مير عقراوي / كاتب بالشؤون الإسلامية والكردستانية

مقدمة موجزة :
التطرق الى أيّ قضية لابد ، ومن المفترض أن يكون موضوعياً ودقيقاً وعميقاً وواقعياً وعقلانياً من جهة ، وخالياً من المبالغة فيها وبعيداً عن العواطف والشعارات والحماس من جهة أخرى ، لأن ذلك لايساعد على فهم القضية بأيِّ شكل من الأشكال ، هذا ناهيك من إيجاد تطور إيجابي لها ، أما الحل فهذا أمر بعيد المنال كثيراً الى حدود المحال وأبرز مثال هو القضية الكردية وتأتي في الصدارة معضلة معقدة هي دولة كردستان التي يحلم بها الكرد .
ذلك إن الصراحة والحقيقة المرة أفضل بكثير من تأسيس وصناعة الأوهام والخيالات التي تصطدم مع الحقائق والواقعيات ومن ثم تنسفها كقطع الفسيفساء في الهواء ، في هذا الأمر الكارثي والمأساوي فإن الخاسر الوحيد هو صاحب القضية ، أي الكرد .
في هذا الشأن أظن هناك قليل جداً ، بل ربما من النادر مَنْ تطرق الى دولة كردستان بشكل موضوعي وواقعي ودقيق ، وذلك بربط العوامل والأسباب والظروف الداخلية للكرد في كل جزء من كردستان أولاً ، والدول المتقاسمة لها ثانياً ، ثم الظروف الإقليمية ثالثاً ، ومن ثم الظروف الدولية والسياسة الدولية التي تتحكم بالعالم أخيراً . فالعوامل والأسباب والظروف المذكورة بحاجة الى وقفات خاصة وتحليلات وشروح مستفيضة خاصة كل على حدة ، وسنحاول في هذا المبحث إجمالها والتطرق اليها بإيجاز .
على المستوى الداخلي هناك العديد من الإشكاليات والعوائق التي كانت وماتزال تسد الطريق الى بلورة ذلكم الوعي والتحليل الواقعي في المجتمع الكردي ، فمن أبرزها هو الأحزاب الكردية التي فرضت الحظر عليه ، مضافاً حالة التشدد المبالغ فيه والصرامة والعنفية والخشونة للأحزاب الكردية حزبياً وفي المجتمع الكردي بشكل عام ، وعدم محاولة تشكيل وعي سليم وصحي ، مع حالة الإستبداد والفردانية والقبلية العائلية لقادتها داخل الأحزاب وخارجها حيث المجتمع الكردي .
بعد هذه المقدمة الموجزة ندخل الى صلب الموضوع وعنوانه التساؤلي ؛ هل دولة كردستان قادمة أم لا ، وكيف … !؟ ، وذلك كمحاولة للحصول على أجوبة شافية وواقعية له ، وكمحاولة أيضاً لفهم هذه المشكلة المعقدة والإشكالية الكبيرة والمعضلة المستعصية في جميع العصور ومن جميع النواحي .
