د. محمود عباس
والحقيقة التي ينبغي الاعتراف بها بجرأة هي أنّ أيًّا من الأطراف لم يكن مستعدًا للتنازل إلا تحت وطأة مصلحة آنية، وأن المصالح الوطنية الكبرى ظلّت أسيرة الحسابات الحزبية الضيقة، هذا الانقسام ليس وليد اللحظة، بل تعود جذوره إلى مرحلة التفاهمات المشتركة مع النظام البائد، ثم تفاقم بعد أن نجحت قوى الإدارة الذاتية في إزاحة نفوذ نظام بشار الأسد المجرم، بمساندة روسيا وأمريكا والتحالف الدولي، أما المجلس الوطني الكوردي فقد اختار المعارضة السورية ومن بينها العنصرية العروبية وتركيا، دون أن يبلغ المكانة التي وصلت إليها الإدارة الذاتية، رغم نجاح ما تسمى بالمعارضة السورية، وهو ما جعل ميزان القوى يميل بشكل واضح لصالح الأخيرة، أي قوى الإدارة الذاتية.
ومع ذلك، ظلّ المجلس الوطني الكوردي يطالب، وبإصرار لا يخلو من العناد، بحصته في إدارة المنطقة، رغم ضعفه البنيوي وعدم قدرته على إدارة مؤسسة واحدة بفعالية، الأخطر من ذلك أنّه، وعلى مدى سنوات طويلة، تعامل مع قوى مناوئة للإدارة الذاتية، وفضّل الاصطفاف خلف معارضة عروبية مدعومة من أنقرة على الدخول في شراكة وطنية مع القوى الكوردية في الداخل، ويكفي أن نتذكر حادثة آذار 2021، حين أقنع المجلس قيادة جنوب كوردستان باستضافة رئيس الائتلاف العنصري نصر الحريري، الذي لم يتردد من هناك في إطلاق تهديدات مباشرة بالسيطرة على مقدرات غربي كوردستان عبر المعارضة العروبية الموالية لتركيا.
ومع ذلك، وبعد سنوات من هذا الصراع المرير، وتحت ضغط دولي وأمريكي، انعقد مؤتمر قامشلو وتشكّلت هيئة مشتركة، غير أنّها اليوم تكاد تكون مشلولة، لا بقرار من قسد أو من قوى الإدارة الذاتية التي تهيمن على الساحة، بل نتيجة مباشرة لتشابك مصالح الدول الإقليمية والدولية، التي تتحكم بالمشهد السوري وتكبّل أي مخرجات فعلية للمؤتمر.
والمؤسف أنّ المجلس الوطني لم يتحرّك داخليًا لإعادة تنشيط دوره أو فرض حضوره، بل اكتفى بالترويج لفكرة أنّ الإدارة الذاتية هي من يعطّله ويمنعه من التفاوض مع الحكومة السورية الانتقالية، غير أن الحقيقة، التي يعرفها الجميع، هي أنّ هذه الحكومة السورية الإرهابية ذاتها لم تستقبل قيادة المجلس، رغم محاولاته المتكررة وزيارات بعض قياديه إلى دمشق منذ اليوم الأول بعد سقوط نظام بشار الأسد المجرم. لقد همّشته تمامًا، كما همّشت الائتلاف نفسه، الذي كان المجلس أحد أعضائه الثانويين.
إنّ قبول المجلس في مؤتمر قامشلو، رغم كل تحالفاته السابقة، لم يكن نتاج قوة ذاتية أو إرادة مستقلة، بل جاء بفضل ضغوط دولية ووطنية فرضت نفسها على الأطراف، لذلك، من الخطأ أن نحمّل طرفًا كورديًا بعينه مسؤولية التعطيل، أو أن نُعمّق الشرخ بتبادل الاتهامات، فالمعطِّل الحقيقي لأي وحدة كوردية حقيقية هو التدخل الإقليمي، وفي مقدمته تركيا، التي استثمرت منذ البداية في تفتيت الصف الكوردي وتوظيف خلافاته لخدمة أجنداتها الخاصة.
ومن واجبنا اليوم أن نكشف هذه المؤامرات بلا مواربة، كما فعلنا سابقًا في مواجهة مخرجات مؤتمرات أستانة وسوتشي، التي لم يخلُ واحد منها من محاولات تهميش القضية الكوردية وإقصائها من طاولة المفاوضات.
من هنا، وبصفتي د. محمود عباس، أوجّه نداءً صريحًا إلى كل أطراف الحراك الكوردي، إلى الإدارة الذاتية، والمجلس الوطني الكوردي، والأحزاب والاتحادات الثقافية، أن يتجاوزوا منطق القوة والضعف، وأن يتعاملوا مع الواقع بما يليق بحجم التضحيات التي قدّمها شعبنا، إنّ المرحلة خطيرة، والتاريخ لا يرحم، وإن لم نوحّد صفوفنا اليوم ونحوّل مخرجات مؤتمر قامشلو إلى فعل سياسي ملموس، فإنّ القوى الإقليمية ستفرض وصايتها علينا، وسنجد أنفسنا، مرة أخرى، على هامش التاريخ.
إن معادلة المصير واضحة، نحن أقوياء بوحدتنا، ضعفاء بفرقتنا، ولا خلاص لنا إلا بكسر هذه الحلقة الملعونة التي تتغذى على صراعاتنا الداخلية، وتعيد إنتاج جدلية القوة والضعف بأشكال جديدة.
الولايات المتحدة الأمريكية
31/8/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=75404