د. أحمد الخليل
جوهر التاريخ
يقوم التاريخ البشري على ركنين هما: الإنسان، والمكان.
وهذا يعني أنه لا يمكن فهم التاريخ فهماً واقعياً دقيقاً إلا بفهم العلاقة بين الإنسان والمكان، وللتأكد من هذا الأمر لسنا بحاجة إلى استعراض النظريات، ولا إلى الغوص في الفلسفات، وإنما يكفي أن نحذف الإنسان وما قام به من أحداث، ونحذف المكان (الجغرافيا) الذي تفاعلت فيه تلك الأحداث، ثم نتساءل: ماذا يبقى من التاريخ البشري؟ لا شيء على الإطلاق.
وكانت مشكلة الإنسان الكبرى- وما زالت- هي الاحتفاظ بـ (البقاء) على النحو الأفضل، ولا مجال للاحتفاظ بـ (البقاء) على النحو الأفضل إلا بالسيطرة على (المكان) الأفضل؛ المكان الذي تتوافر فيه مقوّمات الحياة بشكل أفضل، ويتيح الوصول إليها على نحو أسهل، وعلى ضوء هذه الحقيقة لك أن تفسر أحداث التاريخ البشري قديمها وحديثها، صغيرها وكبيرها، ولك أيضاً أن تفسر على ضوئها كل ما في تاريخنا – نحن البشر- من نشاطات حضارية، ومن أديان وفلسفات، وعلوم واختراعات، ومن علاقات وسياسات، ومن حروب واحتلالات وغير ذلك.
وكوكب الأرض هو بيت البشرية، إليه تنتمي وفيه تنتهي، ولم تكن الأرض في غابر الأزمان على النحو الذي هي عليه الآن، وإنما مرت بأحوال مناخية دورية سميت (العصور الجليدية)، فكان المناخ الجليدي يبدأ بالظهور، ثم يتنامى ويهيمن على المكان، ثم يبدأ الدفء بالظهور، ويشرع المناخ الجليدي بالانحسار نحو الشمال والجنوب، وفي كل عصر جليدي كانت الكائنات أمام أحد مصيرين: أما التي امتلكت القدرة على التأقلم مع التبدلات المناخية فاحتفظت بـ (البقاء)، وأما التي افتقرت إلى تلك القدرة فكان نصيبها (الفناء)، وانقراض الديناصورات خير شاهد على ذلك.
ولم تكن التبدلات المناخية الدورية وحدها هي المؤثرة في مصير الكائنات، وإنما كان للأزمات المناخية الطارئة أيضاً تأثيرها الشديد في هذا المجال، ومنها الزلازل والبراكين والأوبئة والتصحر، وكنا نحن البشر من الكائنات القليلة التي امتلكت خاصية التأقلم مع الحالين؛ أقصد التبدلات المناخية الدورية، والأزمات المناخية الطارئة، وكانت عملية الهجرة (الهروب من المكان الطارد، واللجوء إلى المكان الواعد) هي التي توصلنا معظم الأحيان إلى بر الأمان، وتتيح لنا الاحتفاظ بمشروع (البقاء).
هجرات الآريين
وقد كتب ول ديورانت ذات مرة:
” التاريخ كتابٌ يجب أن يبدأه الإنسان من الوسط “.
وهذه هي الحقيقة في التعامل مع التاريخ، إذ لا توجد على الدوام وثائق مؤكّدة حول بداية تاريخ جماعة بشرية، سواء أكانت قبيلة أم شعباً أم عرقاً، وإنما ثمة ظنون وترجيحات، وكثيراً ما يختلف المختصون في تلك الظنون والترجيحات، والأرجح أن الجنس البشري ظهر منذ حوالي مليون سنة، وقد تجعل الاكتشافات العلمية هذا الرقم يتغيّر صعوداً أو هبوطاً، ولا مشكلة في ذلك، فهو لا يفقدنا حق الوقوف عند السؤال الآتي: كم من السلالات البشرية ظلت محتفظة، على الدوام، بالمكان الذي ظهرت فيه أول مرة؟ إنها تكاد تكون محدودة جداً، هذا إذا لم تكن معدومة، فقد كانت السلالات مضطرة إلى الانزياح عبر المكان (الجغرافيا)، ومع تكاثر البشر في نطاق جغرافي معيّن أخذ الانزياح صورة (الانتشار)، ومع تنافس المجموعات البشرية على (المكان) الأفضل، أخذ الانزياح صورة (الاحتلال).
