الأربعاء, فبراير 19, 2025

من أبواق البعث إلى ورثة خطابه: حينما يصبح التشويه إرثًا مقدسًا (2)

ماهر حسن

كان من المفترض أن يختفي مع سقوط البعث كل أولئك الذين كانوا يقتاتون على فتات موائده، يهتفون بحياته، ويبررون جرائمه. لكن الواقع أثبت أن بعض الأمراض لا تزول بسقوط الأنظمة، بل تتحول إلى أشكال أخرى، تمامًا كما تفعل الفيروسات عندما تفقد بيئتها الأصلية، فتبحث عن مضيف جديد. هؤلاء، الذين كانوا يملؤون الشوارع صراخًا بحب الحزب القائد، تحولوا بين ليلة وضحاها إلى “معارضين”، لكنهم ظلوا محافظين على مهنتهم الأصلية: العداء للكورد، وكأنهم يعانون من خلل جيني يمنعهم من النظر إلى الحياة دون أن يكون الكوردي هو العدو الافتراضي الأول.

في الماضي، كانوا يرددون خطابات البعث دون تفكير، كالببغاوات، يدافعون عن سياسات التهجير، القتل، والتعريب وكأنها قوانين الطبيعة، ويتعاملون مع اضطهاد الكورد وكأنه ممارسة ضرورية لضمان “وحدة الوطن”. كانوا يعتبرون أنفسهم حماة العروبة، رغم أنهم لم يكونوا أكثر من بيادق تحركها أجهزة الأمن والمخابرات.

اليوم، ومع غياب سيدهم السابق، يحاولون الاستمرار في الدور نفسه، ولكن بأساليب أكثر تفاهة. تجدهم يتنقلون بين المنصات الإعلامية، يتحدثون بلغة أكثر “حداثة”، يضعون على وجوههم قناع المثقف أو المحلل السياسي، لكن مضمونهم لم يتغير: نفس الحقد، نفس الكراهية، ونفس العداء غير المبرر لكل ما هو كوردي. يروجون نظريات المؤامرة، يتحدثون عن “الخطر الكوردي”، وينتحلون أدوار الضحايا رغم أنهم كانوا بالأمس في موقع الجلاد، يكتبون التقارير الأمنية، ويحرضون على القتل.

هؤلاء لا يملكون حتى شجاعة الاعتراف بماضيهم، تجدهم يدافعون عن جرائم الماضي وكأنها إنجازات وطنية، ويواصلون التحريض على الكورد وكأن سقوط النظام لم يكن كافيًا ليعلمهم درسًا. لكن كيف يتعلم من عاش حياته وهو مجرد صدى؟ كيف يستوعب من لم يكن يملك رأيًا من الأساس؟

ما يثير السخرية أكثر أن بعضهم يحاول التلاعب بالخطاب، فيدّعي أنه ليس ضد الكورد “ولكن…”. وهذه “لكن” ليست مجرد حرف استدراك بريء، بل هي الفتحة السحرية التي ينفذ منها كل الحقد القديم. فهذه الـ”لكن” التي يضعونها ليست سوى محاولة ماكرة لإعادة إنتاج نفس الخطاب البعثي، ولكن بصياغة تبدو أكثر “عقلانية”، وأكثر قابلية للتسويق أمام جمهور جديد قد لا يكون مطلعًا على تاريخهم الحافل بالتحريض.

يكررون أنهم ليسوا ضد وجود الكورد، ولكنهم ضد “الأجندات الخارجية”. وكأن الكورد، الذين يعيشون على أرضهم منذ آلاف السنين، بحاجة إلى “أجندة” ليطالبوا بحقوقهم! بينما هم، الذين أمضوا حياتهم يسبّحون بحمد كل مستبد جاء وذهب، ويتقافزون من حضن دولة إلى أخرى، لا يرون في تبعيتهم للأجنبي أي مشكلة، بل يعتبرونها “حنكة سياسية”!

ثم يأتي ادعاؤهم الأبله بأنهم ليسوا ضد النضال الكوردي، ولكنهم ضد “الخيانة”. وهنا، لا يمكن للمرء إلا أن يضحك. من الذي يحدد معنى “الخيانة” هنا؟ أهو ذلك الذي كان يكتب التقارير الأمنية بحق جيرانه؟ أم الذي كان يهتف للقائد الضرورة بينما كانت مدن بأكملها تباد؟ أم ذلك الذي يقلب ولاءه مع كل تغيير سياسي، ثم يأتي ليعطي دروسًا في الشرف؟ كيف يمكن لمن خدم الأنظمة الدكتاتورية طوال حياته أن يحاضر في الوطنية، ويحدد من هو “الخائن” ومن هو “المخلص”؟

إن هذا النمط من الخطاب ليس سوى امتداد طبيعي للعقلية التي زرعها البعث في أذهان هؤلاء. الفرق الوحيد أنهم اليوم يحاولون تغليف أفكارهم بغلاف أكثر نعومة، لكن المضمون لم يتغير. فهم ما زالوا يرفضون أي واقع جديد للكورد، وما زالوا غير قادرين على تقبل فكرة أن الكورد لم يعودوا الحلقة الأضعف، ولم يعودوا بحاجة إلى استرضاء أحد ليأخذوا حقوقهم.

لكنهم يصرون على هذا الأسلوب لأنهم يدركون أنهم لم يعودوا قادرين على استخدام نفس الخطاب الفج الذي كان سائداً في عصر البعث. فقد تغير الزمن، وسقطت الأقنعة، وأصبح من الصعب الترويج لصورة الكوردي كـ”عدو داخلي” دون أن ينكشف الغرض الحقيقي وراء ذلك. لذا، لجأوا إلى التكتيك الجديد: خطاب يبدو في ظاهره عقلانيًا، موضوعيًا، لكنه في جوهره يحمل نفس السم القديم، نفس الموقف الرافض لأي اعتراف حقيقي بحقوق الكورد، ونفس الإنكار العميق لوجود قضية عادلة تتطلب حلاً عادلاً.

لكن المثير للشفقة أن هذا التكتيك لم يعد ينطلي على أحد. فقد سئم الناس هذه “اللعبة اللغوية”، وباتوا يدركون أن كل ما في الأمر هو مجرد محاولات يائسة لفرض نفس الهيمنة القديمة ولكن بطرق جديدة. وبذلك، يظل هؤلاء أسرى عجزهم، يكررون نفس الاسطوانة المشروخة، بينما يمضي الواقع في طريقه، غير آبهٍ بكل هذا الصراخ العقيم.

الزمن تغير، والمسرح القديم احترق، ولم يعد أحد يصدق هذه الأكاذيب الرخيصة. فالكورد اليوم ليسوا بحاجة إلى شهادة حسن سلوك من بقايا البعث، وليسوا مطالبين بتبرير نضالهم لهؤلاء الذين عاشوا حياتهم وهم يبررون الاستبداد. الكورد مستمرون في طريقهم، رغم العواء المستمر لهؤلاء الذين لا يجيدون سوى العيش على الكراهية. وبينما يمضي الكورد إلى الأمام، ظل هؤلاء عالقين في مستنقع ماضيهم، يرددون نفس العبارات البائسة.

شارك هذه المقالة على المنصات التالية