خالد دقوري
يُنفّذ مشروع “الشرق الأوسط الجديد” بخطى ثابتة وعلى مراحل مدروسة، ضمن استراتيجية عابرة للزمن والجغرافيا، تقودها الولايات المتحدة بالتنسيق مع حلفائها، وبدور قيادي لإسرائيل، في سبيل إعادة صياغة المشهد الإقليمي سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
أولى ملامح هذا المشروع تتجسّد في ضرب إيران، تمهيدًا لاستهداف تركيا لاحقًا، كخطوتين حتميتين على طريق إعادة تشكيل المنطقة. فالصراع لم يعد مقتصرًا على التوازنات التقليدية، بل دخل طورًا جديدًا يتجاوز الجغرافيا السياسية، ليتصل مباشرة بتشكيل النظام العالمي المقبل.
هذا المشروع الاستراتيجي، الذي صاغته أروقة الدولة العميقة في الغرب منذ عقود، يجري تنفيذه تدريجياً، بخطط زمكانية دقيقة، تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات المنطقة وتشابك قواها المحلية والدولية. ومن أبرز غاياته إنشاء محور اقتصادي ضخم يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا، عبر مشروع “الممر الاقتصادي الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي” (IMEC) وممر “دافيد”، بهدف كبح جماح التمدد الصيني وتقليص نفوذ روسيا، والحد من تأثير تكتلات كـ”البريكس” (BRICS) في موازين القوى الدولية.
يتجاوز المشروع حدود البنى الاقتصادية إلى ما هو أعمق: إعادة رسم الخرائط السياسية ومناطق النفوذ وتوازنات القوى، عبر تفكيك المعاهدات القديمة، لا سيما “سايكس-بيكو”، وإبطال آثارها، بما يُمهّد لبنية سياسية جديدة تستند إلى الديمقراطية والتعددية والمواطنة المتساوية، وتحقيق لامركزية السلطة والثروة.
كذلك، يسعى المشروع إلى الحد من هيمنة الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، وخاصة تياراته المتطرفة والتكفيرية، إضافة إلى تفكيك الأنظمة الشمولية ذات الطابع الواحد، وتجريدها من أدوات السيطرة التي لطالما هددت أمن إسرائيل واستقرار الإقليم، وساهمت في تصدير الإرهاب.
جزء من هذا التحول يتضمن القضاء على الجماعات والميليشيات المسلحة التي شكّلت أدوات لوكالات استخباراتية إقليمية ودولية، سواء من خلال تفكيكها، أو حلّها، أو دمجها ضمن تشكيلات رسمية جديدة تابعة للدول المركزية.
توتر الجنوب السوري: السويداء نقطة تقاطع المصالح الإقليمي
في هذا السياق المتسارع، لا يمكن تجاهل التوترات المتصاعدة في جنوب سوريا، وتحديدًا في محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية. فهذه البقعة الصغيرة جغرافيًا، باتت تحمل أبعادًا أمنية وجيوسياسية كبيرة، ليس فقط في المعادلة السورية، بل على مستوى الإقليم ككل.
إسرائيل، التي ترى في أي تمدد لقوى معادية قرب حدودها الشمالية تهديدًا مباشرًا، تراقب عن كثب تطورات الجنوب، وتعتبر استقراره أو انفجاره عاملاً حاسمًا في أمنها القومي. أما تركيا، التي تسعى لتوسيع نفوذها في الشمال السوري عبر حلفائها، فقد تجد في انفجار الوضع في الجنوب فرصة أو تهديدًا، بحسب الجهة التي ستملأ الفراغ الأمني هناك.
ما يحدث في السويداء لا ينفصل عن مشروع الشرق الأوسط الجديد، بل يمكن اعتباره نموذجًا مصغرًا لتفاعلاته: تفكك السلطة المركزية، صعود مطالب محلية بالتمثيل والحقوق، تصاعد نفوذ الفاعلين غير الدولتيين، وتضارب المصالح الدولية والإقليمية على أرض محلية. إن أي انفجار واسع في الجنوب السوري قد يعيد خلط الأوراق في كامل الجغرافيا السورية، ويؤثر بشكل مباشر على مسارات التطبيع، والأمن الإسرائيلي، والمصالح التركية، ويُسرّع من وتيرة التحولات في المشهد الإقليمي.
أخيرًا، يضع المشروع نصب عينيه حلّ القضايا القومية والعرقية والمذهبية العالقة، وفي مقدمتها القضية الكردية، التي أصبحت محورية في معادلات الأمن والسلم والاستقرار. فلا يمكن الحديث عن شرق أوسط جديد دون إيجاد تسوية عادلة لها، تتضمن الاعتراف السياسي، وضمان المشاركة في السلطة والثروة، وتحقيق العدالة القومية ضمن إطار وطني جامع.
ما نشهده اليوم ليس مجرد أحداث متفرقة، بل تنفيذ ممنهج لمشروع ضخم يعيد صياغة المنطقة من جذورها. والسؤال الأهم: من سيصمد، ومن سيتحول إلى حطام على طريق “الشرق الأوسط الجديد”؟
خالد دقوري كاتب كردي من روجافا كردستان – سوريا.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=73476