هل دولة كردستان قادمة أم لا ، وكيف ..؟
برأيي وبحسب متابعتي لتاريخ القضية الكردية والمنطقة والسياسة الدولية ؛ هناك أمران يُعتبران كمفتاحين وعلامتين بارزتين واضحتين للوقوف إيجابياً ، أو التخمين والتفاؤل النسبي في إمكانية قيام دولة كردستان في المستقبل المنظور غير القريب بطبيعة الحال ، وهذا التفاؤل النسبي شَبَّهته سابقاً بضوء خافت جداً في نفق مظلم طويل شديد العتمة ، هما :
أولاً /
أولى المؤشرات الإيجابية المؤدية الى التفاؤل النسبي في إمكانية وآحتمالية ولادة دولة كردستان في قادمات الأيام غير المنظورة ، هو إستمرارية بقاء كيان إقليم كردستان العراق ، و كيان الإدارة الذاتية في كردستان سوريا الحاليين . فإنِ آستمر ذانكما الكيانان في البقاء زمنياً وسياسياً وجغرافياً وتمددا وتوسعا وتمكنا من تطوير إدارتيهما نحو الأفضل والأحسن على المستوى الحكومي والإداري والإقتصادي والمالي والعسكري والتسليحي والتدريب العسكري النظامي والتعليمي والثقافي والتربوي والإعلامي وغيرها وفقاً لمباديء الديمقراطية والعدالة الإجتماعية ، وذلك بعيداً عن القبلية والعشائرية والشخصانية – الفردانية والحزبوية الصارمة والعنفية والإستبداد والفساد والكبت الإجتماعي ، فقد يكون ذلك أحد المؤشرات التفاؤلية لقيام دولة كردستان المستقبلية ، كما يجدر للأهمية القصوى طرح التساؤل التالي ؛ هل في المستقبل المنظور أو غير المنظور تقوم دولة كردستان ، أم دويلة كردستان …!؟ .
ثانياً / رؤى ومواقف الدول العظمى :
ما هي رؤية الغرب ، أي أوربا والولايات المتحدة الأمريكية ، ومن ثم روسيا والصين لكل من تركيا وايران ، هل إنه – أي الغرب – ينظر الى تركيا وايران كنظرته الى العراق وسوريا والصومال واليمن وليبيا وأمثالها من الدول والبلدان …؟
للعلم إن الأمر الأول أو الإحتمال ، أي موضوعَيْ كردستان العراق وكردستان سوريا مرتبط ومرهون بالأمر الثاني ومتوقف عليه بلا شك وبصورة مباشرة ، وهو رؤية الغرب وروسيا والصين لتركيا وايران . إننا اذا ما عرفنا رؤية الغرب والصين وروسيا بالتحديد إزاء تركيا وايران حينها يمكن الإستنتاج عندئذ فيما يخص إمكانية قيام دولة كردستان أو ، لا .
فاذا ثبت لنا إن رؤية الغرب والصين وروسيا وموقفهم تجاه تركيا وايران ، هي نفس الرؤية لهم تجاه العراق واليمن وسوريا ، فهذا يعني بكل وضوح إن رؤيتهم الإستراتيجية قد تغيرت بالكامل نحوهما ، لكن اذا ما تيقنا بأن رؤيتهم لتركيا وايران ليست كذلك ، فهذا دليل قوي ومؤشر واضح جداً بحد ذاته يعني عدم إمكانية قيام دولة كردستان من الأساس بأيِّ شكل من الأشكال ! .
على ضوء ما ورد ، وبحسب ما آستقرأته من آراء كبار المنظرين الإستراتيجيين والمفكرين والسياسيين في الغرب من خلال كتبهم ، مثل هنري كيسنجر ، أنتوني كوردسمان ، وبرنارد لويس [ 1916 – 2018 ] توصلت للتالي ؛ الغرب له رؤيتان متباينتان حيال العرب وكياناتهم وبلدانهم من جهة ، وحيال تركيا وإيران من جهة ثانية ، فالغرب – كما آستقرأته – لا يريد أن تصبح تركيا وإيران مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال وغيرها ، وذلك للعوامل التالية ؛
1-/ تركيا وإيران دولتان كبيرتان قويتان ذات تأثير ونفوذ في المنطقة ، وفي السياسة الدولية تقريباً .
2-/ تركيا وإيران من الناحية الجيوسياسية لهما موقع جغرافي هام وحساس للغاية ، فهما جارتان لروسيا أحد الدول العظمى في العالم ، وذات حق الفيتو [ النقض ] في مجلس الأمن الدولي .
