تقرير حقوقي لـ تآزر
مقدّمة:
بتاريخ 21 آذار/مارس 2024، كان طبيب الأطفال “عبد الله الإبراهيم” يعمل في عيادته الخاصة وسط مدينة تل أبيض/كري سبي. أثناء ذلك، دخل “أبو مشعل” -شقيق قائد الشرطة العسكرية- برفقة طفله طالباً فحصه. طلب منه الطبيب الانتظار لمدة عشر دقائق لحين الانتهاء من معاينة طفل آخر. إلا أن “أبو مشعل” استشاط غضباً بعد جدال حاد مع مراجع آخر طلب منه الانتظار كغيره، وغادر العيادة.
بعد أقل من ساعة، عاد “أبو مشعل” برفقة دورية من الشرطة العسكرية تضم سبعة عناصر. قاموا بضرب وشتم المراجعين في العيادة، بمن فيهم النساء، ثم اعتدوا على الطبيب بالضرب والإهانة، واقتادوه بطريقة مهينة في صندوق السيارة إلى مقر الشرطة العسكرية. بعد عدة ساعات، عاد الطبيب إلى عيادته، وكان قد تجمع أمامها العشرات من أقاربه وذوي النساء اللاتي تعرضن للإهانة، وهناك ألقى الطبيب كلمة أمام الحضور الغاضب أكد فيها تعرضه للإهانة والضرب دون أي مبرر.
انتشرت قصة الطبيب “عبد الله” بشكل واسع عبر وسائل الإعلام وأثارت غضباً شعبياً، وخرجت على إثرها مظاهرات في تل أبيض وبلدة سلوك يومي 21 و22 آذار/مارس، طالب خلالها المحتجون بمحاسبة المسؤولين عن الحادثة والحد من الاعتداءات المتكررة من قبل عناصر الجيش الوطني السوري.
وفي محاولة لاحتواء الأزمة، أصدرت الشرطة العسكرية في تل أبيض بياناً وصفت فيه الحادثة بأنها تصرف فردي غير مقبول، وأكدت أنّ “رئيس فرع الشرطة العسكرية في مدينة تل أبيض تحقق من الحادثة وقام بتنبيه العناصر ومحاسبتهم على هذا الفعل”. رغم ذلك، لم يتم اتخاذ أي إجراء لمحاسبة الجناة وتحقيق العدالة للضحية.
تعكس هذه القصة حالة فوضى السلاح وانعدام الأمان في مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي، التي تحتلها تركيا في شمال سوريا، حيث وثقت رابطة “تآزر” خلال النصف الأول من عام 2024 مقتل ثلاثة مدنيين على الأقل على يد مسلحي “الجيش الوطني السوري”، ونشوب 15 اشتباكاً بين مجموعات مسلحة تابعة لـ “الجيش الوطني”، قُتل نتيجتها مدني واحد وأُصيب اثنان آخران. بالإضافة إلى ذلك، وقعت أربعة تفجيرات أسفرت عن إصابة مدنيين، أحدهما طفل.
كما سُجلت حالات سطو مسلح تعرض لها مدنيون، ونشوب أربع حالات اقتتال داخلي بين فصائل “الجيش الوطني” بسبب خلافات حول تقاسم واردات تهريب البشر إلى تركيا، مما يؤكد تورط قادة “الجيش الوطني” في عمليات الإتجار بالبشر وتهريب طالبي اللجوء بطرق غير نظامية إلى تركيا.
خلافاً لما تروّج له تركيا بأنّ المناطق التي تحتلها في شمال سوريا هي “مناطق آمنة” يمكن إعادة اللاجئين إليها، فإن فوضى السلاح وانعدام الأمان والاستقرار هما السمة الأبرز لواقع الحال في تلك المناطق، فضلاً عن الانتهاكات اليومية التي ترتكبها فصائل “الجيش الوطني السوري” المدعومة من “أنقرة”، في ظل غياب المساءلة واستمرار الإفلات من العقاب. كل ما سبق يؤكد أنّ تلك المناطق غير آمنة مطلقاً، ولا تتوافق مع معايير العودة الطوعية التي حددتها الأمم المتحدة.
من وجهة نظر الضحايا، لا تقتصر آثار الاقتتال الداخلي وفوضى السلاح في مناطق النفوذ التركي، على وقوع ضحايا في صفوف المدنيين وإلحاق الضرر بممتلكاتهم، بل تتعدى ذلك إلى دفع السكان بالتفكير في مغادرة المنطقة، حيث يزيد الوضع الأمني المتردي من حالة عدم الاستقرار، ويؤثر بشكل واضح في عملية التنمية الاقتصادية، ما يفاقم الوضع الاقتصادي السيئ وحالة الفقر الشديد التي يعاني منها غالبية السوريين داخل البلاد.