وقسّم المؤرخون شعوب العالم إلى مجموعات عرقية كبرى، أهمها: الشعوب الهندو- أوربية، والشعوب السامية، والشعوب الحامية، والشعوب الأورال ألطائية، وشعوب جنوب شرقي آسيا، وشعب الإسكيمو. وذكروا أن الشعوب الهندو-أوربية تضم الأوربيين والأمريكيين، والسلاف، والأرمن، والفرس، والكرد، وآخرين، ويطلقون على هذه المجموعة اسم (الآريين) أيضاً، وجاء في كتاب (انتصـار الحضارة، ص 245 – 246) للمؤرخ جيمس هنري برستد، أن مصطلح (الآريين) يطلق على الفرع الشرقي من الشعوب الهندو-أوربية، وهم: الأرمن، والفرس، والميد (من أجداد الكرد)، ومن استقر في أفغانستان والهنـد. أما الأوربيـون والأمريكيون فهم من الفرع الغربي؛ أي أن الآريين هم أبناء عمومة الأوربيين، وليسوا أجدادهم.
ويتفق معظم المتخصصين في التاريخ القديم، وفي علم السلالات، أن وسط آسيا، وتحديداً شرقي بحر قزوين، كان المهد الأصلي للشعوب الآرية، وذكر ول ديورانت (قصة الحضارة، مجلد1، جزء2، ص 399)، أن (الزند أفستا)، وهو الكتاب الزردشتي المقدس، يأتي على ذكر هذا الموطن القديم، ” ويصفه بأنه جنة من الجنان “. وقد اكتشف الأمير الروسي بيير كروبوتكيين Pierre Kropotkine في سهول وسط آسيا غابات واسعة يابسة، واستدل منها على أن تلك المنطقة عانت من أزمة مناخية حادة خلال الألف الثالث قبل الميلاد؛ أي أن المكان أصبح معادياً وطارداً، ولم يعد يهيّئ إمكانية البقاء لسكانه على النحو الأفضل، وطبعاً كان الحل هو الانزياح إلى المكان الواعد، فتوجّه بعض الآريين جنوباً نحو شمالي شبه القارة الهندية، وتوجّه آخرون نحو غربي آسيا، وتوجّه فريق ثالث شمالاً وغرباً نحو أوربا الشرقية والغربية.
والأرجح أن هجرات تلك القبائل بدأت من أوائل الألف الثالث قبل الميلاد، ودليلنا على ذلك أن السومريين، وهم شعب آري، أقاموا حضارة مزدهرة في جنوبي بلاد الرافدين (جنوبي العراق حالياً) حوالي منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وأن الأكاديين الساميين القادمين من شبه الجزيرة العربية غلبوهم على أمرهم حوالي سنة (2350 ق.م)، ولا ريب أن هجرة السومريين من شرقي بحر قزوين، واستقرارهم في بلاد الرافدين، كان على مراحل، واستغرق وقتاً ليس بالقصير.
تنافس آري – سامي
وقد توالت هجرات بعض الفروع الآرية، واستقرت في غربي الهضبة الآريانية وجنوبها الغربي، وتحديداً في جبـال زاغروس والمناطق المتاخمة لها، وظهرت أخبـارها في أزمنة متواكبة تارة، وفي أزمنـة متلاحقة أحيـاناً، وكان ذلك مرهوناً بالمرحلة التاريخـية التي كان يلمع فيها اسم كل فرع سياسياً، فتشير إليه المدوَّنات السومرية أو الأكادية أو البابلية أو الآشورية أو الحثية أو المصرية، وتمازجت تلك الفروع الآرية عبر القرون في مختلف مناطق كردستان الحالية، ولا سيما في الشرق والشمال والجنوب، ثم توحّدت سياسياً وحضارياً تحت راية الفروع البارزة التي أسّست دولاً قوية؛ مثل اللولو، والگوتيين، والكاشيين، والميتانيين (الحوريين)، والسوباريين، والنايري، والأورارتو.