مع ما ورد يعتقد بعض المراقبين والسياسيين والمفكرين العرب والمسلمين ، بخاصة الإسلاميين منهم ؛ إن الغرب يسعى أيضاً الى تفتيت وتجزيء تركيا وإيران أيضاً ، بالإضافة الى دول أخرى مثل الباكستان وفقاً لمبدإ وسياسة فرِّق تسد . في حين يعتقد البعض الآخر إن هذا الرأي مبالغ فيه ، وهو ناتج من نظرية المؤامرة ، ومن حساسية هؤلاء للغرب . فالشواهد والقرائن – أقلاً برأيي – لا تُشير الى أن هناك مخططاً لتفيت وتقسيم تركيا أو إيران ، أو إن مصيرهما على الصعيد السياسي والجغرافي والسكاني سيصبح كمصير العراق وسوريا واليمن وغيرهم أمثالهم على الأقل كما نراه اليوم وفي المستقبل المنظور أيضاً . فالبلدان العربية في ميزان السياسة الدولية مقارنة بتركيا وإيران هي منطقة الرخو والنقطة الأضعف ، وعادة منطقة الرخو هي التي تتعرض للتفتيف والتدخل والتشتيت والتضعيف والأمثلة هي العراق وسوريا واليمن وغيره .
رغم ما ورد قد لا يكون ذلك مستبعداً لتشكيل النظام العالمي الثالث القادم في المستقبل غير المنظور ، فالنظام العالمي اليوم يترنح بين النظام العالمي الثاني القديم الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية [ 1939 – 1945 ] من القرن العشرين المنصرم ، والنظام العالمي الثالث القادم الذي هو في طور التشكيل والإعداد في المستقبل منذ آنهيار الإتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية التي كانت تدور في فلكه عام 1990 من القرن العشرين الماضي . ربما لاحقاً قد يطرأ تغييراً على ميزان القوى للسياسة الدولية ، بخاصة بعد حسم الحرب الروسية – الأوكرانية التي آندلعت في العام الماضي ، أو نشاهد صعود قوى كبيرة على المستوى الإقتصادي والتكنولوجي والعسكري كالهند على سبيل المثال ، أو التمدد الصيني الكبير في آسيا وأفريقيا وغيرها .
إن كل هذه القضايا لها تأثير هام في النظام والميزان والقوى الدولية التي ترسم السياسة الدولية . في هذا المنحى تحاول كل من تركيا وإيران أن تصبحا قوتين كبيرتين ذات تأثير وفاعلية ليست على المستوى الإقليمي ، بل العالمي أيضاً ، ولديهما مشروعيهما السياسي والإقتصادي والثقافي في هذا الصدد . لهذا نشاهد التمدد والتدخل التركي – الإيراني المباشر أو غير المباشر في العديد من دول وبلدان منطقة الشرق الأوسط ودعمهما للأنظمة والقوى والأحزاب والجماعات الموالية لهما أو المتحالفة معهما ، مثل جبهة النصرة وجماعات الإرهاب والتكفير المتطرفة وسلطة بشار الأسد البعثية والأحزاب الشيعية العراقية الحاكمة والحوثيين في اليمن وأمثالهم ، كما ملحوظ تدخلهما في ليبيا ، بخاصة تركيا حيث لها تواجد ونشاط فيها ، لأن ليبيا كانت أحد الإمتدادات سابقاً للدولة العثمانية التركية كما تتشبث بذلك تركيا الأردوغانية .
الخلاصة والإستنتاج ؛
ولو لايمكن التخمين ولا التكهن بشكل صحيح ودقيق في معضلة معقدة مثل قيام دولة كردستان ، لكن أغلب الظن بظني إن قيام دولة كردستان لا تتأسس كما يحلم به الكرد ، لأن الزمن تقادم على القضية الكردية كثيراً وأفقد كردستان الكثير من خصائصها السكانية والجغرافية ، أي تعرض كردستان الى التقلص والتآكل والإبتلاع الى حد كبير إذن ، فهذا إحتمال ضعيف وفي غاية الضعف . عليه إن جميع الإشارات قد ترمز الى قيام دويلة كردستان في المستقبل غير المنظور في كردستاني العراق وسوريا ، أقول دويلة بسبب إقتطاع مناطق ومدن من كلا الجزآن منهما ، مثل مدينة كركوك وغيرها ، وهكذا بالنسبة لمناطق ومدناً في كردستان سوريا ، وهذا أيضاً إحتمال ضعيف ، لأن تركيا وإيران سوف ترفضان وتقاومان أيَّ مشروع من هذا القبيل كل الرفض والإلغاء والمقاومة ، بخاصة تركيا .
