من النوروز إلى الهوية

خالد علي سليفاني

قراءة في دراسة الأستاذ الدكتور علي تتر نيروي حول الشخصيات النوروزية وأبعادها الرمزية

في خضمّ التحديات المتزايدة التي تعصف بالوعي الكوردي الحديث، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة تفكيك الجذور الرمزية والثقافية التي شكّلت هذا الوعي، لا بوصفها إرثًا من الماضي فحسب، بل كطاقة كامنة في الحاضر واستثمار رمزي للمستقبل. ومن بين الجهود العلمية التي نهضت بهذا الدور، تتألّق دراسات الأستاذ الدكتور علي تتر نيروي حول “عيد نوروز والشخصيات النوروزية” كما وردت في كتابه “كوردستان القديمة” – الذي تشرفت بترجمته من اللغة الكوردية إلى اللغة العربية وصدر عن مكتبة جزيري في محافظة دهوك-، بوصفها محاولة رائدة لإعادة بناء السردية الكوردية من داخل النسيج الرمزي الذي شكّل وعي الجماعة الكوردية عبر قرون من الكفاح والمقاومة والاضطهاد.

نوروز: من الفلكلور إلى البنية الرمزية
يتناول البروفيسور الدكتور علي تتر نيروي عيد نوروز لا كمجرد مناسبة فلكلورية موروثة، بل كمنظومة رمزية متكاملة، تمثّل عقدًا خفيًّا بين الشعب وتاريخه، بين الذاكرة والحرية، بين الموت والتجدد. نوروز، في قراءته، ليس حدثًا بل معنى، ليس زمنًا بل إمكانية متكررة. إنه “نص رمزي مفتوح” تنعكس فيه ثنائية النور والظلام، الحياة والموت، العدل والطغيان — عبر رموز شخصياته الكبرى: جمشيد، أزدهاك، كاوا، فريدون.

الشخصيات النوروزية: من الأسطورة إلى البنية الجماعية

لا يعامل الباحث هذه الشخصيات كمجرد كائنات أسطورية، بل يقرأها كتمثيلات مكثفة لعلاقات اجتماعية وسياسية ضاربة الجذور.

جمشيد هو حامل النور والمعرفة، رمز الانبثاق الثقافي والتقني؛
أزدهاك هو الحاكم المفترس، تغذّيه قرابين الجهل والخوف؛
كاوا هو الحداد، تجسيد الغضب الشعبي، وصوت الجماعة حين تتحوّل إلى مقاومة؛
فريدون هو الحاكم العادل، رمز إعادة التوازن بعد انفجار الصراع.

بهذا، تتحوّل الأسطورة إلى بنية تحتية لوعي الشعوب الآرية ومنها الشعب الكوردي، و”الشخصية” إلى استعارة للشرط الوجودي للجماعة.

أدوات تحليلية متعددة: بين الأسطورة والنص
يتميّز البروفيسورعلي نيروي بقدرة نادرة على المزج بين أدوات بحثية تنتمي إلى فضاءات معرفية متقاطعة:

التحليل المقارن للنصوص: يستند إلى طيف واسع من المصادر الزرادشتية (الأفيستا، الفنديداد)، الهندوسية (الفيدا، الأوبانيشاد)، البهلوية، الإسلامية، والكوردية الشفاهية، ليبيّن كيف تنسج الأسطورة خيوطها عبر الحضارات وتعيد إنتاج معانيها.

التحليل اللغوي الدلالي: يتتبع تطوّر الأسماء والمفاهيم عبر اللغات السنسكريتية والفارسية والكوردية، ليكشف الطبقات الدلالية العميقة المختبئة خلف تغيرات اللفظ.
المنهج التأويلي الثقافي: يتعامل مع الأسطورة بوصفها انعكاسًا للواقع السياسي والاجتماعي، وأداة لفهم ديناميات القهر والمقاومة المتكررة في التاريخ الكوردي.

من التاريخ إلى الذاكرة: تجدد الميثاق الرمزي
تكمن فرادة هذه الدراسات في تحويلها للمادة التاريخية من مجرد وقائع إلى “ذاكرة مشفّرة”، حاضرة في كل فعل مقاومة وكل لحظة تجدد. فبدلاً من التعامل مع الأسطورة كماضٍ مغلق، يعيد الدكتور علي تتر استحضارها بوصفها نصًّا مفتوحًا، يُستدعى في كل ربيع سياسي أو ثقافي. نوروز، إذن، ليس طقسًا، بل تجديد دائم للميثاق الرمزي بين الإنسان الكوردي وحقه في الوجود.

أخيرًا وليس آخرًا: كتابة الذات عبر الأسطورة
إن ما يقدّمه البروفيسور علي تتر نيروي لا يندرج ضمن الكتابة التاريخية التقليدية، بل هو مشروع كتابة الذات الكوردية بلغة الرموز والأساطير المؤسِّسة. إنه يزاوج بين الصرامة الأكاديمية والجرأة التأويلية، ليحوّل الأسطورة من مستودع خام إلى أداة تحليل، ومن بقايا ميثولوجيا إلى مكوّن حي في الهوية. هذه الكتابة ليست حنينًا للماضي، بل محاولة لبناء هوية مقاومة قادرة على الصمود والانبعاث، كما يولد نوروز من تحت الرماد كل عام.

Scroll to Top