وفي عهود القنص والرعي كانت السهوب وسفوح الجبال هي (الجغرافيا) الأفضل لممارسة مشروع البقاء، لكن مع تزايد السكان، واكتشاف إمكانية إنبات البذور، والحصول منها على الغذاء، انتقلت البشرية إلى العهد الزراعي، وأصبحت السهول وأحواض الأنهار هي الأمكنة الصديقة الواعدة، ولذا أصبحت سهول جنوبي بلاد الرافدين- وهي متاخمة شرقاً لسفوح زاغروس، ومتاخمة غرباً وجنوباً لبلاد العرب- المكان الذي يستقطب الشعوب المجاورة، سواء أكانت شعوباً جبلية أم كانت شعوباً صحراوية، وكان السومريون أول شعب جبلي استقر هناك في الألف الثالث قبل الميلاد كما مرّ، وشيّد المدن، واخترع الكتابة، وسنّ القوانين (قانون أورنامو)، وأقام حضارة زراعية مزدهرة.
ويتفق المؤرخون على أن السومريين آريون، وأن هذا الشعب انحدر إلى بلاد الرافدين من الشمال والشرق، أي من المنطقة التي كان الشعب الكردي يقيم فيها، وما زال مقيماً فيها، وقد تكون للسومريين صلة قرابة إثنية ما بالشعب الكردي؛ نظراً لانتمائهما إلى السلالة الآرية وإلى بقعة جغرافية مشتركة، ولما بين اللغتين السومرية والكردية من تشابه في بعض المفردات والصيغ، سواء أكان ذلك في المجال الميثولوجي، أم في مجال الحياة العادية، ومهما يكن فإن الدراسات الجادة كفيلة في المستقبل بالبتّ في هذا الموضوع. ولم يستطيع السومريون الاحتفاظ طويلاً بمكانهم الواعد (جنوبي بلاد الرافدين)، فقد نافسهم أقاربهم الآريون قادمين من الاتجاه نفسه الذي قدموا هم منه، وكان الگوتيون أول أولئك الآريين، ثم تلاهم الآخرون.
وكان شبه الجزيرة العربية قد تحوّل إلى صحراء منذ أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، وأصبح مكاناً طارداً للبشر، فتوجه بعض سكانه الساميين شرقا وشمالاً نحو جنوبي بلاد الرافدين، حيث كان يقيم السومريون، وكان الأكاديون أول الساميين الذين احتلوا بلاد سومر، فحوالي عام (2300 ق.م) استولى أحد زعماء الأكاديين، وهو سرجون، على السلطة في سومر، وأسس السلالة الأكادية، ثم تلاهم أقاربهم البابليون، إذ سيطر حمورابي البابلي على بلاد ما بين النهرين حوالي سنة (1787 ق.م)، وأخضع سومر جنوباً وآشور شمالاً، وكان الآشوريون قد توافدوا من الشمال أو من الغرب، وثمة خلاف في أصلهم ما بين آري وسامي، ثم سيطر الآشوريون على الموقف في غربي آسيا من حوالي (1360 ق.م) إلى سنة (612 ق.م).
وجملة القول أن المناطق السهلية المتاخمة لجبال زاغروس شرقاً، ولبلاد العرب غرباً، كانت منطقة تنافس وصراع بين الشعوب الآرية والشعوب السامية، كما أنها كانت في الوقت نفسه ساحة تنافس داخلي بين فروع كل واحدة من السلالتين، ومع القرن الثامن قبل الميلاد انكشف الموقف في تلك المنطقة عن قوتين متنافستين: قوة آشورية إمبراطورية مهيمنة ذات ثقافة سامية، وقوة ميدية ناهضة ذات ثقافة آرية.
