الخميس, يناير 9, 2025

نحو مسار عدالة انتقالية: تطلعات سوريّة من أجل انتقال قائم على الحقوق وضمانات عدم التكرار

بيان:

بعد أربع وخمسين عاماً من الاضطهاد والقمع الممنهجَين من قبل حزب البعث العربي الاشتراكي، ونظام الأسدين؛ الأب والابن، بحق السوريين/ات، وما يزيد عن عقد من الزمن من النزاع الدموي والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والجرائم من قبل الحكومة السابقة وباقي أطراف النزاع، سقطت أسطورة الأبدية، وحان الوقت ليقوم جميع السوريين/ات، على اختلاف مشاربهم، بتأسيس دولة جديدة يسودها القانون ويتمتع جميع مواطنيها بحقوقهم/ن المتساوية كأفراد ومجموعات، على أساس مبدأ المواطنة المتساوية، وفي ظل نظام لا مركزي.

نعتقد، في سوريون من أجل الحقيقة والعدالة، بأنّه لا يمكن تحقيق هذه الأهداف إلاّ من خلال عملية انتقالية عادلة وشاملة وحقيقية، يقودها السوريون والسوريات، تضمن استعادة الحقوق، وتعزز مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وتؤسس لبيئة قانونية واجتماعية تمنع تكرار الانتهاكات، وتسعى لعدالة مركزها الضحايا (جميع الضحايا) وضمان حقهم/ن في الوصول إلى الحقيقة وجبر الضرر وتضمن للمجتمع عدم التكرار.

وانطلاقاً من المسؤولية الكبيرة على عاتق الحكومات الانتقالية القادمة (أو هيئة/مجلس الحكم الانتقالي)، والتي يتوجب عليها اتخاذ إجراءات جوهرية لتحقيق الانتقال من حالة النزاع والفوضى إلى بناء دولة يسودها القانون، لا بدّ من ضمان إرساء منظومة قانونية شفافة وعادلة تتصدى للانتهاكات الجسيمة وتؤسس لبيئة من الثقة والمصالحة المجتمعية.

يعتمد نجاح هذه الجهود على الشفافية والشمولية، والشراكة الفعلية مع المجتمع المدني بتعريفه الواسع، والالتزام بالمعايير القانونية الدولية، مما يمهد الطريق نحو المستقبل العادل لسوريا.

لذلك وانطلاقاً من الحاجة إلى تحديد الأولويات الحقوقية والقانونية لتعزيز العدالة وحماية حقوق الإنسان، تسعى “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” في هذه الورقة إلى ذكر عدد من هذه الأولويات الأساسية التي تعتقد بأهمية التركيز عليها في المرحلة الانتقالية.

الأولويات القانونية والحقوقية:

على الهيئات/الحكومات الانتقالية بدايةً إطلاق وثيقة دستورية انتقالية مؤقتة (إعلان دستوري)، تكّرس المبادئ الأساسية التي تضمن كرامة الإنسان السوري وحرياته الأساسية التي لا يمكن المساس بها تحت أي ظرف. ويجب أن تشمل هذه المبادئ ضمان الحقّ في الحياة، والحرية، والأمن الشخصي، والحماية من التعذيب والمعاملة اللاإنسانية أو المهينة، والاختفاء القسري، والاعتقال التعسفي، والحقّ في المحاكمة العادلة أمام قضاء مستقل ونزيه.

على الوثيقة أيضاً، أن تؤكد على المساواة التامة أمام وفي القوانين دون أي تمييز قائم على العرق أو الدين أو الجنس أو الانتماء السياسي، مع الالتزام التام بمبدأ الفصل بين السلطات وضمان استقلالية القضاء. وأن تحظر بشكل صارم كافة أشكال الانتقام أو الثأر، وأن تلزم الدولة بحماية حقوق الأفراد والمجموعات واستيفاء العدالة من خلال الإجراءات القانونية المعتمدة فقط.

كما ينبغي أن تنص الوثيقة صراحة على احترام مبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، بما يتماشى مع الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها سوريا، واعتبار أحكام هذه الاتفاقيات جزءًا لا يتجزأ من التشريعات الوطنية، بما يعزز سيادة القانون ويؤسس لدولة قائمة على العدالة والمساواة.

