مما لا شك فيه أن إرهاق كاهل المواطنين بالضرائب والرسوم، وخاصة الفقراء والذين تحت خط الفقر ومتوسطي الحال، والذين يعدون أكثر من ٩٠% من المجتمع السوري، سوف يزيد من فقر هؤلاء وغنى أولئك النسبة المتبقية التي يعرف عنها قدرتها الفائقة على التهرب الضريبي في ظل نظام ضريبي متخلف ولا يحقق أبسط قواعد العدالة والكفاءة الضريبية، مما يشكل في المحصلة عقبة كأداء في وجه إعادة الإعمار بداية ومن ثم التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.
إن عدد الضرائب والرسوم التي يدفعها السوريون نحو سبعين ضريبة ورسم منها ٣٢ ضريبة تحصلها وزارة المالية، وإذا أضيفت إلى رسوم الوحدات الإدارية فربما يتجاوز العدد مائة ضريبة ورسم. وتجدر الإشارة إلى أن الحدود الفاصلة بين الضريبة كونها تكليف إلزامي بدون مقابل خدمة والرسم كونه تكليف غير إلزامي وبمقابل خدمة ضاقت جداً في فهم الحكومة السورية لكلاهما، فتجد عدداً من الرسوم تفرض كضرائب وتحصل بطريقة إلزامية بإضافتها إلى فواتير خدمات عامة، فتضاعف من قيم هذه الخدمات كونها تصاعدية كفاتورة الكهرباء والماء والاتصالات.
وتنقسم الرسوم والضرائب من حيث تأثيرها على المكلفين إلى:
ـ رسوم وضرائب مباشرة تنعكس تأثيراتها مباشرة على حياة الناس وخاصة من ذوي الدخل المحدود، وأبرزها ضريبة الدخل على الرواتب والأجور، وضريبة الأرباح الصافية على المهن والحرف الصناعية والتجارية وغير التجارية، ورسم الإنفاق الاستهلاكي المفروض على خمس خدمات وحوالي ٣٢ سلعة، والرسم الخاص على العقود والطلبات والعرائض والشهادات الرسمية والعقود بأنواعها.
ـ الرسوم والضرائب التي تفرض على الشخصيات الاعتبارية من مؤسسات وشركات ومنشآت وتنعكس قيمها على المستهلك النهائي لخدمات هذه الجهات.
ـ الرسوم والضرائب غير المباشرة كالضرائب الجمركية وضريبة المبيعات وقيمها تنعكس على المستهلك النهائي للسلع وتعتبر ضرائب عمياء لا تميز بين الغني والفقير ولا تأخذ بعين الاعتبار العدالة الاجتماعية إذ أن الطبقات الفقيرة والمتوسطة هي من تدفع معظمها.
ـ ويدفع السوريون ضريبة قسرية مستترة هي الفرق بين سعر صرف ليرتهم (الاقتصادي) وسعر صرفها (السياسي). ويتقاسم هذا الفرق الحكومة وأساطين المال والأعمال في البلد.
ويعد ذوو الدخول الثابتة الممول الأكبر للخزينة العامة إذ تشكل ضريبة الرواتب والأجور ٢٨% من الضرائب المباشرة بينما ضريبة أرباح الشركات ٣٥% وضريبة الدخل المقطوع ١٠% ، ونسبة الضريبة المباشرة إلى الإيرادات العامة ٨% ، ونسبتها إلى الإيرادات الضريبية نحو ٦٠% ، ونسبة الضريبة المحصلة من القطاع الخاص لا تتجاوز ١٠% من الناتج المحلي في حين حصته من الناتج تتجاوز نسبة ٧٠% . هذه النسب تعكس مدى التهرب الضريبي ومدى سوء توزيع العبء الضريبي على مختلف شرائح وطبقات المجتمع حتى يبدو أن الطبقات الفقيرة والمتوسطة هي من تدعم الحكومة وليس العكس. وكل ما يقال عن دعم حكومي لبعض السلع هو من قبيل الضحك على الذقون لا أكثر ولا أقل، لأن حجم الدعم الحكومي لا يعادل حجم عائدات الحكومة من الضرائب والرسوم المدفوعة بغير وجه حق.
إن اعتماد الحكومة بصورة أساسية على مصادر الدخل الضريبية لتغطية نفقاتها الجارية وخاصة دفع رواتب وأجور العاملين فيها يعكس مدى الانهيار الكبير الذي لحق الاقتصاد الوطني بسبب الحرب، ومدى الخلل الكبير في هيكلية المالية العامة. ومن جهة ثانية يفضح عجز الدولة السورية منفردة عن القيام بعملية إعادة الإعمار بعد توقف الحرب في معظم المناطق، وارتهانها للجهات الممولة والمانحة من الخارج التي تتنافس على الموارد الطبيعية السورية.
إن سياسة زيادة الرسوم والضرائب على السوريين مع مستويات أجور منخفضة، تضعف من قدرتهم الشرائية، وبالتالي تضعف الطلب الفعال وتؤدي إلى مزيد من التضخم الركودي الذي يعاني منه أصلاً الاقتصاد السوري منذ سنوات، وهذا بحد ذاته سيضاعف أعباء إعادة الإعمار ، وفي الوقت ذاته لن يقلص العجز في الموازنة العامة للدولة.