وكان قائد القوة الميدية هو دياكو.
وهو الذي قاد الميديين لمقاومة الإمبراطورية الآشورية.
فمن هو هذا الرجل؟ وماذا عن إنجازاته القيادية؟
الآشوريون والميديون
ميديا هي المنطقة التي استقرت فيها القبيلة الآرية الكبيرة (ماداي)، أو (مادي) Madai، ويستفاد من الدراسات الدائرة حول الميديين أن قدومهم إلى كردستان، شرقاً وشمالاً وجنوباً، بدأ منذ حوالي سنة (1100 ق.م)، وكانوا يتألفون من اتحاد ستة بطون هي: Boussi, Paretaknoi, Strounate, Arizantoi Bodloi, Magoi، وكانت اللغة الميدية مشتركة بين بطون هذا الاتحاد القبلي، وذكر أرشاك سافراستيان في كتابه (الكرد وكردستان) أن گوتيوم نفسها سمّيت بعدئذ ميديا؛ وهذا يعني- حسب رأيه- أن ميديا هي امتداد جغرافي وتاريخي وثقافي لگوتيوم، وهذا ممكن جداً.
وفي ذلك العهد كان الآشوريون يشكّلون القوة الضاربة في غربي آسيا، ويعملون لتكوين إمبراطورية واسعة الأرجاء، فكان عليهم والحال هذه أن يسيطروا على جبال زاغروس، والمناطق المتاخمة لها، ولا ننس أن (طريق الحرير)، وهو من أهم طرق التجارة العالمية حينذاك، كان يمر بتلك المنطقة؛ وبعبارة أخرى كان على الآشوريين غزو بلاد ميديا، وفرض سيطرتهم عليها، وإلا فلن يكون في إمكانهم التواصل شرقاً مع آسيا الوسطى، ولا شمالاً مع المناطق المتاخمة للقوقاز، وهل ثمة إمبراطورية تقبل أن تكون مكتوفة اليدين؟
ثم إن أكثر ملوك آشور كانوا ذوي طموحات فتوحاتية كبيرة، وكانوا يتصفون بالعنف بل الشراسة في التعامل مع من يعارضهم ويعيق خططهم الإمبراطورية، وكانوا قد أعدّوا جيشاً قوياً، يمتاز بسرعة الحركة، وشدة الانضباط، إضافة إلى شدّة المراس، ويتصف بالرغبة العارمة في البطش والتدمير، ولا عجب في ذلك فالمثل يقول: ” الناس على دين ملوكهم “، وأفلح ملوك آشور في إقامة إمبراطورية ضمت إيران وأذربيجان وأرمينيا وكردستان والعراق وسوريا وليديا (غربي تركيا)، بل امتدت في وقت من الأوقات إلى مصر جنوباً.
وحصل أول صدام بين الميـد والآشوريين سنة (837 ق.م) حسبما ذكر ديورانت، وتحديداً في عهد شلما نصر الثالث، فقد هاجم هذا الملك بلداً يسمّى بارسوَا في جبال كردستان، وفي ذلك الوقت كان سبعة وعشرون من الرؤساء- الملوك، يحكمون سبعاً وعشرين ولاية في ميديا، وكان الآشوريون في خصام دائم مع الميديين، وحقّقوا بعض الانتصارات عليهم، لكنهم عجزوا عن فرض سلطة فعلية عليهم، لقد حاربهم كل من شلما نصر الثالث (858 – 828 ق.م)، وشمشي حدد الخامس (821 – 810 ق.م)، وتيجلات بلاسر الثالث (747 – 728 ق.م)، وسرجون الثالث (722 – 705 ق.م)، كما حاربهم أسرحدون (689 – 668 ق.م).
