بوتان زيباري
لا يمكننا أن نتجاهل أن مسألة الهوية ليست مجرد سلسلة من الكلمات أو توصيفات ثقافية، بل هي بنية معقدة من القيم، التاريخ، اللغة، والوعي الذاتي الذي يشكل فردًا أو مجموعة في صراع مستمر مع القوى الخارجية والداخلية. هذا الحديث لا يحمل فقط عبء المعرفة أو التحليل السياسي، بل هو انعكاس عميق لواقع شعب يحاول أن يعيد اختراع نفسه في ظل قيود متعددة، بعضها تاريخي وبعضها حديث، لكنه جميعًا يتشابك في تشكيل واقع مرير.
القضية الكوردية، كما تُطرح هنا، ليست قضية حدود أو سيطرة، إنها أولاً وقبل كل شيء مسألة وجود، محاولة للبقاء، للمقاومة، ولإعادة تعريف الذات في وجه مشروعات أيديولوجية وسياسية تحاول إعادة تركيب الإنسان الكوردي بمقاييس غير كوردية. من هنا تظهر الحاجة إلى إعادة النظر في المصادر التي نستقي منها معرفتنا عن أنفسنا، وفي الأطر التي نستخدمها لفهم واقعنا. هل ما نقوله عن أنفسنا هو انعكاس حقيقي لذواتنا، أم أنه إعادة تدوير لمفاهيم مستوردة من قِبل الآخرين؟ وهل نحن أصحاب السرد، أم مجرد متلقين لإنتاج آخر؟
اللغة ليست مجرد أدوات للتواصل، بل هي جوهر الوجود الثقافي، وهي ما يربط بين الماضي والحاضر، وبين الجيل الحالي وأجيال المستقبل. فقد كانت اللغة الكوردية عبر التاريخ مصدرًا للتمسك بالهوية، حتى عندما حاولت الاستعماريات الثقافية والسياسية طمسها. ولكن، في الوقت ذاته، كيف لنا أن نتحدث عن لغة وثقافة في ظل نظام تعليمي يعيد إنتاج العقلية الكولونيالية؟ وكيف لنا أن نحمي ذواتنا إذا كانت أدوات الفهم لدينا مستمدة من نفس النظام الذي يمارس العنف الرمزي ضدها؟
السياسة أيضًا ليست فقط ساحة صراع على السلطة، بل هي معركة على المعنى. الحركات السياسية الكوردية، سواء كانت داخل إطار المقاومة المسلحة أو ضمن العمل المدني، تواجه تحديات كبيرة في بناء خطاب يعبر عن الواقع الكوردي دون أن يقع أسيرًا لأيديولوجيات خارجية أو مصالح مؤقتة. هناك حاجة إلى تأسيس منظومة معرفية جديدة، تُنتج من داخل المجتمع الكوردي، وتُبنى على أساس تحليل عميق للواقع وليس على الانتماءات الأيديولوجية المؤقتة.
الدين ليس بمعزل عن هذه الديناميكيات. فالإشارة هنا إلى محاولة دمج الدين في الخطاب القومي الكوردي، ليس كأيديولوجية سياسية، بل كجزء من الهوية التاريخية والثقافية. هذا التفاعل بين الدين والقومية ليس جديدًا، لكنه يحتاج إلى إعادة قراءة بعيدًا عن التعصب أو الإقصاء، ليصبح رافدًا للوحدة والتماسك الداخلي، وليس أداة للانقسام.
النخبة الفكرية لها دور كبير في كل ذلك. فهي ليست فقط من تُنتج المعرفة، بل يجب أن تكون من يدافع عن حق الشعب في التعبير عن نفسه، وفي تقرير مصيره الثقافي أولًا قبل السياسي. لكن ماذا يحدث عندما تتحول النخبة إلى مرآة للآخر؟ عندما تبدأ بالتفكير “بالعقل التركي أو الفارسي أو العربي”، بدلاً من أن تكون صوتًا للعقل الكوردي؟ هنا تظهر أهمية بناء فضاء فكري مستقل، قادر على استيعاب التنوع الداخلي، ورفض اختزال الهوية في شخص واحد أو تنظيم واحد.
أخيرًا، لا يمكن الحديث عن الكورد دون الحديث عن الطبيعة الكولونيالية الداخلية التي تمارس ضد مجتمعاتهم. فالعنف ليس فقط إطلاق رصاص أو اعتقالات، بل هو أيضًا تهميش ثقافي، وحرمان من التعليم بلغة الأم، وتحويل الإنسان الكوردي إلى موضوع للسياسات وليس فاعلًا فيها. العنف الطبيعي، أو ما يُسمى بالعنف اليومي، هو ما يجعل هذا النوع من السيطرة أكثر فتكًا، لأنه يصبح جزءًا من الحياة اليومية، ويدخل إلى العائلة، المدرسة، وحتى إلى الطريقة التي يفكر بها الإنسان عن نفسه.
بناءً على ذلك، فإن الطريق نحو التحرر لا يمر فقط عبر المطالبة بالحقوق السياسية، بل يتطلب إعادة تشكيل شاملة للوعي، وإعادة تعريف للهوية بما يتناسب مع واقعنا وليس مع رؤى الآخرين. علينا أن نملك سردنا، أن نكتب كلماتنا بأنفسنا، وأن نرسم مستقبلنا دون أن نترك مكانًا للخوف أو التبعية. فقط حينها سنكون قد بدأنا فعلًا طريقنا نحو الحرية والاستقلال الحقيقيين.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=72093