أين تقوم دولة كردستان ..!؟
ليس هناك أمل ولو ضئيل – برأيي – في قيام دولة كردستان في كردستان تركيا ولا في كردستان إيران وقد أشرنا الى العوامل أعلاه مع إنهما أكبر أجزاء كردستان من حيث المساحة والسكان . لهذا فإن حزب العمال الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني وغيرهم لا يرفعون شعار الإستقلال لكردستانَيْ تركيا وإيران ، بل يناشدون الحقوق الثقافية والحكم الذاتي لذانكما الجزآن من كردستان ، وهذا ما رفضته أنقرة وطهران دوماً . حتى الأحزاب الكردية في كردستان العراق كانت ترفع شعار الحكم الذاتي ، لكن بعد إقرار النظام الفدرالي للعراق عبر كردستانه عام 2004 وأقدمت القيادة البارزانية بتصدير النفط الى الخارج عبر تركيا في عام 2014 وعقدها – أي العائلة البارزانية – إنتفاقية نفطية لنصف قرن مع تركيا أردوغان بمعزل عن بغداد ظنت إنها بمقدورها المضي قدماً الى الأمام وفرض الأمر الواقع على المنطقة والعالم ، فأقدمت على إستفتاء عام 2017 لأستقلال كردستان العراق وتأسيس الدولة الكردية فيها ، وجاء الرد والرفض الإقليمي والعالمي سريعاً برفض الإستفتاء رفضاً حاسماً . الأمل النسبي لقيام دولة كردستان يكمن في كردستانَيْ العراق وسوريا فقط ، ولقيام دولة كردستان في الجزآن المذكوران ينبغي تغيير الحدود الدولية الحالية المثبتة منذ الحرب العالمية الأولى وما بعدها لحد يومنا هذا ، والحدود الدولية لا تتغير إلاّ بموافقة الدول العظمى المعروفة في العالم ، ثم من خلال مصالحها ، ومن ثم بالتوافق الإقليمي مع دول منطقة الشرق الأوسط ، بخاصة تركيا وإيران .
معروف لدى القاصي والداني إن تركيا وإيران ترفضان ، كل الرفض من قيام دولة كردستان المذكورة ، وهما على آستعداد لخوض غمار حرب شرسة في سبيل ذلك . علاوة على ما ذكر حتى لو إقتنعنا – مثلاً – بأمل قيام دولة كردستان في كردستانَيْ العراق وسوريا فإن السياسة الدولية لاتُؤسسها كما يحلم به الكرد ، بل إنها سوف تقطع مناطق واسعة منها مختلطة سكانياً بين الكرد والعرب والتركمان والكلدان ، مثل كركوك والموصل ومناطق مشابهة في كردستان سوريا ، فدولة كردستان القادمة لا تكون دولة قطعاً كسائر الدول ، بل إنها سوف تكون دويلة محدودة الجغرافيا ، ومتواضعة إقتصادياً ، كما إنها ستكون محدودة إقليمياً وعالمياً ودبلوماسياً . برأيي هكذا ستكون جغرافيا وشكل وحدود دولة كردستان التي أراها في مخيالي ، وما هي إلاّ دويلة ضعيفة مستضعفة قليلة الموارد ومحصورة من جهاتها الأربعة ، طبعاً حتى الذي ذكرته الى الآن عن فرضية دويلة كردستان المذكورة ما هو إلاّ أمل في غاية الضعف أو ضوء خافت جداً في نفق مظلم طويل .

شارك هذه المقالة على المنصات التالية