هذا ويجب في المرحلة القادمة تشكيل لجنة من خبراء القانون والمدافعين/ات عن حقوق الإنسان لإجراء دراسة شاملة للقوانين والمراسيم بهدف تحديد تلك التي يتوجب إلغاؤها أو تعديلها، واقتراح التعديلات اللازمة لجعل القوانين السورية متوافقة مع التزاماتها بموجب الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان.

وينبغي إنهاء العمل بالمراسيم والقوانين الاستثنائية والمحاكم واللجان الخاصة. كما يتعين على الحكومة الانتقالية إغلاق جميع المقرات الأمنية ومراكز الاحتجاز التي تم استخدامها لعقود للانتقام الممنهج من السوريين/ات وبالأخصّ المعارضين/ات، مع الحفاظ أصولاً على جميع الوثائق والأدلة الجنائية لضمان استخدامها في عمليات التحقيق والمساءلة المستقبلية ومعرفة الحقيقة.

كذلك يتطلب تعزيز سيادة القانون إنشاء لجان قضائية مستقلة ومحايدة متخصصة تضمّ حقوقيين/ات وقضاة يتمتعون بالكفاءة والمعرفة الكافية بقوانين حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي. تكون مهمتها النظر في الجرائم الأشد خطورة التي ارتُكبت على نطاق واسع وممنهج، مثل التعذيب والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والقتل خارج نطاق القضاء والاستيلاء على الممتلكات، وغيرها من الجرائم المصنفة كجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. يجب تفعيل المحاكمات العادلة بحق كل مرتكبي الانتهاكات الجسيمة ومن كل أطراف النزاع، ومنع الإفلات من العقاب من خلال تنفيذ العقوبات القانونية وتجميد الأصول المالية للمسؤولين المتورطين في الانتهاكات.

كما يتوجب كف يدّ القضاء العسكري عن النظر في القضايا التي يكون فيها المدنيون/ات أطرافًا في الدعاوى، بغض النظر عن طبيعة التهم الموجهة إليهم، وإحالة تلك الدعاوى إلى القضاء المدني المختص، مع محاسبة القضاة الذين عملوا في محكمة الإرهاب والمحاكم العسكرية عند ثبوت تورطهم في الانتهاكات.

التعاون مع الهيئات الدولية ومنظمات المجتمع المدني:

لا بد من تعزيز التعاون مع الهيئات الدولية المعنية بالتوثيق وجمع الأدلّة، وفي مقدمتها لجنة التحقيق المستقلة الدولية بشأن الجمهورية العربية السورية (COI) التي امتازت بتقاريرها وتوثيقاتها الشاملة والمحايدة منذ نشأتها عام 2011، والمؤسسة الدولية للمفقودين في سوريا (IIMP)، وغيرها من الأجسام الأممية مثل الآلية الدولية المحايدة والمستقلة لسوريا (IIIM)، وأي أجسام دولية أخرى ذات صلة. كما يتوجب حماية المواقع التي تتضمن مقابر جماعية أو رفات بشرية من العبث أو التدمير، وضمان التحقيق في هذه المواقع باستخدام فرق متخصصة قادرة على استخراج الأدلة الجنائية أصولاً.

ينبغي أيضًا السماح لفرق التحقيق الدولية بالدخول إلى سوريا للمساهمة في جهود التوثيق والمساءلة، والعمل بالتنسيق مع السلطات المحلية ومنظمات المجتمع المدني ومجتمعات الضحايا، ويساهم هذا النهج التعاوني في تعزيز الشفافية وضمان جمع الأدلة وتوثيق الانتهاكات بطريقة دقيقة وموثوقة وفقًا للمبادئ القانونية المعترف بها دولياً.

المشاركة السياسية والتنمية العادلة:

يتطلب بناء السلام المستدام تعزيز المشاركة السياسية من خلال تنظيم انتخابات حرة ونزيهة،  بعد استتباب الأمن، تحت إشراف دولي لضمان الشفافية والنزاهة في العملية الانتخابية، مما يعزز شرعية المؤسسات الوطنية، وذلك بعد إلغاء قانون الانتخابات النافذ حالياً وإصدار قانون جديد يتوافق مع المعايير الدولية، ولا سيما تلك المنصوص عليها في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وينبغي أن ترافق هذه الجهود خطوات جوهرية لتطوير نظم إدارة الموارد الاقتصادية بشكل عادل وشفاف لتقليل مستويات التفاوت الاجتماعية والاقتصادية التي قد تكون وقودًا للنزاعات المستقبلية.