إن فلسفة الضريبة الحقيقية لا تقوم على اعتبارها أداة مالية الغرض منها تمويل نفقات الدولة، ولا تكييفها القانوني يقوم على أنها فريضة إلزامية تتصرف بحصيلتها الحكومة دون حسيب ولا رقيب. إن فلسفة الضريبة اقتصادية صرفة كونها أداة من أدوات السياسة المالية، تستعملها الدولة للتدخل في الاقتصاد لتحقيق التوازنات الكلية وإعادة توزيع الدخل لتحقيق العدالة الاجتماعية. والمواطن، في فلسفة الضريبة، دافع ضريبة، أي من يمول الدولة وتنهض على كاهله، ولكن من أجله، لا ضده . ومعيار هذه العلاقة بين دافع الضريبة والدولة هو عدالة الضريبة ونوعية الإنفاق العام.
إن أسوأ النظم الضريبية هو ذلك النظام الذي يدفع الفقير فيه الضريبة ويستفيد منها الغني.
والدولة التي تتبنى هكذا نظام أقل ما يقال عنها أنها لا تمتلك استراتيجية اقتصادية محايدة تجاه مواطنيها ، إنما هي حبيسة أهواء ومصالح فئة صغيرة تتحكم بها من كل النواحي الاقتصادية وغيرها . والدولة السورية المنهكة إذا كانت تراهن على إفراغ جيوب مواطنيها لتمويل إعادة الإعمار أو تأمين احتياجاتها الجارية أو تسديد ديونها ، فإن رهانها حتماً سيؤدي إلى سقوطها لأن هذه الجيوب غير قادرة أصلاً على تأمين الحد الأدنى للحياة . عندئذِ لا مناص من إعادة النظر بالنظام الضريبي بالتزامن مع تغيير العلاقة بين الدولة والمواطن لتصبح علاقة تفاعلية تبادلية عوضاً عن علاقة التبعية القهرية من جهة الدولة تجاه مواطنيها ، التي تتجسد في أبشع صورها بفلسفة للضريبة لا تمت بصلة لروح العصر وأنظمته وقوانينه.
إن النظام الضريبي المتهالك هو جزء من منظومة كلية متهالكة ، لا يمكن إصلاحه أو تغييره بدون إصلاحها أو تغييرها. والخطوة الأولى في هذا المنهج تبدأ بقلب فلسفة الضريبة على عقبها بحيث يدفعها الغني، ويستفيد منها الفقير بتحسين مستوى حياته، ليصبح قادراً على التكليف. وهذا يستوجب تبسيط النظام الضريبي وتطويره بما يتماشى مع الفكر الاقتصادي الحديث في فلسفة الضريبة التي تستهدف تخفيض الضرائب على مصادر توليد الدخل (الضرائب على الدخل : دخل الرواتب والأجور ـ دخل الأرباح ) بهدف تشجيع الإنتاج والاستهلاك والاستثمار والتصدير ، والتركيز على الضرائب التي تفرض على استخدامات الدخل (الضرائب على الإنفاق : ضريبة القيمة المضافة – ضريبة المبيعات) مع تمكين العدالة الضريبية بزيادة الإعفاءات الشخصية والاجتماعية لذوي الدخل المحدود لضمان حياة كريمة لهم. وهذا بدوره لا يمكن أن يحصل من دون القضاء على جميع أشكال ومظاهر الفساد المالي والإداري، وبخاصة فساد السياسات الاقتصادية والمالية. كما أن تخفيض معدلات الضرائب في سورية إلى مستوى مثيلاتها في الدول ذات الاقتصادات المماثلة والدول المجاورة يلعب دوراً مهماً وأساسياً في قبولها مستقبلاً في التكتلات الاقتصادية الدولية في ظل عولمة متفاقمة ، البقاء خارجها يعني البقاء خارج روح العصر ، تدفع الدولة السورية أعباءها دون الاستفادة من فرصها.
وفي هذا السياق يصبح أيضاً تعديل مستوى الأجور بما يتلاءم مع مستويات الأسعار ضرورة اقتصادية ملحة من أجل تقوية الطلب الفعال على الإنتاج الوطني ، وضرورة مالية لزيادة قدرة السوريين على دفع المزيد من العائدات الضريبية ، التي يمكن توظيفها في عملية إعادة إعمار وطنية دونما أي ارتهان للخارج .
إن اعتماد فلسفة جديدة للضريبة مع تكييف، في إطارها وجوهرها، كل نواحيها المتعلقة بالعدالة والمساواة والعمومية والكفاءة، وكل نواحيها التنظيمية والفنية والتقنية، التي تميز النظم الضريبية المتطورة والحديثة عن النظم المتخلفة والتقليدية ، إنما يراد منه تحرير الضريبة من أسر الأفهام الضيقة والخبيثة والملتبسة التي تفقدها جوهرها الاقتصادي والاجتماعي. ولكن تبقى فلسفة الضريبة أسيرة فلسفة الدولة، التي ما لم يحصل تغيير جوهري في كنهها، على أبواب مرحلة جديدة ، فإن فلسفة الضريبية ستظل عبئاً ثقيلاً على عملية إعادة الإعمار ، تعيقها وتحرفها عن اتجاهاتها الوطنية المنشودة .
د . مهيب صالحة / السويداء / نيسان ٢٠١٩
دكتوراة في الاقتصاد وعميد سابق كلية إدارة الأعمال، الجامعة العربية الدولية، سوريا aiu.edu.sy
خاص تموز نت