المتن الروائي يمتلك براعة في اسلوب التقنية الفنية بالصياغة الفكرية , في الخيال الخلاق , وهو يبتكر اسلوب رواية الخيال العلمي , من تداعيات الزمن الحاضر , تملك دلالة بليغة في خطابها الرمزي المثقل بالمغزى العميق في استلهام اسطورة طوفان ( نوح ) وسحبها الى الواقع الحاضر , ليدق ناقوس الخطر بالتحذير بالطوفان الثاني القادم , إذا لم يتعظ الواقع من عبر ودروس الطوفان الاول , بهذه النظرة البصيرية الثاقبة , بأن الطوفان الثاني سيكون أكثر فداحة اذا لم تتغير عقلية المجتمع والمتسلطين عليه في عبثهم في في الخراب والحروب , إذا لم يتخلص الواقع من الفنتازيا التي تتحكم به , والحدث السردي في الاتجاه ألاسلوب الخيال العلمي في الرواية يمتلك وجاهة هادفة في الرؤية البصيرية من مديات الواقع المأزوم , منصات السردي الروائي اعتمدت السرعة والتكثيف في دراماتيكية الاحداث المتصاعدة نحو الذروة القصوى , وهو يدلل عمق الازمة التي تجتاح الواقع , الذي بمخمط الحقيقة والحرية , وبالتالي يؤديان الى ضياع الواقع والانسان معاً , هذه رمزية المستنقع , وهي رمزية الواقع المقطع الأطراف والأجزاء , ويتحرك بدون عقل أو رأس , هذه الرؤية الفكرية التي اشتغل عليها الأستاذ الروائي قصي الشيخ عسكر في رواية ( شيء ما في المستنقع ) في أسلوبها الخيالي الخلاق , في احداث تمتلك البعد الاجتماعي والسياسي والنفسي , والغوص في دلالاتها العميقة , والحدث السردي يتطرق الى وجود جثة طافية على سطح المستنقع مقطعة الاجزاء أو بقايا من جثة , بلارأس , وبلا اطراف ويعطيها ابعاد فكرية عميقة الدلالة , والبحث داخل المستنقع لتجميع بقايا الجثة طافية على جرفه , بشكل مختلف عن روايات فرانكشتاين المتنوعة , ليس في تجميع اجزاء من جثث الموتى من المقابر أو من الحوادث العاصفة , من اجل خلق المسخ للقتل والاجرام والانتقام . في هذه الرواية يكون الأمر مختلف جداً بأن هدف تجميع بقايا الجثة لشخص نفسه , ليعيد حقوقه المسلوبة , في الحرية , ليعيد وجه الحقيقة الضائعة في ركام الزمن او في المستنقع الذي يرمز الى الواقع القائم , وشخصية بطل الرواية يقوم بدور البصير في التنبؤ في الأحداث القادمة , لكنه يتهم بالاجرام والقتل ويقدم إلى المحكمة على جرمٍ لم يقترفه , بما يدلل بأن عدالة القضاء ناقصة مبتورة , كأنها تحاول ان تخلق التهم بشتى انواعها وتفرضها عليه , كأنها تحكم على جندي عائد من الحرب منكسراً ومهزماً ومحبطاً, يحاكم على خيبته واحباطه وانكساره , هذا الواقع المأساوي في الأزمة الانسانية الضاربة في الأعماق الواقع , يرى الامور بالمقلوب ويتهم بالتمرد والخيانة , وبذلك وجوده يشكل خطراً على المجتمع والأمن والنظام , وعليه تقديمه الى المحاكمة , بالتهم , بأنه يختلق الاكاذيب في وسوسة عقول الناس , . وحين يدق ناقوس الخطر بالطوفان القادم , يتهم بالفوضى وتغيير النظام , ويقدم الى المحكمة بقضية اجرام خطير, وتجري المحاكمة بهذا الشكل ( الدفاع : يرفع يده معترضاً . سيدي القاضي ارفض ان يوجه الى موكلي سؤال يخص حياته السابقة , حيث كان يعاني من مرض ,
الادعاء : لكنك لم تكتفِ بذلك قطعت شجرة قديمة
المتهم : كنت أهيئ نفسي للطوفان
الادعاء : لو كان ما تقوله صحيحاً فلم اخترت شجرة ترجع إلى الطوفان الأول ؟
الدفاع : يرفع يده معترضاً . سيدي القاضي لا يحاسب الإنسان على المصادفات
القاضي : الاعتراض مرفوض ) ص80 . كما قوبل بعاصفة من الضحك في المحكمة حينما قال المتهم , بأنه كان يبحث عن جثته في المستنقع .
