د. محمود عباس
بعض الأخوة المسيحيين يختارون عبودية الماضي على حرية كوردستان
إن ما يجري اليوم في غربي كوردستان ليس مجرّد صراعٍ على المناهج، بل معركة على الوعي نفسه، بين من يريد إعادة الإنسان إلى ذاته، ومن يصرّ على إبقائه تابعًا، بلا ذاكرة ولا هوية، الإدارة الذاتية، رغم ما يعتريها من أخطاء، تمثل أول تجربة في تاريخ المنطقة تضع التعليم في خدمة الإنسان، لا السلطة، وتعيد للغة والتاريخ دورها الطبيعي كحارسٍ للوعي لا كأداة إذلال.
من المؤلم أن نقول إنّ المكوّن المسيحي في سوريا لم يعرف طعم الحرية منذ أربعة عشر قرنًا؛ تعوّدَ على الطاعة والخضوع، حتى غدت الحرية لديه رجفة خوفٍ وليست لذّة انعتاق، لذلك، كلما لاحت له فسحةُ ضوء، هرع إلى الظلّ، فحين فُتِحت أمامهم أبواب الخلاص من سجون الفكر، وحين دعتهم الإدارة الذاتية إلى التحرر من إرث التبعية، ووضع منهاجهم الدراسية بذاتهم، اختاروا المكوث في جغرافية الذل، وفضّلوا العودة إلى خيمة المولى على أن يختبروا عراء الحرية.
اليوم، حين فتحت الإدارة الذاتية باب التعليم بلغاتهم الأصلية، ومنحتهم حرية صياغة مناهج تعبّر عن تراثهم، رفضوا الدخول من الباب، واحتفوا بالعودة إلى مناهج البعث والتكفير. أصدروا بيانًا يعلن «فرحهم» بالرجوع إلى مدارس النظام، وكأنّهم يحتفلون بالعودة إلى السجن بعد عفوٍ مشروط، تناسوا أنّ هذه المناهج هي ذاتها التي خلطت بين فقه ابن تيمية ووصايا البعث، وبين قدسية النص وتعليمات الأنظمة الاستبدادية.
يتناسى الأخوة أن الكنائس ذابت في ركام الجغرافيا السياسية، وتحوّل شعبٌ أنجب مدارس الرها ونصيبين وماردين إلى طائفةٍ خائفة، ترتجف من ذاتها أكثر مما تخشى عدوّها. تاريخيًا، لم يكن الانحسار العددي للمسيحيين في سوريا من 100% في القرن السابع إلى 40 % عام 1930 إلى ما دون 10% اليوم مجرّد هجرةٍ أو مصادفةٍ سكانية، بل نتيجة مباشرة لثقافة التبعية التي غُرِست في العقول منذ العهد الأموي، وترسخت عبر القرون تحت مناهج «الموالي والأسياد». تلك المناهج التي دمّرت صروح العلم والوعي في الشرق، من مدارس نصيبين والرها إلى آخر ديرٍ في سهول الخابور، فطمست اللغة السريانية والأرامية، وصادرت الفكر الذي كان يربّي العقل على الحوار لا التكفير.
المفارقة المُرّة أن أبناء نصيبين، وهم اليوم أبناء قامشلو والحسكة الذين درّسوا يوماً منطق أرسطو في ظلّ الحضارة الساسانية، يقاتلون اليوم من أجل مناهج العبودية، تناسوا أن مدارسهم كانت تخرّج فلاسفةً، لا خَدَماً للسلطة، وما أشدّ الألم حين يتحول أحفاد رواد الفكر الأرامي إلى حرّاسٍ للذلّ الفكري.
لقد كتبتُ مرارًا عن مدارس نصيبين والرها في ذروة الحضارة الساسانية، وعن دورها في تشكيل هوية الشرق، لكنّ البعض من إخوتنا المسيحيين اليوم يخلطون بين الإيمان والعبودية، بين التواضع والخنوع، إنهم يُقدّسون ماضيَهم حين يُروى، ويُحاربونه حين يُبعث من جديد، فالمشكلة ليست في الإيمان، بل في النفس التي تألف السوط وتستغرب يد السلام.
إنّ ما يجري اليوم بين بعض أبناء المكوّن المسيحي من انجذابٍ مرضي إلى عباءة الموروث الاستعبادي، يذكّرنا بأشدّ صفحات التاريخ سوادًا (العهدة العمرية) التي كانت في ظاهرها “اتفاقًا لحماية أهل الكتاب”، لكنها في حقيقتها صكّ إذلالٍ جماعيٍّ مكتوب بمداد الخضوع.
