من جديد، الدب الروسي في الكرْم السوري، فماذا عن الحصرم الكوردي؟! القسم الثالث الأخير

التصريح الروسي الأخير: تغيير شكل للعبة سوداء أم تكويع أبيض؟! 3/3

د. ولات محمد

“وبضدها تتميز الأشياء”

   المتنبي

تراجعت الحملة الدعائية الروسية ضد أمريكا والكورد بشكل ملحوظ ما بين صيف عام 2022 وصيف عام 2024 (هل كانت موسكو على علم بالتحضير الغربي لإسقاط النظام؟)، لكنها عادت نسبياً إلى نشاطها من جديد ابتداء من خريف ذلك العام. ويلاحظ من تواريخ التصريحات أنها تكثفت قبل سقوط النظام ثم خفّت بعده بشكل ملحوظ:

3 ـ قبل سقوط النظام

ـ بتاريخ 1/9/2024 (قبل حوالي ثلاثة أشهر من السقوط) وفي حوار مع قناة روسيا اليوم قال لافروف إنه في مناطق شرق الفرات “يتم تصدير النفط والغاز والحبوب بوساطة الأمريكيين وأتباعهم وإنهم يستخدمون عائداتها لتشجيع أعمال الانفصال وإنشاء كيان شبه دولة (…). من المؤسف أن الأمريكيين قد جروا الكورد إلى لعبتهم (…). وقد حدثت اشتباكات بين التشكيلات الكردية والقبائل العربية التي عاشت في هذه الأراضي لمئات السنين. ويريد الأمريكيون الآن الاستحواذ على جزء من هذه الأراضي لإنشاء مشروع كيانهم الشبه الدولة“.

وقال أيضاً: “نحن على تواصل مع الكورد (…). واشنطن ليست حليفة موثوقة، ووجودها في سوريا يهدف إلى إقامة كيان شبه دولة في المناطق التي تحوي أغنى حقول النفط والغاز(…). الأمريكيون لم يحققوا أي نجاحات في مكافحة الإرهاب، بل استغلوا الكورد لتعزيز نفوذهم…”.

ـ بتاريخ 29/9/2024 قال لافروف لشبكة رووداو الإعلامية: “إن الولايات المتحدة تواصل تجاهل مصالح سوريا وتركيا (…)، وقد أنشأت شبه دولة على الضفة اليسرى لنهر الفرات”. (هنا يجزم الوزير أن أمريكا قد أنشأت شبه دولة فعلاً، ولكنه سيعود بعد تسعة أسابيع ليقول إنهم يمنعون الانفصال:)

ـ الجمعة 6/12/2024 (قبل سقوط النظام بيومين فقط)، وفي مقابلة مع الصحافي الأمريكي تاكر كارلسون، قال لافروف عن مساعي دول أستانة: “قواعد اللعبة هي مساعدة السوريين على التوصل إلى تفاهم فيما بينهم ومنع تهديدات الانفصال من الاقتراب. هذا ما يفعله الأمريكيون في شرق سوريا حينما يدعمون بعض المتمردين الأكراد باستخدام عائدات النفط والقمح، والمواد التي يحتلونها”.

4 ـ بعد سقوط النظام.. والتصريح الأخير

على الرغم من سقوط النظام في 8/12/2024 وخروج روسيا من سوريا لم يوقف القادة الروس حملتهم الدعائية ضد الكورد (اتهامهم بمحاولة إقامة دويلة كوردية على الأراضي السورية)، لأن الأمريكي (المستهدَف الأول بهذه الدعاية) ظل موجوداً، بل زاد نفوذاً على الأراضي السورية وبات مؤثراً حتى في سياسات دمشق. لذا استمرت الدعاية الروسية، ولكن لفترة وجيزة، ودون أي تغيير في الأفكار واللغة والمفردات، كما يتبين من هذين التصريحين:

ـ الخميس 26/12/2024 قال لافروف في مؤتمر صحافي: “نعمل للحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي السورية، وهو موقف تركيا. يجب النظر إلى شرق سوريا حيث احتل الأمريكيون منابع النفط والأراضي الخصبة، ويتم استخراج الموارد وتصديرها ودعم التنظيمات التي تسعى للانفصال“.