على أن الميديين لم يرضخوا للسلطة الميدية بشكل مطلق، وكانوا يستغلّون كل فرصة ممكنة للخلاص من سيطرة الإمبراطـورية الآشورية، وقام الملوك الآشوريون من جانبهم بشنّ الحمـلات المتتـالية على مناطق الميديين ومعاقلهم، وأنزلوا بهم أفدح الخسائر، ودمّروا مدنهم وقراهم، وأجبروهم أحياناً على الهجرة إلى مناطق نائية، ومثال ذلك أن تجـلات بلاسر الثالث (747 – 728 ق.م )، جلب خمسة وستين ألف أسير ميدي، وأسكنهم في منطقة ديالي (في العراق حالياً)، وقام بتهجير جماعات من شعب لولو (في جبال زاغروس)، وجماعات من شعب نايري (قرب بحيرة وان)، إلى سوريا، وأسكنهم في المنطقة الواقعة بين مدينة (حـماه) والبحر الأبيض المتوسط.
دياكو مؤسساً
ثمة اتفاق بين المؤرخين على سير الأحداث المتعلقة بالميديين، لكن هناك خلاف واضح في تحديد تواريخ تلك الأحداث، وهذه ظاهرة غريبة لا نجدها بهذه الحدّة حينما يكون الأمر متعلقاً بأحداث الآشوريين والأخمين مثلاً، وأحسب أن السبب في ذلك هو التغييب المتعمَّد الذي قام به الفرس الأخمين إزاء كل ما يتعلق بالشأن الميدي، فبعد أن سيطروا على الدولة الميدية، وورثوا الإنجازات الميدية على الصعيد السياسي والحضاري العام، ونسبوها إلى أنفسهم، كان يهمهم جداً أن يزيلوا عن الوجود كل ذكر للميد؛ الأمر الذي أوقع المؤرخين في الاضطراب.
وما يهمنا في الدرجة الأولى هو سير الأحداث وتسلسلها.
فقد أدرك الميديون أنهم لن يستطيعوا الوقوف في وجه الإمبراطورية الآشورية ما داموا متفرقين، وأن وحدة الصف وتوحيد الجهود هما السبيل إلى الخلاص، وقد تأكد عبر التاريخ إن إرادة الشعوب في الحرية تفرز القائد الذي يجسّد تلك الإرادة، وهذا ما أسفرت عنه إرادة الشعب الميدي في التحرر، فقد برز من بينهم قائد ذكي وجسور يدعى دياكو، ويسمى ديوكو أيضاً، ويسمى في بعض المصـادر اليونانية ديوسيس، وحكم دياكو ميديا حوالي ثلاثة وخمسين عاماً، بين سنتي (727 – 675 ق.م)، أو بين سنتي (708 – 655 ق.م).
وبخصوص اسم (دياكو، ديوكو، ديوسيس) ينبغي أن نأخذ في الحسبان أن اللاحقة (س) خاصة بأسماء عند اليونان، وأن نقل الأسماء من لغة إلى أخرى يُدخل تغييراً على صوتياتها، وأن تعريب الأسماء يُحدث تغييراً في الحروف، وعلى سبيل المثال لا يوجد في العربية حروف: ژ j ، چ ç، پ p، گ g ، ولكتابة كلمة ژِين (حياة) الكردية مثلاً بالحرف العربي سنضطر أن نكتبها بصيغة (زِين)، وهكذا دواليك، لذا لا ندري ما هو معنى اسم (دياكو/ ديوكو) بدقة، لأننا لا نعرف ما هو لفظه الأصلي، على أنني أجد شبهاً لهذا الاسم في اسم مدينة (دُهُوك) الكردية في (إقليم كردستان – العراق)، وحبذا أن يتفضّل علينا اللغويون الكرد بما يزيل الغموض في هذا الميدان.
