الجمعة, فبراير 21, 2025

من يحكم سوريا.. الشرع أم الجولاني؟

غزوان الميداني

في منتصف ديسمبر الماضي، زار أحمد الشرع مدرسة طفولته في أحد أحياء دمشق، والتقط صورة تذكارية مع مديرتها.

لم يخل المشهد، على منصات التواصل، من لمسة عاطفية.

لكنه أثار سؤالا لا يزال يردده كثيرون:

من العائد إلى مرابع الطفولة؟

خريج ابتدائية عمر بن الخطاب أم نزيل سجن بوكا السابق؟

قبل دخولها دمشق بثلاثة أيام، أعلنت هيئة تحرير الشام أن زعيمها “أبو محمد الجولاني” تخلى عن اسمه الجهادي، وعاد لاعتناق اسم الطفولة: أحمد الشرع، الذي سيقود المرحلة الانتقالية في سوريا بعد هروب رئيس النظام السابق بشار الأسد.

في العاصمة دمشق، وابتداء من 8 ديسمبر، ظهر الشرع بين الناس وأمام الكاميرات من دون عمامة الجولاني الأفغانية.

وراح يستقبل مسؤولين دوليين ومراسلي وسائل إعلام أجنبية ببدلة غربية وربطة عنق ولحية مشذبة.

لم يكن الجولاني اسما حركيا فحسب، أو زيا، أو لحية كثة، بل متطرفا فكرا وممارسة.

لهذا، يرمي كثيرون رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا بتهمة “التظاهر بالاعتدال”.

يرون أن الجولاني لم يختف تماما من المشهد؛ إنما توارى خلف صورة السياسي المعتدل، إلى حين.

“براغماتية مؤقتة” تجد مسوغاتها في “فقه الاستضعاف”، الذي تنتهجه الحركات الإسلامية المتطرفة في الغالب، يقولون.

وعندما امتنع الشرع عن مصافحة وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيبروك، لدى استقبالها في أوائل يناير، تعززت الشكوك.

بدا وكأن الشرع تصرف بوحي من الجولاني.

وبما أن “هيئة تحرير الشام” لم تنهج، بعد سيطرتها على دمشق، نهج داعش في “فقه التمكين”، فهي، برأي المشككين، موغلة في الاستضعاف حتى إشعار آخر؛ إلى أن تقوى شوكة الجماعة.

الاستضعاف والتمكين
في أغسطس 2021، انسحبت القوات الأميركية وقوات حلف شمال الأطلسي من أفغانستان، تنفيذا لاتفاق أبرمته واشنطن مع طالبان في الدوحة في فبراير 2020.

وبعد سيطرة طالبان على كابول، سارع المتحدث باسمها، ذبيح الله مجاهد، إلى طمأنة المجتمع الدولي في أول مؤتمر صحفي يعقده أمام وسائل إعلام غربية.

تعهدت الحركة، على لسان مجاهد، باحترام حقوق المرأة “في إطار الشريعة الإسلامية”، والسماح للنساء بالتعليم والعمل.

وما إن استقرت في السلطة، سارعت طالبان إلى فرض قيود متزايدة على الحريات العامة، وأجهزت على حقوق النساء، إذ منعتهن من دخول الجامعات، ومن العمل في قطاعات مهنية متعددة.

قّيدت طالبان كذلك حرية المرأة في التنقل، وأصبح ارتداء الحجاب إلزاميا، وفق رصد قدمته منظمة “هيومن رايتس ووتش” في أغسطس 2024.

في سوريا، يقول الشرع، تختلف الأمور عن أفغانستان.

“هناك فوارق كبيرة بين سوريا وطالبان”، قال الشرع في مقابلة تلفزيونية، في 19 ديسمبر، “المجتمع السوري مجتمع مختلف تماما بتكوينه وطبيعته وطريقة تفكيره”.

ووضّح الشرع رؤيته لآلية إدارة سوريا في المرحلة الانتقالية.

قال إن البلد يجب أن “يمر بثلاث مراحل على أقل تقدير”.

كان من المفروض أن تتضمن المرحلة الثانية “دعوة لمؤتمر وطني جامع لكل السوريين” يصوت على حل الدستور والبرلمان. ويتولى مجلس استشاري ملء الفراغ الدستوري والبرلماني خلال الفترة المؤقتة “حتى يصير في [ثمة] بنية تحتية للانتخابات”، وفقا لما قاله في المقابلة.

