بقلم: زياد وطفة
أثارت الأنباء والتصريحات حول بدء جولة جديدة من محاولات التطبيع بين أنقرة والسلطة في دمشق عاصفة من الآراء والتعليقات والتحليلات حول مصير تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق البلاد. تميل غالبيتها إلى أن أيام الإدارة الذاتية أصبحت معدودة، وأنها أدركت الخطر وبدأت الهرولة إلى النظام صاغرة. يزيد البعض بأن انسحاب القوات الأمريكية على الأبواب وسيتركونهم لقمة سائغة لأردوغان، الذي رتّب أمور تحالفه مع الأسد لقتالهم (بالاستناد إلى عبارة محاربة “كافة” أشكال الإرهاب التي أتت على لسان الرئيس).
تستند هذه التوقعات إلى تصريح بعض المسؤولين في الإدارة الذاتية عن استعداد قسد للقتال إلى جانب الجيش السوري في مناطق الشمال الغربي (دون تحديد المستهدف بالقتال)، إلى جانب تصريح للرئيس المشترك لحزب الاتحاد الديمقراطي، صالح مسلم، بأن الحوار مع دمشق تأخر كثيرًا.
هناك من يحاول أن يصور الوضع (عن جهالة أو عمد) على أن مهمة القضاء على التجربة أصبحت قيد التنفيذ، وأن هناك قراراً بينياً وإقليمياً وعالمياً بذلك.
تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على الواقع الموضوعي الذي تعيشه تجربة الإدارة الآن، وتموضعها على ساحة الصراع الثلاثي (التركي-السوري-الإدارة)، بالإضافة إلى تموضعها على ساحة الصراع الإقليمي-الدولي. كما تستعرض مؤشرات القوة والضعف عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا لديها، وتوجه خطابها السياسي والأهداف التي تضعها أمامها. وهي محاولة للإجابة عن الأسئلة الدالة على إمكانية وأد التجربة أو تركيعها، أم أن الأوضاع (إن سار مسار التطبيع وفق الممكنات الواقعية وليس وفق الرغبات والتصريحات الإعلامية) ستجد الإدارة نفسها في وضع أقوى، وأن مسار التطبيع التركي-السوري قد خلق شروطاً أفضل لعملها.
على الساحة الضيقة يبرز أربعة لاعبين رئيسيين: النظام التركي، والنظام السوري، وقوى الإدارة الذاتية، والقوى المتواجدة في الشمال الغربي (المناطق المسيطر عليها تركيا). لن نتطرق لقوى الشمال الغربي في هذه الورقة.
منذ بدء الاحتجاجات في آذار/مارس 2011، ومن ثم تحولها إلى صراع مسلح وحتى الآن، لم تضع قوى الإدارة نفسها في مواجهة عسكرية مع النظام في دمشق، ولم ترفع شعار إسقاط النظام، بل اختارت “الطريق الثالث” لقناعتها بأنه لا حلّ عسكرياً للقضية السورية، وأن الحل السياسي التفاوضي هو المَخرج الوحيد.
لم ترفع السلاح في وجه الجيش السوري، ولم تطرده من أي من المناطق التي تسيطر عليها الآن، كما فعلت الفصائل والمنظمات المتطرفة. بل بادرت بعد انسحاب قوات النظام، وتركها معرضة لمخاطر الفوضى والإرهاب، إلى التصدي لمهام الحماية والإدارة. وليس خافيًا على أحد أن للنظام وجوداً عسكرياً وحزبياً وإدارياً في مناطق سيطرة الإدارة حتى الآن. لو أرادت القطع مع دمشق لأزالتها بسهولة، لكنها تحافظ عليها، ومنعت من تمزيق الصور، أو تحطيم التماثيل، أو حرق العلم.
ليس جديداً أن تعلن الإدارة عن استعداد قسد، بوصفها التعبير العسكري عن التجربة، للوقوف إلى جانب الجيش السوري في مواجهة الفصائل المتطرفة وجيش الاحتلال التركي. وقد أضافت في أكثر من مناسبة استعدادها لضم قسد إلى الجيش السوري، بعد الاتفاق على الحل السياسي.
لم تغلق الإدارة يوماً الباب إلى دمشق فهي تلزم نفسها بتسليم “ممثلي النظام” القمح والنفط وغيرها (بغض النظر عن مصير تلك المواد)، لقناعتها أن خيرات المنطقة لكل السوريين. كما لم تغلق الباب نحو دمشق في محاولات متكررة للحوار، أفشل النظام جميعها، حتى أثناء وجود الوسيط الروسي.