×× مسرح الاحداث والطوفان :
طفل فقد ابيه غرقاً فتولت الام تربيته برعاية حنان الام , وتعليمه على الذكاء والفطنة والبصيرة في الحياة , وكانت قلقة جداً على حياته من العواقب الوخيمة ( أخشى ان خرجت ألا تعود ابداً .
– أني ابحث ابحث عن شيء حلمت به ولا اتذكره
قالت يائسة :
– حاول ان تتذكر قبل أن تخرج ) ص6 . فكانت تناوشه الهواجس , التي تضجع راحته في الحلم واليقظة , لهذا يخرج كل ليلة صوب المستنقع , كأنه يفتش عن شيء مفقود منه , رغم تحذيرات الأم بعدم الذهاب ليلاً الى المستنقع , لكنه يخالف رأي أمه ويصر على الذهاب والتفتيش في ماء المستنقع , يأخذه هاجس الحلم الى المستنقع ( جذبه طريق طويل تحف جانبيه اشجار الصفصاف , ثم يلتصق بمستنقع عند أول منعطف , ظل يمشي محاولاً التذكر , غير منتبه الى النقيق وغناء الطيور , كانت أحاسيسه تتمثل في عينيه وهما تتابعان النهر ويخطوان برجليه وسط الأشجار الكثيفة , استوقفه شيء ما بالقرب من الجرف بقعة ضحلة راكدة بدأ الشيء الغامض ثياباً للوهلة الاولى , ثم تبين بعض جثة تطفو في الماء على صدرها ) ص6 . ثم تبين بقايا جثة بلا رأس , بلا أطراف , وسحبها الجرف , لكن بدأت الحيرة والارتباك تأكل عقله بالهواجس القلقة , كيف وجد بقايا جثة ؟ وكيف عثر عليها ؟ ربما يتهم بالاجرام والقتل , ماذا سيقول الناس عنه ؟ ربما بأنه هو القاتل والمجرم , ماذا سيخلق الانطباع عند الناس بالأقاويل عن إنسان وجد بقايا جثة , وربما تنسحب اقاويل الناس على أمه بالسوء , وخاصة أنها رفضت الزواج بعد موت زوجها غرقاً , وقد تقدم إليها الكثير بطلب الزواج , لكنها كانت تصر بعناد , بحجة رعاية طفلها , يشعر انه في حيرة وتخبط في قراره , كأن الحلم الذي كان يراوده , يجده في اليقظة ماثل أمامه . وعليه ان يقول الحقيقة أمام الناس بدون كذب ومراوغة , ان يكون حذراً في خطواته , حتى لا يقع في مأزق ( أتخذ تدابير احتراز بعد أن صنع زورقاً لا يشبه الزوارق الراسية على الجرف , وهدفه ان ينزل الى المستنقع من غير ان يعرفه الاخرين بذلك ) ص47 . لكنه وقع في المحظور وانتشر خبر بقايا الجثة بين الناس ,بعدما سحب الجثة الى غرفته واخفائها , وقدم إلى المحكمة بتهمة القتل والاجرام ( القاضي : ماذا تقول في التهمة الموجهة إليك ؟
– الدفاع : سيدي , أن موكلي أصم وأعمى وأبكم
– القاضي : مع ذلك يجب أن لا نتجاوز على الإجراءات التقليدية ) ص59 . بدأ يشعر بأنه غريب عن المجتمع , والقضاء والنظام , يترصدون به , لايقاعه في الفخ , ولا يمكن تغيير عقلية المجتمع بأنه ليس قاتل , ولم يسمع نصيحة الآخرين بعدم تصادم مع المجتمع ( – اسمع ياولدي , حينما كنت في سنك فكرت بالتغيير , فقد كان كل شيء رتيباً , اردت ان احرك الرتابة فاختفيت , كان الخطأ بعدئذ غير متعمد فبدلاً ان تحدث قفزة أصبحت أسطورة ولغز ) ص74 .