فشلت تركيا في تحمل مسؤولياتها إزاء المناطق التي تحتلها في سوريا، إذ أنها لم تتخذ أي إجراءات حقيقية لضمان حماية المدنيين، كما أنها غضت البصر عن انتهاكات الفصائل المسلحة التي أولتها إدارة المنطقة، ورغم أن السلطات التركية تتحكم بهذه المناطق فعلياً، فهي لم تتدخل لوقف تلك الانتهاكات أو محاسبة مرتكبيها.
الاستقواء بالمسلّحين:
في صباح يوم 6 نيسان/أبريل 2024، توجه المسنّ فريد حسو (60 عاماً) وابنه القاصر محمد (16 عاماً) من قرية كاخرة/ياخور في ناحية موباتا/معبطلي إلى أرضهم القريبة من قرية كوركان في ناحية جنديرس. لكنهما فوجئا بوجود راعيين يرعيان مواشيهما في حقل الزيتون المملوك لعائلة حسو، والذي يُعتبر مصدر رزقهم الوحيد.
طلب “فريد” من الراعيين مغادرة الحقل، لأن قطيعهم كان يأكل ويتلف غراس الزيتون الصغيرة. لكن الرعاة ردوا بالشتم، مما أدى إلى مشادة كلامية. بعد أقل من ساعة، عاد الراعيان ومعهما ثلاثة عناصر من “فرقة الحمزة” من النقطة العسكرية في قرية جولاقية. حاول الأب -الذي وجد نفسه وحيداً أمام خمسة رجال- تهدئة الموقف وطلب منهم مغادرة الحقل. في هذه الأثناء، كان ابنه محمد قادماً باتجاه والده ليتحقق من الوضع.
قبل أن يتمكن محمد، ذو الستة عشر عاماً، من الاستفسار عما يجري، تعرض للهجوم من الراعيين وعناصر فرقة الحمزة، حيث ضربوه بالعصي على رأسه حتى فقد وعيه. حاول الأب المسن إنقاذ ابنه، لكنه تعرض للضرب هو الآخر وأُصيب بجروح، قبل أن يلوذ المعتدون بالفرار.
نُقل فريد وابنه إلى مشفى أبن سينا في عفرين (مشفى آفرين سابقاً). بعد إجراء الإسعافات الأولية وتقطيب جروحهما، تبين أن الأب يعاني من خلع في الكتف الأيمن نتيجة الضرب، بينما لم يُظهر التصوير الطبقي المحوري أي نزف داخلي لدى الابن، الذي بقي تحت المراقبة 24 ساعة قبل عودتهما إلى المنزل.
أظهرت هذه الحادثة استقواء الرعاة بالمسلحين، مما يعكس نمطاً من الترهيب الذي يمارسه بعض المسلحين ضد السكان الأصليين في المنطقة. وثّقت “تآزر” حالات متعددة منذ احتلال عفرين من قبل تركيا وفصائل “الجيش الوطني السوري”، في عام 2018، تشير إلى استخدام العنف والاعتقال والتهديد كوسيلة لدفع السكان الأصليين إلى النزوح القسري، بهدف الاستيلاء على ممتلكاتهم ومحاصيلهم.
تقدم “فريد حسو” بشكوى إلى الشرطة العسكرية التي وعدت بمحاسبة المعتدين. مع ذلك، شكك الأهالي في تنفيذ هذه الوعود، خاصة أن المسلحين من “فرقة الحمزة” الذين وفروا الحماية للرعاة لم يُحاسبوا، رغم تورطهم في الاعتداء على المدنيين دون خوف من العقاب.
فوضى السلاح وانعدام الأمان:
خلال النصف الأول من عام 2024، وثقت “تآزر” نشوب 15 حالة اقتتال/اشتباك داخلي بين فصائل “الجيش الوطني السوري” المُعارض، في مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي، قُتل نتيجتها مدني واحد وأُصيب اثنان آخران على الأقل.
في 12 أيار/مايو 2024، شهدت منطقة رأس العين/سري كانيه اشتباكاً داخلياً بين “لواء شهداء بدر” وتجمع “أحرار الشرقية”، بسبب خلافات حول نقاط العبور/التهريب على الطريق الدولي قرب استراحة الرزج، حيث أدى الاشتباك إلى مقتل عنصر وإصابة ثلاثة آخرين، بحسب الشهود.