يتعين على الحكومة الانتقالية تبني نهج شامل للإدارة العامة يعزز الرقابة المجتمعية، ويضمن إشراك مختلف فئات الشعب في عمليات صنع القرار عبر آليات استشارية ومنتديات حوار وطني. كما يجب تعزيز قدرات المؤسسات الحكومية على المستويين الوطني والمحلي لتقديم الخدمات بكفاءة ومحاربة الفساد بكل أشكاله وتحقيق التنمية المستدامة مع ضمان رقابة المجتمع المدني للأداء الحكومي والمشاركة في صياغة السياسات العامة.

ينبغي أن تحرص الحكومة الانتقالية على ضمان تشكيل المنظمات الأهلية والمدنية والسياسية، وألا تحصر المناصب العليا بالرجال دون النساء، أو بخلفية إثنية أو دينية دون أخرى، وأن تحترم مبدأ التعددية السياسية، ومبدأ فصل الدين عن مؤسسات الدولة، ونشر ثقافة حقوق الإنسان في المجتمع.

إعادة الإعمار وبناء المستقبل:

تأتي إعادة الإعمار وبناء المستقبل من خلال ضمان العودة الآمنة والطوعية والكريمة للنازحين/ات واللاجئين/ات، مع تأمين مسكن ملائم لهم. يتطلب ذلك إعداد خطط شاملة تشمل البنية التحتية الأساسية مثل المساكن، والمدارس، والمستشفيات، مع التركيز على الشفافية وتفعيل الرقابة المجتمعية.

يجب كذلك إلغاء قرارات المصادرة غير القانونية، وينبغي إحالة القضايا المتعلقة بالعقارات والمنظورة أمام اللجان الاستثنائية المحدثة بموجب القانون رقم 10 لعام 2018 وتعديلاته إلى القضاء المدني المختص لضمان عدالة القرارات وحماية حقوق الملكية، ثم إعادة النظر في القرارات الصادرة عن تلك اللجان، وتأسيس بنية إدارية شفافة تحترم سيادة القانون وتحقق الفصل بين السلطات، مع إنشاء مؤسسات ديمقراطية فاعلة تعزز الاستقرار السياسي والاجتماعي.

علاوة على ذلك، ينبغي تطوير آليات تعويض عادلة وشفافة تتولى تعويض الأفراد الذين فقدوا ممتلكاتهم نتيجة المصادرة أو التدمير، مع توفير مسارات قانونية واضحة للطعن في القرارات الإدارية ذات الصلة. كما يجب اعتماد سياسات تخطيط عمراني شاملة وعادلة تراعي احتياجات مختلف فئات المجتمع، خاصة الفئات المهمشة، وتضمن حقوقهم في السكن الملائم ضمن بيئة آمنة ومستقرة.عد

الخاتمة:

يتطلب نجاح المرحلة الانتقالية في سوريا التزامًا جادًا بمبادئ العدالة الانتقالية، والشمولية، والشفافية، مع توفير بيئة سياسية قائمة على الحوار المجتمعي الواسع وعدم الإقصاء. إن ضمان مشاركة جميع مكونات المجتمع في صياغة مستقبل البلاد وفقًا لرؤية مشتركة تستند إلى إرادة سياسية حقيقية هو السبيل الأمثل لتأسيس دولة سيادة القانون وضمان حقوق الإنسان للجميع.

على الحكومة الانتقالية المقبلة أن تستثمر في تعزيز الثقة بين المواطنين/ات ومؤسسات الدولة عبر إجراءات حازمة تتعامل مع الحقوق التي تم انتهاكها لسنوات، وتبني أسسًا جديدة قائمة على المساءلة والمصالحة الوطنية. إن الشعارات الحسنة وحدها لا تكفي، بل يجب أن تترجم إلى سياسات وقوانين وإجراءات ملموسة تضمن عدم تكرار الانتهاكات وبناء مجتمع آمن وعادل وشامل للجميع. أما تجاهل هذه المبادئ أو الالتفاف عليها، فلن يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الاستبداد والتمييز، وتعميق الانقسامات المجتمعية، مما يهدد فرص بناء مستقبل مستقر ودائم في سوريا.

​  سوريون من أجل الحقيقة والعدالة

شارك هذه المقالة على المنصات التالية