كثيرون يستندون إلى ما سبق لإدانة الإدارة واعتبارها “عميلة” للنظام، متناسين، عن قصد أو بغير قصد، حقيقة تمسكت بها الإدارة ولا زالت مفادها: “ليس النظام في دمشق عدواً يجب إسقاطه بالسلاح، بل هو خصم سياسي، ولا بدّ من الجلوس معه على طاولة الحل السياسي”. هذه الحقيقة التي أثبتت الأحداث صحتها وأجبرت جميع من رفضها على الاعتراف بها، للأسف بعد الكثير من الخسائر.
إذا كانت الإدارة لا تضع نفسها في مواجهة عسكرية مع النظام، وهي تمتلك القدرات العسكرية، البشرية منها والعتاد، أثبتت قدرتها في محاربة “داعش” في أصعب الظروف، وتمتلك المقدّرات المادية، وتضع كل ذلك إلى جانب الجيش السوري في مواجهة الاحتلال والإرهاب، فلماذا سيقاتلها النظام؟ وهي الآن كما سابقًا إحدى أهم وسائل دفاعه ضد الأطماع التركية.
لن نستند إلى تصريح الرئيس بأن حل الإشكال مع الإدارة لن يكون بالقتال، على أهميته، بل بالنظرة المتأنية الموضوعية لتموضع الإدارة على ساحة الصراع الضيقة (سوريا – تركيا -الإدارة) تدفع لاستبعاد احتمال تعاون النظام مع أردوغان على قتال قسد، دون الحاجة للتذكير أن تركيا أردوغان تمثل العدو القومي التاريخي للقضية الكردية، كقضية تحرر وطني.
تموضع الإدارة على الساحة الإقليمية والدولية
مخطئ من يظن أن الإدارة الذاتية الديمقراطية تتموضع في الخندق الأمريكي بالصراع العالمي الدائر أو على الساحة الأضيق السورية-الإقليمية. فبالرغم من الإشكالات والالتباس، والشكوك والمخاوف التي يسببها وجود القوات الأمريكية في المنطقة الشرقية (لأمريكا ماضٍ زاخر بالعداء لشعوب المنطقة)، والتعاون العسكري بين قسد وقوات التحالف الدولي “لمحاربة داعش”، إلا أن ذلك غير كافٍ للحكم بتموضعها بالخندق الأمريكي من الصراع، أو بتعبير آخر تبعيتها وخضوعها للإملاءات الأمريكية، أو أن أجندتها خارجية وليست وطنية، كما هو حال جميع القوات العسكرية في الشمال الغربي تجاه تركيا.
فكثير من الوقائع تشير إلى خلاف ذلك، بدءاً من اضطرار وحدات الحماية لقبول المساعدة العسكرية الأمريكية لمنع سقوط كوباني (عين العرب) بيد “داعش”، عندما تخلى عنها الروس والنظام، وهي المتهمة بالإرهاب لدى الأمريكيين. مروراً بالتصريحات الأمريكية المتكررة بأن العلاقة مع قسد مجرد علاقة عسكرية لمحاربة “داعش”، ولن تتخطاها لعلاقات سياسية واقتصادية، وأنها لن تقف إلى جانبها ضد الحليف الشارد، العضو في حلف الناتو. بالإضافة إلى التصريحات المتكررة للأمريكان عن احتمال انسحاب قواتهم في أي وقت.
يضاف إلى ذلك رفض “التوجيهات” – الإملاءات الأمريكية- في أكثر من حدث، منها مطالبتها قتال المليشيات الإيرانية في المنطقة، ورد قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، بأنهم لن يقاتلوا القوات الإيرانية على الأراضي السورية. لنتذكر أنه في الوقت الذي كانت فيه الإدارة الأمريكية تهدد بمعاقبة الساعين للتطبيع مع النظام، أعلنت الإدارة الذاتية مبادرتها لملاقاة الجهود “العربية” للتطبيع مع النظام.
ألم يعلن صالح مسلم بأن من يقرر موعد الانتخابات المحلية في مناطق الإدارة هو الإدارة وليست أمريكا أو أردوغان (بغض النظر عن صوابية توقيت الانتخابات أو خطئه).
إن تعقيدات الوضع السوري جعلت من الفصيل الماركسي-اللينيني المؤمن بضرورة نضال الشعوب لمواجهة قوى الحداثة الرأسمالية، “حليفًا” للأمريكان. إنه مكر التاريخ الذي لا يسير بطريق مستقيم، ولا ينضبط وفق منطق محدد. والأيام القادمة وحدها من ستحكم على صوابية موقف الإدارة الذاتية أو خطئه، بالرغم مما سببت لها هذه العلاقة من مشاكل وقيّدت حريتها بالحركة وأضعفت جرأتها في الالتزام بالمواقف المبدئية أكثر من مرة. إنها لحظة تقاطع بين مصالح الأعداء، سبق أن أفرزتها الأحداث التاريخية مرات عدة.