عادةً ما تدور الاشتباكات حول نقاط التهريب وتقاسم السيطرة، مما يعني تقسيم إيرادات عمليات جمع الأموال والأتاوات بطرق غير رسمية من السكان المحليين. تتسبب هذه الاشتباكات بهلع بين الأهالي، وتسفر في كثير من الأحيان عن سقوط جرحى وقتلى بين المدنيين.
تُظهر حالات القتل أحياناً دوافع غير واضحة، كما حدث مع “عائلة السلطان” التي تنحدر من الريف الغربي لبلدة تل تمر، حيث عانت من انتهاكات متعددة شملت القتل والاعتقال واحتجاز الجثة، وفقاً لتقرير “صرخات غير مسموعة” الذي أصدرته “تآزر” بتاريخ 23 تموز/يوليو 2024.
حدث ذلك عشية عيد الأضحى، حيث كان الضحية “عبد السلطان” (39 عاماً) يقل والدته لزيارة أقربائهم، حين اعترضت طريقهم دورية لقوات “الجيش الوطني”، حاول عناصرها مصادرة سيارة عبد، لكنه حاول الاعتراض، لذا وبعد جدال قصير، قُتل بالرصاص أمام والدته. بعد ذلك، أخذوا الجثة ووالدته إلى مشفى رأس العين/سري كانيه، ثم أطلقوا سراح والدته دون السماح لها بدفن ابنها.
بعد ثلاثة أيام، وصل صالح السلطان، عمّ الضحية إلى رأس العين/سري كانيه للمطالبة بالجثة، لكنه تعرض لضربٍ مبرح على يدّ خمسة عناصر من قوات “الشرطة العسكرية”، وتمّ اعتقاله بتهمة التعامل مع الإدارة الذاتية، وحرمانه من تلقي العلاج، أو توكيل محام.
بعد 20 يوماً، توصلت وساطات عشائرية إلى اتفاق مع قادة الشرطة العسكرية والشرطة المدنية في “الجيش الوطني السوري”، يقضي بتسليم جثة عبد لعائلته والسماح لها بدفنه، مقابل التكتم على القصة، كما تمّ إطلاق سراح عمه “صالح” بعد دفع فدية مالية بلغت 6500 دولار أمريكي.
تجسد قصة “عائلة السلطان” الانتهاكات المستمرة التي يتعرض لها الأهالي على يدّ “الجيش الوطني السوري” في مناطق رأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي وعفرين، التي تصفها تركيا بأنها “مناطق آمنة” يمكن إعادة اللاجئين إليها، رغم تأكيد لجنة التحقيق الدولية المستقلة مراراً أنّ سوريا لا تزال غير آمنة، كذلك أكدت هيومن رايتس ووتش أن تلك المناطق تاريخياً لم تكن آمنة، بل كانت من بين أخطر الأماكن في البلاد.
غياب الحماية القانونية:
منذ العمليتين العسكريتين التركيتين “غصن الزيتون” في عام 2018 و”نبع السلام” في عام 2019، اللتين أدتا إلى احتلال عفرين، ومن ثم رأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي، وثّقت “تآزر” العديد من حالات القتل خارج إطار القانون، بالإضافة إلى انعدام فعالية النظام القضائي وإحساس الناس العميق بإفلات الجناة من العقاب.
إحدى القصص التي وثقتها “تآزر” في تقرير لها، بتاريخ 30 حزيران/يونيو 2024، هي قصة وكيلة النيابة في محكمة عفرين، “نوروز حسو” التي تعرّضت لحملات تحريض علنية بسبب دفاعها عن حقوق ضحايا كُرد، مما يعكس غياب الحماية القانونية للمدافعين/ات عن حقوق الإنسان في المناطق المحتلة من قبل تركيا. هذه الحالة تبرز الحاجة الملحّة إلى اتخاذ تدابير لحماية وتعزيز حقوق الإنسان وضمان سلامة المسؤولين عن تطبيق القانون في مناطق النزاع.
أشارت المعلومات التي جمعتها “تآزر” إلى أنّ حملات التهديد والتحريض التي نُظمت ضد المدافعة عن حقوق الإنسان “نوروز حسو” حملت صبغةً طائفية، فهي واحدة من بين عشرات موظفي/ات محكمة عفرين، وإصدار الأحكام القضائية ليس جزءاً من مهامها، لكنها استُهدفت من قبل الرافضين لقرارات المحكمة فقط لكونها كُردية، وكذلك الضحايا الذين/اللواتي قضت المحكمة بإعادة حقوقهم/ن إليهم/ن.