بعد نحو شهر، بدا وكأن الشرع، أو ربما الجولاني، نكث بأول وعوده.

أسندت إليه “إدارة العمليات العسكرية” والفصائل في سوريا، في 20 يناير، منصب رئيس المرحلة الانتقالية.

ومن دون “مؤتمر وطني جامع لكل السوريين”، ألغت الفصائل المسلحة بقيادة الشرع الدستور وحلت البرلمان.

يعكس تدرج الجماعات الجهادية في السيطرة على الحياة السياسية استراتيجية تُعرّفها أدبيات السلفية الجهادية بـ”فقه الاستضعاف”، وهو مفهوم يقوم على إظهار المرونة في “تطبيق الشريعة في ظل ضعف المسلمين” أو عند مواجهة عقبات تمنعهم من تحقيق أهدافهم كاملة.

“فقه التمكين” مجموعة من الأحكام والمبادئ الفقهية التي تُطبَّق حتى تحقيق “الشوكة” أي المقدرة، وتهدف لإقامة الدين وإدارة شؤون المسلمين من خلال الالتزام الصارم بمقاصد الشريعة.

في حالة طالبان، كان الانتقال من الاستضعاف إلى التمكين سريعا.

تجاوز الجولاني فكرة “المؤتمر الوطني الجامع،” لم يفتقر إلى السرعة كذلك.

من هو أحمد الشرع؟
ولد أحمد الشرع في السعودية، ونشأ لاحقا في سوريا، بعد أن عادت عائلته إلى الوطن الأم.

أصل العائلة من بلدة تابعة للجولان. من هنا، ربما، جاء لقب الجولاني، الذي تخلى عنه في نهاية المطاف، أو بالأحرى في بداية مسار ه الجديد.

في 2003 سافر إلى العراق لـ”الجهاد دفاعا عن المسلمين،” متأثرا بالتشجيع الضمني الذي قدمه نظام الأسد للراغبين بالذهاب إلى العراق لقتال القوات الأميركية.

انضم إلى القاعدة بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، ليصبح اسمه منذ ذلك الحين “أبو محمد الجولاني”.

كان الزرقاوي مسؤولا عن مقتل مئات المدنيين العراقيين، وأشعل فتيل حرب أهلية وطائفية في العراق.

يقول الشرع في مقابلة تعود إلى العام 2021 “لم ألتق بالزرقاوي، لكنني لم أرض عن ممارساته”.

في عام 2005، اعتقلته القوات الأميركية في العراق، وقضى نحو 5 سنوات في سجن بوكا المخصص لعناصر الجماعات الإرهابية.

بعد خروجه من بوكا، عاد إلى سوريا، حيث أسس في 2011 “جبهة النصرة”، بدعم من تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، الذي سيصبح في ما بعد تنظيم داعش بزعامة أبو بكر البغدادي.

في عام 2013، انفصل عن داعش وبايع زعيم القاعدة أيمن الظواهري.

في عام 2016، أعلن الجولاني انفصاله عن تنظيم القاعدة. وخاضت “جبهة النصرة” مواجهات مسلحة مع فصائل القاعدة وداعش في إدلب.

رغم قتاله ضد القاعدة وداعش في إدلب، لم يبد أن الجولاني كان يتخلى عن نهجه الجهادي.

تحول الجولاني
“مرت الحركات الجهادية بتحولات عدة،” يقول حسن أبو هنية، الخبير في شؤون الجماعات الجهادية في كتاب عن “الجهادية العربية”.

فهي “بدأت من الجهاد التضامني للدفاع عن أراضي المسلمين وحمايتها من العدوان الخارجي، وانتهت بتحوّل التنظيمات الجهادية نحو اللامركزية والاستقلالية مثل جبهة النصرة التي فكت ارتباطها عن القاعدة”.

وفق هذه الرؤية، يمكن فهم تحول خطاب “هيئة تحرير الشام،” بقيادة الجولاني، إلى خطاب أكثر اعتدالا، إذ يبدو أن الحركة حاولت التأقلم مع الواقع الذي فرضته ثورات الربيع العربي.

هذا يستتبع أن “اعتدال” أحمد الشرع نفسه، نتيجة طبيعية في سياق تطور رؤية الحركة منذ انفصالها عن داعش والقاعدة قبل نحو 10 سنوات.

ويقول الكاتب، الباحث عقيل عباس، إن خطاب “جبهة النصرة” كان خطابا إسلاميا جهاديا سوريا، أي أن هدفها كان الإطاحة بالأسد، ويدلل على ذلك باستخدام عناصرها باستمرار لعبارة “الثورة السورية”.