لا يوجد ما يشير إلى أن الروس يضعون الإدارة الذاتية في الموقع الأمريكي للصراع، فهم أول من سمح بفتح مكتب لهم في موسكو، ولا زال. ثم في لجة الخلافات حول اللامركزية والدستور السوري المنشود، قاموا بتسريب مسودة دستور يقارب بنسبة كبيرة رؤية الإدارة، أكثر من مقاربته لرؤى الآخرين. كما قاموا ويقومون باستمرار بمحاولات لوضع الطرفين، النظام والإدارة، على طاولة الحوار لردم الهوة بينهما، عمل النظام على إفشال جميعها.
لا شيء يدل على أن إيران ستسمح بقتال قسد، وهي تعلم أن نجاح أردوغان ومن ورائه دول الخليج في التطبيع مع سلطة دمشق، يعني من أحد وجوهه تقليص التواجد الإيراني في سوريا إن لم يكن إنهاءه.
إن الخطاب السياسي المعلن والمعمول فعلياً على تنفيذه للإدارة يلاقي المبادرة العربية للتطبيع مع النظام بهدف الوصول إلى حلّ سياسي ينهي المأساة السورية، ويتماهى مع المسعى السعودي لإقليم مستقر ومزدهر، ويبتعد عن معاداة إيران في سوريا، ويشارك المجتمع الدولي في مسعاه لحل سياسي وفق القرار الدولي 2254. وحتى تجاه تركيا فهو يستند لأكثر من مبادرة أطلقها أوجلان لترك السلاح والتوجه لحل سياسي في تركيا.
مثل هذا الخطاب لا يدفع المجتمع الدولي لإصدار قرار إقليمي ودولي للقضاء على التجربة كما يأمل أردوغان ويتوهم آخرون.
حتى لو حدث ذلك، ما الذي يمنع مقاتلي قسد من أن يقاتلوا كما يقاتل الفلسطينيون في غزة؟ وهم مثلهم أصحاب قضية تحرر وطني تمتد لأكثر من قرن، ولهم تاريخ في النضال المشترك.
التعاون العسكري بين الجيش السوري وقوات الاحتلال التركي احتمال أقرب للصفر. إن وقع، سيدفع المنطقة إلى حافة حرب إقليمية. فتجربة الإدارة الذاتية ليست تجميعاً لمقاتلين لتشكيل منظمة “بلاك ووتر” أو “فاغنر”، بل هي تجربة تعبر عن معاناة شعب، ردت على الاضطهاد المزدوج الذي تعرّض له الكرد السوريون – القومي ككرد، والطبقي السياسي كسوريين.
هذه التجربة قدمت دمجاً خلّاقاً بين القضية السورية بوصفها مشروعاً للتغيير الديمقراطي، والقضية الكردية بوصفها حركة تحرر وطني. لكن كثيرين لم يستطيعوا إدراك ذلك، والأكثر لا يريدون.
عندما يعلن مسد اليوم، بوصفه التعبير السياسي للتجربة، تفهّماً لأي خطوة داخلية أو إقليمية تفيد في انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية وتخفف من معاناة السوريين، فإنه يتخذ موقفاً مسؤولاً ومتوازناً. من المفهوم أن تتعامل قيادة في موقع المسؤولية وفق أسوأ الاحتمالات، لكن دون مبالغة بالمخاوف المثيرة للقلق. فالأجواء العالمية اليوم أقرب إلى قضايا الشعوب ومصالحها منها إلى مصالح قوى الاستبداد والهيمنة، بالرغم من محاولات التغطية والتشويش على هذه الحقيقة.
يحذر مسد من الانجرار لصفقة بين أردوغان والسلطة في دمشق، قد تؤدي لعودة الاقتتال بين السوريين. وفي المقابل، يدعو جميع القوى الوطنية السورية، من كلا الجانبين (المعارضة والموالاة)، إلى جانب أهلنا في الشمال الغربي الذين يستفيقون اليوم على الخديعة، والقوى السياسية هناك التي يمكن أن تكون قد أزاحت الأوهام والمراهنات على دعم القوى الخارجية، وأدركت أن لا خلاص إلا بوحدة السوريين.
عندما يدعو مسد إلى الإسراع للجلوس إلى طاولة الحوار للتوافق على خارطة طريق للخلاص وفق الحل السياسي المتماهي مع روحية القرار الدولي 2254 المتوافق عليه عالمياً، فإنه يكون على الطريق الذي يمكّنه من تحويل الأزمة إلى فرصة. هذا الموقف يعكس نضجاً سياسياً ورؤية استراتيجية تسعى لتحقيق مصالح جميع السوريين وتجنّب المزيد من الصراع والانقسام.
زياد وطفة
هيئة التنسيق الوطنية – حركة التغيير الديمقراطية