وتتمثل عبقرية الزعيم الميدي دياكو في الإنجازات الآتية:
- انتقل دياكو بالقبائل الميدية من حالة الانتماء إلى (القبيلة) إلى حالة الانتماء إلى (الأمة)؛ إذ أفلح في إقامة تحالف اتحادي شبه فيديرالي بين القبائل الميدية، ويبدو أنه أسس ما يشبه قيادة جماعية تضم قادة القبائل، واختير لأن يكون القائد الأعلى باعتباره الأكثر نفوذاً بينهم، واستطاع بهذه الخطوة الذكية أن يتغلّب على واحدة من أكثر الخصائص الضاربة بجذورها في الشخصية الكردية، وكانت من أكثر العوامل في تمزيق الشعب الكردي داخلياً طوال التاريخ؛ أقصد خصيصة (سيكولوجيا الجبال)، وهي سيكولوجيا تتمحور حول العناد والتصلّب في الرأي، والاعتزاز الفردي والقبلي بشكل متطرف، ورفض الانصياع لقيادة عليا موحَّدة، ومعروف أن أمة لا تجتمع تحت قيادة واحدة لا يمكن أن تمتلك عوامل القوة والتقدّم والحياة الحرة المستقلة.
- اتخذ دياكو مدينـة إكباتانا عاصمة للتكوين السياسي الجديد، وسميت بعدئذ آمـدان، وسماها المؤرخون المسلمون (هَمَذان)، ومنها الأديب الشهير بديع الزمان الهمذاني، صاحب القصص الاجتماعية الطريفة والشهيرة باسم (مقامات الهمذاني)، وسماها الآشوريون (بيت دياكو)، ومعنى (إكباتانا) (ملتقى الطرق الكثيرة) أو (مجلس الاجتماع)، ولاحظوا الشبه الصوتي والدلالي الشديد بين لفظة (إكباتانا) والعبارة الكردية é gi bi tené ومن معانيها (الفريد، المتميّز، لا مثيل له، المستقل)، وكانت إكباتانا تقع في واد خصيب جميل المنظر، تسقيه المياه الذائبة من الثلوج التي تغطي قمم الجبال المجاورة. وأحسب أن اتخاذ عاصمة موحّدة لمملكة ميديا كانت خطوة هامة، تدل على نضوج الوعي السياسي عند هذا القائد، فالعاصمة ليست مجرد بيوت وأسواق ودوائر، إنها رمز إلى وحدة الأمة، ورمز إلى استقلاليتها.
- بنى دياكو في العاصمة إكباتانا قصراً ملكياً فخماً، واتخذه مقراً ملكياً يشرف على المدينة، ويغطي ثلثي ميل مربع من الأرض، وفي هذه الخطوة دليل آخر على أن هذا الرجل كان مصراً على الانخلاع من الطابع القبلي البسيط الساذج، والارتقاء إلى ما يوحي بالتحضر ورفعة الشأن، وما كان ليستطيع بناء ذلك القصر الفخم لولا أن دولته الجديدة كانت تحظى بقدر معقول من الثراء، ولعله كان يؤكد من خلال تلك الأبهة أن الدولة الميدية لا تقل شأناً ومكانة عن الدول الكبرى في ذلك العصر، وأنه ليس زعيم قبيلة، كما يحلو لبعض من لا يطيق رؤية الكرد في هذا العالم أن يزعموا حتى في عصرنا هذا، وإنما هو زعيم لشعب، وقائد لأمة، وملك لمملكة.
- تأكيداً لحرصه على الانتقال من نظام القبيلة إلى نظام الدولة وضع دياكو تشريعات وقوانين تنظّم العلاقة بين الرعية والسلطة، ويقول هيرودوت: إن ديوسيس هذا قد وصل إلى ما وصل إليه من القوة بما اشتهر به من العدالة، فلما أن بلغ ما بلغ طغى وتجبّر، وأصدر أوامر تقضي بألا يسمح لإنسان بالمثول بين يديه، بل عليه أن يعرض أمره على يد رسله، وكان يعدّ من سوء الأدب أن يضحك إنسان أو يبصق أمامه. وفسّر هيرودوت هذه المراسيم وأشباهها بأن دياكو كان يريد ” أن يبدو لمن لا يرونه أنه من طبيعة غير طبيعتهم “. (انظر: ديورانت: قصة الحضارة، مجلد 1، جزء 2، ص 400)، وكان من الممكن لهيرودوت أن ينظر إلى هذه المراسيم على أنها محاولة من دياكو للانتقال بشعبه من ثقافة (البداوة) والانفلات إلى ثقافة (الحضارة) والانضباط، وبناء أصول حضارية في التعامل بين الشعب والحاكم.