لكن الغرابة في امر بقايا الجثة , انه كلما اكتشف جزء من بقايا الجثة , فقد جزءاً من جسمه . , هو يحاول جاهداً تمزيق ستارة القضاء والقانون ويكشف الأخطاء الجسيمة ضد الزمن والانسان ,فبدلاً من مناقشة رؤيته الفكرية بالطوفان القادم , يتهم بالاجرام وخيانة الوطن , وحتى لو كانت بقايا الجثة هي جثته ( الادعاء : ألم يكن تعرف ان اخفاء جثة مهما كانت محظوراً ؟
المتهم : لكنها جثتي
الدفاع : ( يرفع يده ) سيدي القاضي ما دامت الجثة تابعة له , فلا يحق لاي شخص ان يحاسبه
القاضي : القانون ينص على عموم الجثث , كان على المتهم أن يخبر عنها . الاعتراض مرفوض ) ص81 . ثم تضاف الى لائحة الاتهامات اشياء اخرى تصب في الاعتراض على القانون والقضاء والنظام , وهو بمثابة التحريض على الدولة في المطالبة بالتغيير ( الادعاء : ماهي دوافع خروجك في الليل ؟
– المتهم : كنت ابحث عن جثتي
( ضحك وهرج في القاعة , القاضي يدق بمطرقته )
الادعاء : هل وجدت جثتك ؟
– المتهم : عثرت عليها مجزأة , لا أعرف من قتلني ؟ . وكيف سقطت ؟ مع ذلك قبلت حكماً في اليقظة , ونزلت عنه الى حكم النوم , ثم دفنت الجثة في غرفتي ) ص82 . ويستدعي للمحكمة شهادة الأم لتقول مبررة فعله ( – الام : يحاول ان يجمع أشلاء جثته ويفكر بالطوفان ) ص84 . ثم تستدعي الى المحكمة شهادة إمرأة ( الدفاع : هل لكِ ان توضحي الامر ؟ .
– المرأة : في البدء عثر على الوسط ثم القدمين واليدين والرأس
– الدفاع : هل تأكدتِ انها جثته ؟
– المرأة : نعم ) ص85.
لكن وقع المحظور وما كان ينادي به ويحذر منه , من الطوفان الثاني سيكون أفدح من الطوفان الأول , سيهلك كل شيء , ولم يترك أي شيء لم يصبه الخراب العام , فقد اشتعلت الحرائق والنيران في كل مكان ( كان يرى ألسنة النار تلتهم الشبابيك والأشجار الارصنة , الدخان يتصاعد فتنشر في الأفق روائح كريهة ) ص91 , ولكن بعد الحرائق تعود جثته اليه , يعود ابيه الغريق الى الحياة , تزوجت أمه بعد ما كانت تصر بعناد على رفض فكرة الزواج , اما هو فكان يجدف إلى عمق المستنقع , منتظراً ان تنحسر النار ويعود من جديد . وهذا يدل بأن الحياة لن تموت مهما طال الزمن , فلابد ان تنبعث مجدداً من رمادها .