د. محمود عباس
قُتل محمد سعيد رمضان البوطي لأنه لم ينتمِ إلى أحد، ولأن عقله كان عصيًا على الاصطفاف، ولأن كلمته كانت أعمق من أن تُحتمل.
ولذلك، فإنني لا أستعيد البوطي اليوم بوصفه شيخًا أو عالمًا فقط، بل شاهدًا شهيدًا، ضميرًا نادرًا قُطع صوته في لحظة كانت البلاد أحوج ما تكون إلى صوت عقلٍ يعلو فوق الضجيج، مع ذلك تهربون إلى سلفية ضامرة مدمرة لعصرنا ولسوريا كوطن.
ومن هنا، أقول بوضوح:
إذا كنا نريد فعلاً أن نتفادى الانهيار الشامل، ونمنع الحرب الأهلية التي تنبّأ بها، فلا بد من تطبيق المشروع العقلاني، وهو النظام الفيدرالي اللامركزي، لا كخيار كوردي فقط، بل كصيغة إنقاذ شاملة لسوريا، والخيار الكوردي أثبت جدواه، إذ اجتمع فيه العقل والحكمة والموعظة الحسنة، فكان نورًا يهتدي به في عتمة الدروب. ومواقف الكوردي، شيخ الإسلام في عصر التتار، ما تزال شاهدة على بصيرته، مثلما أكّدها اليوم الشيخ الكوردي البوطي في خطابه وتأويله.
فالوطن الجامع لا يُبنى بشعارات الهوية الأحادية، بل بدستور يعترف بالتعدد، ويضمن الحقوق، ويمنح لكل مكونٍ حيزه في القرار والانتماء.
وإن لم يُطبّق هذا، فسيكون النظام القائم اليوم مجرد نسخة مؤجلة من النظام الذي سقط بالأمس، وقد يسقط بدوره بأيدٍ كانت تصفّق له ذات يوم.
وإذا كنّا، بعد كل هذا الخراب، لا نستطيع أن نعيش معًا في وطنٍ مشترك يضمن الحد الأدنى من الكرامة والعدالة، وإذا كانت سوريا عاجزة عن تأمين حياة كريمة لجميع مكوناتها، فإن الأنسب ليس إعادة إنتاج وطنٍ يقهر الضعيف لحساب القوي، بل التوجه نحو دولٍ متجاورة، تحترم الإنسان، وتصون كرامته، وتؤسس لعلاقات سلمية قائمة على التوازن لا الهيمنة.
فنحن لا نطلب الانفصال، بل نرفض الإلغاء، ولا نسعى إلى التقسيم، بل إلى صيغة تحمي الجميع من تكرار المأساة، أما من يرفض الفيدرالية، فليعلم أنه، من حيث يدري أو لا يدري، يدفع البلاد نحو التفكك إلى كيانات متجاورة، لا نحو الوحدة، فالفيدرالية هي الفرصة الأخيرة لتبقى سوريا واحدة، عادلة، ومتعددة، لا مجرد جغرافيا تتحكم بها أكثرية تلغي الآخر باسم العدد أو القوة.
إن المسؤولية التاريخية تقع اليوم على عاتق كل من يُصرّ على إنكار التعدد، ويمارس السلطة بعقلية الاستعلاء والغلبة، وعلى رأس هؤلاء هيئة تحرير الشام، ومَن ورائها من منظمات ظلامية، وتحديدًا تركيا التي لا تزال تظن أن معارضة الفيدرالية في سوريا ستحميها من مسار مشابه.
لكن الحقيقة أن ما قاله البوطي، حين تحدّث عن مؤتمر العالم الإسلامي الذي عُقد في إسطنبول برعاية القرضاوي وأردوغان، وكيف واجهوه بالشتائم والاتهامات، لم يكن مجرد تفاصيل، بل إشارات واضحة إلى دور تركيا في تلك اللعبة الكبرى.
كان يُدرك أن من يعارض الحلول العادلة، لا يهرب من المآل، بل يؤجّله، ليعود إليه في صورة أكثر فوضوية.
نحن لا نطلب المستحيل، بل نطلب الإنقاذ، لا بالبنادق، بل بالعقول.
ولعل في صوت البوطي، الذي صمت إلى الأبد، ما يُبقي فينا القدرة على الكلام، حين يستفيق العقل قبل أن يبتلعنا الظلام.
الولايات المتحدة الأمريكية
15/4/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=67615