- بنى دياكو جيشاً مهمته حماية الدولة الناشئة، والتصدّي لمن تحدّثه نفسه بالعدوان عليها، ولا ريب أنه أخذ بالاعتبار أنه يجاور الإمبراطورية الآشورية الشرسة، وأنه يدين بالتبعية لها، ولو كانت تبعية اسمية، تقتصر على دفع الإتاوات والهدايا المفروضة، ولا بد أنه حرص على أن يكون المقاتل الميدي في مستوى المقاتل الآشوري من حيث القوة البسالة والانضباط.
دياكو ثائراً
إذاً يمكننا القول بأن القائد الميدي كان يمتلك مشروعاً تحررياً متكاملاً، وكان يضع مشروعه ذلك موضع التطبيق خطوة خطوة، وعلى نحو متكامل، وكان يعمل، بصورة أساسية، لإحداث تغيير في الذهنية الميدية، ويكرّس ذلك التغيير عملياً بإحداث تغييرات جوهرية في هيكلية السلطة والإدارة والعلاقة بين السلطة والشعب، وبما أن هدفه الأكبر هو التحرر من الهيمنة الآشورية فلا بد من تجاوز (الذهنية القبلية) الكُوچَرية الارتجالية القابلة للوقوع في شَرَك (السذاجة) معظم الأحيان، والانتقال إلى تكوين (الذهنية القومية)؛ ذهنية (الأمة) مجسَّدة في شكل (الدولة).
ثم إن دياكو لم يكن قائداً ضيّق الأفق، إنه لم يضع العربة أمام الحصان كما يقول المثل الدارج، إنه كان يمتلك حسّاً قيادياً كافياً لأن يراعي مسألة (ترتيب الأولويات)، فيقدّم الأهم على المهم، ويقدّم ما هو أساسي وجوهري على ما هو ثانوي وكمالي، وينطلق من الداخل إلى الخارج، ويؤسس (القوة الذاتية) قبل البحث عن (القوة الخارجية)، أجل، بعد اتخاذ هذه الترتيبات الداخلية الهامة توجّه دياكو إلى النشاط على الصعيد الإقليمي، وقد مرّ أن الإمبراطورية الآشورية كانت تسيطر على رقعة جغرافيا شاسعة، تمتد من حدود أفغانستان إلى الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وإلى مصر ضمناً أحياناً، فكيف يمكن لدولة ناشئة، لم تتخلّص بعدُ بشكل نهائي من الثقافة القبلية، أن تقف لوحدها في مواجهة إمبراطورية شرسة، ذات جيش متمرس في الحروب، ولها إمكانية اقتصادية ضخمة؟
وفتّش دياكو عن حلفاء إقليميين، يقفون معه في وجه الهيمنة الآشورية، وتكون لهم مصلحة في ذلك، فوقع اختياره على دولة أورارتو، وكانت تقع على التخوم الشمالية لبلاد ميديا، وكانت تعاني من العسف والقهر والتدمير على أيدي ملوك آشور حيناً بعد آخر. وبعد أن تحالف دياكو مع دولة أورارتو قاد الثورة على الإمبراطورية الآشورية، وأعلن استقلال ميديا، لكن لم تسر الأمور كما شاء لها دياكو وقادة أورارتو، فإن الإمبراطورية الآشورية كانت ما تزال في أوج قوتها وغطرستها، وسرعان ما قاد الملك الآشوري سرجون الثالث جيشه إلى ميديا، فحطّم الحلف الميدي الأورارتي، وقضى على الثورة، وأسر دياكو سنة (715 ق.م)، ونفاه إلى مدينة حماه في سوريا مع أسرته وحاشيته الملكية، وبعد فترة من الوقت أفرج الآشوريون عن دياكو، فعاد إلى موطنه ميديا، ولا توجد أخبار عن نشاطه بعد الإفراج عنه، ولا ريب أنه اضطر إلى التبعية للسلطات الآشورية.
