة في وزارة المعارف، وأوذي أحمد أمين في ذلك، وأقيل من عمادة الكلية، وهذا يذكّرنا بالحافظ العراقي، وإخلاصه للشيخ العز بن عبد السلام.

ووصفه محمد نبيه حجاب في (أحمد أمين فيلسوف الأدباء، ص 15) بأنه كان:

” عصبي المزاج، ومن ثمّ كان شديد الحساسية لكلمة تمسّه أو لفعل يجرحه، لا ينام الليل إذا سمع كلمة نابية صدرت في حقه، ومع ذلك في الناحية العلمية كان رحب الصدر، لا يضيق بناقديه، ولا يحزنه نقد كتبه ولا نقد آرائه، وهذه سمة العالم الواثق مما يقول “.

وكان أحمد أمين حريصاً على استقلاله الفكري، وقد شارك في ثورة سنة (1919 م) ضد الإنكليز، لكن حرصه على استقلاله الفكري حال دون انضمامه إلى الأحزاب السياسية، وقال محمد نبيه حجاب في (أحمد أمين فيلسوف الأدباء، ص 16 ):

” كما كانت له الشجاعة في قول الحق مع التزام الصدق، وفي ذلك يقول الدكتور الأهواني: كان حر الفكر إلى أبعد حدود الحرية، لا يقول إلا ما يعتقد، ولا يحفل إلا بالحق وحده، جاهر برأي المعتزلة أهل العقل وأحرار الفكر في الإسلام، وانتصر له، مع أن المسلمين عارضوا أصحاب هذا المذهب وكفّروهم في القرن الرابع الهجري“.

وقال ابنه جلال أمين في مقدمة كتاب (في بيت أحمد أمين، ص 6) :

” أحمد أمين رجل معتدل أشد الاعتدال في أحكامه الشخصية والعامة، قادر على إخضاع عواطفه للمنطق، ويأبى أن يترك لها العِنان، وهو من أكثر الناس استعداداً للاعتراف بالخطأ وترحيباً بالنقد العاقل، … وهو أكثر الناس نفوراً من النفاق وسأماً منه “.

وقد توقّف هو نفسه عند شخصيته في (حياتي، ص 251)، فذكر أنه أقرب إلى الواقعية، يحكمه المنطق، ويحب الاختفاء والهدوء، معتدل إذا أحب أو كره، بطيء في الحكم على الأشخاص والأشياء، هادئ إذا صادق أو عادى، قلق مضطرب، غضوب، ضيق النفس بالأحداث، غير ماهر في الحديث وجذب الناس، وقال (حياتي،ص 292):

” ثم لي نزعة صوفية غامضة، فأشعر في بعض اللحظات بعاطفة دينية تملأ نفسي، ويهتز لها قلبي، وأكبر ما يتجلّى هذا عند شهود المناظر الطبيعية الرائعة، … ومزاجي فلسفي أكثرمنه أدبياً، حتى في الأدب أكثر ما يعجبني ما غزر معناه ودقّ مرماه، فيعجبني الجاحظ وأبو حيّان التوحيدي وابن خلدون، أكثر مما يعجبني الحريري والقاضي الفاضل والصاحب بن عبّاد وطريقته، والعماد الأصفهاني ومدرسته “.

ومن آرائه التي وردت في كتابه (حياتي):

– في الثقافة: ” فالأديب والفيلسوف من طبيعتهما أن يختزنا في أنفسهما كل ما يقع تحت حسهما في وعي أو غير وعي، ولا يدري أحدهما متى ينتفع بهذا وكيف ينتفع، ولكنه سينتفع على كل حال “.

–  في المرأة: ” لو نسب الفضل الأكبر في المدنية الحديثة لكان أكثره يعود إلى المرأة، فالمرأة التي تربّي الأمة هي التي تعوّد أبناءها النظام والأخلاق… حتى لو قلت: إن مقياس رقيّ الأمم التي شاهدتها هو درجة المرأة في الرقي وانهمار الأمطار في أوقات مختلفة لم أكن بعيداً عن الصواب “.

–  وقال في تربية الأولاد: ” تربية الأولاد ليست تجارة، تعطي لتأخذ وتبيع لتربح، إنما هي واجب يؤديه الآباء لابنائهم وأمتهم“.

وتوفي رحمه الله سنة (1954 م).

عود على بدء

ولنعد إلى العنوان: هل أحمد أمين من أصل كردي؟

بعد أن اطّلعت على سيرة أحمد أمين كما كتبها هو، وكما وصفها ولداه حسين وجلال، وبعد اطّلاعي على ما ذكره الآخرون، وما قدّمه من إنتاج علمي غزير وقيّم، وقياساً بما أعرفه من طباع الكرد عامة، وبما خبرته من خصال أعلامهم، ونهجهم العقلي الفلسفي في تناول الأمور، أجدني أرجّح أن تكون أصول أحمد أمين كردية.

ولست بالراغب في الحديث عن نفسي، لكن أصدقكم القول- معشر القراء- أنه كلما كنت أقرأ ما كتبه أحمد أمين عن والده وعن نفسه كنت أتذكّر والدي – رحمه الله- وشخصيته وطباعه (الهدوء، حب العزلة، طيبة القلب، بساطة المظهر، الحزم والصرامة معنا في الظاهر، والشفقة الخفية، عدم التهاون في مسائل الأخلاق والعلم، الجَلد على العمل، جمال الخط، الإباء، الغضب الشديد، الرضا السريع). بل كأنما كان أحمد أمين يتحدّث بلساني في أحيان كثيرة، ويمكن التأكد من ذلك بالعودة إلى سلسلة (عفرين بوّابتي إلى العلم)، وكنت أنشرها في موقع (تيريج) منذ عامين وأكثر.

المراجع

  1. أحمد أمين: حياتي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1971م.
  2. حسين أحمد أمين: في بيت أحمد أمين، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط 2، 198م.
  3. خير الدين الزركلي: الأعلام، دار صادر، بيروت، ط 4،  1977م.
  4. سامح كريّم: إسلاميات، دار القلم، بيروت، ط 2، بيروت، 1977م.
  5. عمر الإمام: أحمد أمين والفكر الإصلاحي العربي الحديث في فيض الخاطر، دار محمد علي الحامي، صفاقس، تونس، ط 1، 2001م.
  6. محمد السيد عيد: أحمد أمين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994م.
  7. محمد نبيه حجاب: أحمد أمين فيلسوف الأدباء، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط 1، 1998م.
  8. فهيم حافظ الدناصوري: أحمد أمين وأثره في اللغة والنقد الأدبي، مكتبة الملك فيصل الإسلامية، القاهرة، 1986م.

وإلى اللقاء في الحلقة الحادية و الثلاثين.

د. أحمد الخليل   في 22 – 12- 2006

شارك هذه المقالة على المنصات التالية