ـ الثلاثاء 14/1/2025 قال لافروف في مؤتمر صحافي: “الولايات المتحدة تحتل أراضي شرق سوريا. توجد حقول نفط في هذه المنطقة، ويتم استخدام موارد هذه المنطقة لدعم العناصر الانفصالية في شمال شرق سوريا. (…) قدمنا للأكراد في سوريا عرضاً لبناء جسر مع دمشق، لكنهم لم يرغبوا بهذا وقالوا: سيكون هناك الأمريكان وسوف ينشئون شبه دولة. (…) اتخذنا نهجاً يصب في صالح التشاور وحماية حقوق الأكراد في سوريا والعراق وإيران وتركيا، لكن دمشق من جهة والأكراد من جهة أخرى لم يرغبوا في التفاوض“.

الجديد في التصريحات الأخيرة (قبل وبعد السقوط) ثلاثة أمور: الأول الترويج لفكرة استغلال أمريكا للموارد النفطية لإنشاء كيان كوردي منفصل. والثاني الحديث عن حقوق الكورد، والثالث تحميل دمشق والكورد معاً (وهي المرة الأولى) مسؤولية عدم قبول الوساطة الروسية بينهما، علماً أن الجميع يعرف أن النظام هو الذي كان يرفض الحوار أو يكلف به ضابطاً أمنياً في أحسن الأحوال.

التصريح الأخير

تصريح لافروف المومأ إليه أعلاه الصادر في منتصف يناير كان قبل ستة أيام من دخول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض (بتاريخ 20/ 1/ 2025) رئيساً جديداً لأمريكا. الملاحظ أنه بعد هذا التاريخ توقفت الحملة الدعائية الروسية التي كانت تتهم واشنطن والكورد بالسعي معاً لإنشاء دويلة كوردية في الشمال السوري، ولم تعد موسكو إليها حتى هذه اللحظة. وهذا يعني أحد أمرين: فإما أن تقسيم سوريا لم يعد يهم موسكو بعد سقوط النظام وأن تباكيها على وحدة الأراضي السورية كل تلك السنوات كان فقط لحماية الحليف وتحقيق المكاسب الذاتية. وإما أن موضوعة “الدويلة الكوردية” كانت بالأساس كذبة كبرى اختلقتها موسكو وردّدتها كل تلك السنوات على أسماع العالم وغنّتها في آذان السوريين خصوصاً حتى شوهت عقولهم وسودت قلوبهم تجاه الكورد.

عموماً في فترة الصمت الروسي المستمرة حتى الآن جاء تصريح لافروف الأخير بتاريخ 31/ 7/ 2025 حين قال في مؤتمر صحافي عقده في موسكو مع نظيره السوري: “ناقشنا العلاقات بين دمشق والجماعات الكوردية. نريد بالطبع أن يبقى الكورد كأعضاء كاملي الحقوق في المجتمع السوري ضمن دولة موحدة. وهذه هي المرة الأولى منذ سنوات التي يتحدث فيها لافروف عن الكورد دون ربط قسم منهم بلعبة أو مؤامرة أمريكية تقسيمية خبيثة لإنشاء دويلة كوردية!!

مثل هذا التحول في الخطاب أو الموقف أمر طبيعي في لعبة السياسة والمصالح، لكنه يكشف، في هذه الحالة، عن حجم الانتهازية والقذارة الأخلاقية في الدعاية الروسية السوداء تلك؛ فإذا كان من حق الروسي السعي لطرد الأمريكي من المنطقة، فإن وجه الجرم في دعايته أنه جعل من التحريض على الكورد وسيلته لتحقيق هدفه؛ فقد أسهمت تلك الدعاية في زيادة مشاعر الحقد والكراهية عند شعوب المنطقة تجاه الكورد، حتى يمكن القول إن نسبة كبيرة من تلك المشاعر السلبية وحملات التحريض والتهديد والاتهامات الباطلة بالانفصال والتقسيم التي توجه اليوم للكورد يتحمل مسؤوليتها الروس الذين جعلوا (مع التركي والنظام والمعارضة) من كذبتهم لدى العامة “حقيقة” لا يمكن دحضها بسهولة.