وكتب ديورانت (قصة الحضارة، المجلد1، جز2، ص 400) في هذا الصدد:
” واشتد ساعد الميديين في أيامه بفضل حياتهم الطبيعية والاقتصادية، وأصبحوا بتأثير عاداتهم وبيئتهم ذوي جلد وصبر على ضرورات الحروب، فكانوا بزعامته خطراً يهدد آشور، فأغارت هذه على بلاد ميديا مرة بعد مرة، وظنت أنها قد هزمتها هزيمة منكرة لا تجرؤ معها على مناوأتها، ولكنها وجدتها لا تملّ الكفاح لنيل حريتها “.
الثورة ثانية
يفهم مما ذكره جيمس هنري برستد وغيره أن الشعب الميدي لم يفقد كل مكانته بعد فشل ثورة دياكو، وإنما ظل قوياً في مواقعه الحصينة، بل إن الدولة الميدية كانت تعدّ سنة (650 ق.م) من الدول الكبرى في عالم ذلك العصر، مثل ميتانيا وأورارتو وعِيلام وهذا يعني أن الآشوريين لم يستطيعوا القضاء على الدولة الميدية الناشئة، وإنما أفلحوا في الحد من تهديدها لهم فقط.
وبعد دياكو تولّى الحكم ابنه فراورتيس Phraortes، ويقال له (خشاثريتا) khshathrita أيضاً، وقد حكم بين (674 – 653 ق.م)، أو بين (655 – 633 ق.م)، وامتاز هذا الزعيم بدرجة رفيعة من الحنكة، فاستطاع أن يوحّد القبائل الميدية من جديد، ويؤسس حكومة مستقلة في ميديا، ويُخضع لسلطانه بعض القبـائل الآريانية، وأهمها السميريون (الكيميريون) Cimmerians والسكيث Scythians، كما أنه جعل القبائل الفارسية تابعة لميديا.
وقد بلغ هذا الزعيم الميدي مكانة مرموقة في عصره، حتى إن الملك الآشوري أسرحدون شرع يخطب ودّه، وبلغت الجرأة بهذا الزعيم أنه هاجم العاصمة الآشورية نينوى، لكن الغزاة السكيث- وكانوا قد تحالفوا مع الآشوريين- هاجموه من الخلف، فباءت محاولته بالفشل، ولم يكتف السكيث بذلك، بل هاجموا ميديا بعد وفاة فراورتيس سنة (653 ق.م)، وبسطوا سيطرتهم عليها في الفترة بين عامي (653 – 625 ق.م)، على أن الشعب الميدي سرعان ما أنتج زعيما جديداً آخر، يقود مسيرته الكفاحية المستمرة، ويأخذ بيده إلى حيث الحرية والاستقلال.
وكان ذلك الزعيم هو كيخسرو.
وهو موضوع حلقتنا القادمة.
المراجع
- أرشاك سافراستيان: الكرد وكردستان، ترجمة الدكتور أحمد الخليل، دار هيرو للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2007م.
- أنطون مورتكارت: تاريخ الشرق الأدنى القديم، تعريب توفيق سليمان، علي أبو عساف، قاسم طوير، 1950م.
- جيمس هنري برستد: انتصار الحضارة، ترجمة أحمد فخري، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولى، 1955م.
- دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، دمشق.
- سامي سعيد الأسعد، ورضا جواد الهاشمي: تاريخ الشرق الأدنى القديم، إيران والأناضول، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، العراق.
- هارڤي بورتر: موسوعة مختصر التاريخ القديم، موسوعة مختصر التاريخ القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991م.
- هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001م.
- ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة الدكتور زكي نجيب محفوظ، الإدارة الثقافية، جامعة الدول العربية، الطبعة الرابعة، 1973، المجلد الأول، الجزء الثاني.
وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة والأربعين.
د. أحمد الخليل في 15 – 9 – 2007
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=35242