لهذا يعتقد أن جزءا من تحول الشرع “ذهني وفكري”، يستند إلى أن الجولاني غادر منذ مدة، وقبل التغيير، “الجهادية الإسلامية العالمية وفكرة الخلافة نحو المعارضة الوطنية بلباس إسلامي سلفي”.

“تجميل زائف”
“من يدير سوريا الآن هي فصائل مسلّحة إرهابية لم تتراجع عن أي شيء من أفكارها”، في رأي الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى.

“هذه القوى،” يقول عيسى لموقع “الحرة”، “تغتصب السلطة بقوة السلاح، وإنّ أي انحياز لها معناه أنك تصنع طالبان أخرى أو تصنع ظاهرة أشدّ سوءا”.

“ما حدث ويحدث من تهذيب اللحى وارتداء البدلات ليس سوى خداع وتجميل زائف”.

وعن الانفتاح الغربي على سوريا بعد سقوط الأسد، يعتقد الإعلامي المصري أن الغرب يتعامل بمنطق “الإرهابي الذي يخدمني خير من الذي يعاديني”.

“بقاء الجولاني يعني إطالة أمد التطرف في سوريا”، يضيف.

في المقابل، يرى الباحث في الحركات الإسلامية محمد عبد الوهاب رفيقي أنه “من المبكر الحكم على طريقة حكم أحمد الشرع في سوريا”.

ومع أن “الحركات الجهادية غالبا ما تخفي نواياها في البداية”، يرى رفيقي أن الشرع بعث رسائل طمأنة تدل على تغيير في أفكاره، مثل “وصوله للحكم من دون إراقة دماء، وحماية الطوائف الأخرى، ودعوته لمؤتمر وطني شامل”.

“هذه الرسائل تعكس جهوده لبناء تجربة أكثر قبولا”.

من ناحية أخرى، يعتقد رفيقي أن الشرع لم يعد مخيرا بين التطرف والاعتدال.

“وصوله إلى السلطة بهذه السهولة “غير المتوقعة،” يقول رفيقي لموقع “الحرة،” يشير إلى وجود اتفاقات مع أطراف خارجية.

“هذه الاتفاقات لا يمكن أن تحدث من دون ضمانات من أحمد الشرع ومن معه على عدم تكرار تجارب” سابقة لجماعات الإسلام السياسي، مثل تجربة الإخوان المسلمين في مصر التي “ارتكبت أخطاء كثيرة”.

“رسائل الشرع تبعث على التفاؤل بمستقبل سوريا رغم وصول تنظيم جهادي سابق للحكم،” يقول الباحث المتخصص في الجماعات الجهادية.

وفي هذا السياق، يقول عقيل عباس إن “من حسن حظ سوريا أنها ليست دولة ريعية، أي لا تملك كميات كبيرة من النفط”.

“هي تحتاج مساعدات الآخرين. وبتصوري هذا عامل ضاغط أساسي ورئيسي في ألا تذهب الأشياء نحو الأسلمة”.

الأفعال تتحدث
يعتقد كولين كلارك، كبير باحثين، زميل مشارك في المركز الدولي لمكافحة الإرهاب (ICCT) أن من الصعب معرفة ما يدور في فكر الشرع ونواياه بدقة، رغم أن المسار الذي تسلكه هيئة تحرير الشام يُظهر تغييرات واضحة في خطابها السياسي وتحركاتها الدولية.

لكي نقيم تجرية الشرع “لا بد أن ننتظر قليلا حتى يبدأ في الحكم”، يقول كلارك لموقع “الحرة”.

“الأفعال تتحدث بصوت أعلى من الأقوال،” حسب تعبيره.

لكن، يتساءل كلارك، “هل يعكس لباس الشرع، اليوم، حالته الفكرية؟ وماذا سيفعل بشأن مقاتليه، أصحاب اللحى والشعور الطويلة؟

“هذا هو التحدي الأكبر،” يوافق الباحث عقيل عباس.

“تحدي أحمد الشرع هو كيف يستطيع إقناع عشرات الجماعات المسلحة بمثل هذا التحول؟ كيف يتحول سلوكهم من سلوك إسلاموي إلى سلوك محلي قانوني، يحترم التنوع ويحترم التعددية”.

ويضيف: “هنا سيكون اختبار الفشل أو النجاح”.

المصدر: الحرة

شارك هذه المقالة على المنصات التالية