ما بين أمس واليوم

إذا كان كلام لافروف الأخير عن حقوق الكورد في سوريا يمثل حقاً القناعة الروسية، فلماذا لم يعبر عنها الوزير الروسي في واحد (على الأقل) من عشرات المؤتمرات الصحافية التي عقدها مع مسؤولي حليفه النظام الساقط، بينما صرح بها في أول لقاء مع وزير السلطة الجديدة؟! هذا التناقض لا يشير إلى تكويع روسي أبيض باتجاه دعم حقوق الكورد، بل إلى تغيير في استراتيجية الاستثمار فيهم، وذلك من خلال التحول من الدعاية ضدهم إلى الدعاية معهم، إذ ربما تعتقد موسكو أن امتلاك جزء من الملف الكوردي في الظرف الحالي يتيح لها الضغط على كل من دمشق وأنقرة وواشنطن ومساومتها جميعاً للحصول منها على تنازلات هنا وهناك، والعودة إلى الساحة السورية من جديد شريكاً حقيقياً وفاعلاً، وكأن لافروف يقول: إن إحدى الطرق إلى دمشق تمرّ من قامشلي. وربما تعتقد روسيا أيضاً أن بناء علاقات جديدة وجيدة مع الكورد يضمن لها وجوداً فعليا وحضوراً قوياً على الأرض السورية. في جملة واحدة: سابقاً كانت موسكو تعمل على إضعاف الكورد لتقوية دمشق، أما اليوم فإنها تلوح بتقوية الكورد لمساومة دمشق والأطراف الأخرى لتحقيق مصالحها الذاتية لا لتأييد حقوق الكورد كما تدعي.

سابقاً كانت مصلحة روسيا تكمن في بقاء حليفها في دمشق متماسكاً وقوياً وسيداً على كل الجغرافيا السورية. لهذا كانت تحارب (عسكرياً أو إعلامياً) وجود أية قوة أو جغرافيا خارج سلطة النظام، بغض النظر عما إذا كانت كوردية أم غير كوردية، مدعومة من أمريكا أم من غيرها. وهذا كان سبب حملتها الدعائية المضللة السوداء تلك. أما اليوم فربما ترى موسكو أن من مصلحتها أن تكون سلطة دمشق ضعيفة؛ فهي ليست حليفة لها أولاً، وتسير في ركب أمريكا والغرب ثانياً، وذات طبيعة دينية راديكالية ثالثاً، وكي تبقى بحاجة إلى المساعدة الروسية رابعاً.

عام 2015 قام النظام بجلب الدب الروسي إلى الكرم السوري فعاث فيه تخريباً وقتلاً وتهجيراً وتجريباً للأسلحة، أما في الكرْم الكوردي فقد عاث تحريضاً وتشويهاً وكذباً. اليوم وفي عام 2025 يعيد أصحاب السلطة الجديدة الدب الروسي إلى الكرم السوري من جديد وفقاً لمقتضى مصالح الطرفين، مع تغير في المصالح والمعطيات ومراكز القوة طبعاً؛ فاليوم ليس في دمشق نظام تدافع عنه موسكو وتحميه وتحرق في سبيل بقائه الأخضر واليابس، كما أن موسكو لم تعد الرقم واحد في الملعب السوري، بل تحاول أن تكون فيه فقط أحد اللاعبين.

خاتمة

انسجاماً مع الوضع الجديد تعمل موسكو على كسب حلفاء سوريين تقوي بهم موقفها في مواجهة اللاعبين الآخرين على الأرض السورية وخارجها. ومن هنا تأتي أهمية العلاقة مع الكورد في حساباتها الجديدة؛ فهم يمتلكون قوة عسكرية واقتصادية وبشرية ويسيطرون على مساحة مهمة من الأرض السورية، ما يجعلهم بيضة مرجحة لكفة ميزان أي طرف في المعادلة السورية.

بناء على ذلك يمكن النظر إلى تصريح لافروف الأخير على أنه محاولة لبناء علاقة جديدة ومختلفة تماماً مع الكورد، بحيث تتحول موسكو من طرف قام على الدوام بشيطنتهم وتخوينهم واتهامهم بمحاولات التقسيم والانفصال إلى طرف “يدعم حقوقهم” ويقف إلى جانبهم، كي يتحولوا بدورهم من عامل كان يهدد مصالحها في سوريا (أيام النظام السابق) إلى عامل يوظف (كورقة مساومة) في إعادة بناء تلك المصالح مع النظام الجديد وتقوية أوراقها في مواجهة الأطراف الفاعلة الأخرى.

هنا يعود السؤال الذي أثاره المقال في عنوانه ليطل برأسه في ختامه: الدب الروسي العائد إلى الكرم السوري، من أية زاوية ينظر إلى الحصرم الكوردي هذه المرة؟ وهل ثمة رابط (خفي) بين سعي موسكو الخبيث لاستثمار الكورد وسعي دمشق المفاجئ “للحوار” مع فريق منهم؟؟

Scroll to Top