فباسم تلك العهدة، جُرِّد المسيحيّ من رموزه وإيمانه وكيانه؛ مُنع من ترميم كنائسه، ومن دقّ نواقيسه، ومن إظهار صليبه، ومن ركوب الخيل، ومن الشهادة على مسلم، وأُكره على ارتداء زيٍّ يُفرّقه عن سواه، ليبقى “معلَّمًا بعاره” أينما سار.
والمؤلم اليوم أنّ هناك من لا يزال يقبّلُ أصفاد تلك العهدة ويعدّها إرثًا مقدسًا، لا وثيقة إذلال، كيف لمن ذاق مرارة الذمّة أن يحتفي بماضٍ سلبه كرامته؟ كيف لمن حُرم من أبسط حقوقه باسم “العهدة” أن يعود إليها اليوم طائعًا وهو في القرن الحادي والعشرين؟ لقد استُبدلت العقال بالسلسلة الحديدية ذاتها، واستُبدلت العمامة بالخطاب التكفيري الذي لا يزال يُعيد صياغة بنود العهدة في مناهج “الحكومة السورية الانتقالية”، تحت مسمى “حماية المكوّنات الدينية”.
إنّ ما يفعله هؤلاء هو تكرار للغلط التاريخي ذاته، بدل أن يوجّهوا أصابع الاتهام إلى من أذابهم عبر القرون، يوجّهونها نحو من يحاول إنقاذ ما تبقّى منهم، بدل أن يُدينوا من صادروا كنائسهم ومناهجهم وثقافتهم، يهاجمون الإدارة الذاتية التي منحتهم حرية التعليم بلغاتهم، والحقّ في التعبير عن تراثهم الحضاري العريق.
وفي المقابل، لا يُعاقَب المسيحي في كوردستان على اختلافه أو رفضه للنشيد الكوردستاني، ولا يُسجن إن لم يرفع علم الإقليم، بينما في سوريا والعراق، اللتين تُقدَّمان زورًا كـ «وطنين جامعَين» يُقاد المرء إلى المعتقل لمجرد إشارةٍ رمزيةٍ لهويته الخاصة، هذه هي المفارقة التي لا يريدون الاعتراف بها.
أنّ أكثر بقعةٍ حمت بقاءهم هي كوردستان، لا عواصمهم التي ادّعت احتضانهم.
إنّ ما تبقّى من الوجود المسيحي في العراق، على سبيل المثال، لم يُنقَذ إلا بفضل حكومة إقليم كوردستان الفيدرالية التي احتضنتهم ومنحتهم الأمن والكرامة، هناك، في الجنوب الكوردستاني، أعيد إليهم الإحساس بالإنسان قبل الإحساس بالهوية، ومع ذلك ظهر بين بعضهم من يهاجم كوردستان حريةً وديمقراطية، بعد أن صمت دهورًا أمام البعث والطغاة.
إنّ تحرير الإنسان لا يبدأ بإزالة القيود من يديه، بل بإزالة الخوف من قلبه. هذه النفسية لا تقتصر على بعض المسيحيين فحسب، بل نجدها أيضًا عند البعض في الحراك الكوردي ممن يدافعون عن مناهج البعث والتكفيريين بحجة الواقعية، ويرتجفون حين يُذكر التعليم بالكوردية، فينتظرون الأسياد ليمنحوهم ما يملكون، لكن الأسياد لا يمنحون إلا بالقطّارة، ولا يقدّمون الحرية إلا مسمومة بالولاء، ولهذا، من لم يتعلّم أن يسود ذاته، سيظلّ يعبد من يسوده.
والإدارة الذاتية، رغم أخطائها وكل ما يُقال عنها، فتحت الباب، أما الدخول فقرارٌ يتوقف على من بقي في الداخل المظلم يهاب الضوء.
ولذلك فإنّ الوقوف إلى جانب مشروع التعليم الحرّ، الكوردي والسرياني والعربي معًا، ليس موقفًا سياسيًا فحسب، بل موقفٌ أخلاقيٌّ وحضاريّ، دفاعٌ عن فكرة الإنسان ضد كل منظومات العبودية القديمة.
فالذين يخافون الحرية اليوم سيكتب عنهم الغدُ كما كتب عن الذين خافوا النور فاحترقوا في ظلالهم، أما الذين آمنوا بالوعي الكوردستاني والإنساني كطريقٍ للتحرر، فهُم من سيصنعون الغد، مدارسًا وفكرًا وأجيالًا.
فإما أن نكون أمّة تُعلّم لغتها لتبقى، أو شعوبًا تنسى نفسها في مناهج الآخرين.
الولايات المتحدة الأمريكية
2/11/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=79321