وكانت محكمة عفرين التابعة للحكومة السورية المؤقتة/المعارضة، التي أُنشئت بعد احتلال المدينة من قبل تركيا في عام 2018، نظرت في أكثر من 150 دعوى في قضايا “الغصب العقاري”. وأصدرت المحكمة أوامر بإخلاء المنازل التي تعود ملكيتها لضحايا كُرد، لكن تنفيذ هذه القرارات واجه تحديات كبيرة بسبب تدخل فصائل “الجيش الوطني السوري” ورفضها إعادة الحقوق لأصحابها.
تُشير حادثة “نوروز حسو” إلى أن التهجير القسري الذي طال السكان المحليين في عفرين -كانت نسبة الكرد نحو 92% حتى عام 2011 وانخفضت إلى حوالي 20% حالياً- يعكس سياسات ممنهجة من قبل فصائل “الجيش الوطني السوري” تستهدف السكان الأصليين لدفعهم إلى النزوح القسري مجدداً.
انخفاض نسبة السكان الكرد واستمرار حالات الإفلات من العقاب:
منذ العملية العسكرية التركية “غصن الزيتون” في عام 2018، والتي أدت إلى احتلال عفرين، شهدت المنطقة انخفاضاً حاداً في نسبة السكان الكُرد الأصليين، وقد جرى استبدالهم بنازحين ومهجّرين من مناطق سورية متعددة، أبرزها الغوطة الشرقية، بموجب اتفاق غير معلن بين روسيا وتركيا، وفقاً لتقرير مشترك لـ “تآزر” نُشر في 3 تشرين الأول/أكتوبر 2023، كانت نسبة الكُرد تشكل 92% من سكان عفرين قبل عام 2011، ولكنها تراجعت الآن إلى حوالي 20% فقط.
وتعكس قصة الفتى القاصر “أحمد خالد مده” الذي قُتل بطريقة بشعة على يد أحد النازحين في ناحية جنديرس، مدى الشعور بالظلم والخوف لدى السكان الكُرد من الإفلات المتكرر للجناة من العقاب أو منحهم أحكاماً مخففة في المحاكم المحلية التي يُديرها “الجيش الوطني السوري”.
في 13 آذار/مارس 2024، استدرج الجاني، يامن أحمد الإبراهيم، الفتى أحمد مده (16 عاماً) إلى منزله في قرية تل سلور بزعم أنه سيُريه قطعة متعلقة بالدراجات النارية، مستغلًا هوس أحمد بها. هناك قام الجاني بضرب وتعذيب أحمد لمدة تزيد عن نصف ساعة قبل أن يلقيه في بئر ماء بعمق 30 متراً.
صورة تداولتها وسائل التواصل الاجتماعي حول الجريمة خلال شهر آذار/مارس 2024 – على اليمين تظهر صورة الضحية أحمد خالد مده (16 عاماً)، وعلى اليسار صورة الجاني “يامن أحمد الإبراهيم” (18 عاماً).
تحدثت “تآزر” إلى أحد أقارب الضحية “أحمد خالد مده”، وقال إنّ الجاني “يامن الإبراهيم” كان يعمل في فرن يعود لوالد أحمد، قبل أنّ يتم فصله بتهمة السرقة مرات متعددة، كما أضاف حول حيثيات الجريمة:
“اطلعت عائلة أحمد على فيديو يُظهر اعترافات الجاني (يامن أحمد الإبراهيم، وينحدر من بلدة سنجار بريف إدلب)، بعد أن سلّمته عائلته للشرطة العسكرية، يقول فيه (يامن): إنني كنت أحقد على أحمد لأنه أخبر والده حول سلوكياتي المشبوهة لكي يقوم بطردي، ولذا فعلت ما فعلته للانتقام من والده”.
لم يكتفي (يامن) بطعن “أحمد” بالسكاكين ومحاولة خنقه، بل قرّر المضي في جريمته عبر سحب أحمد إلى بئر في باحة المنزل من أجل رميه فيه وهو لا يزال على قيد الحياة، ولم يُفلح رجاء الضحية له في التراجع، إذ رماه في البئر في النهاية انتقاماً من والده.
تمّ دفن جثة أحمد في قرية حمام بريف جنديرس مسقط رأس العائلة، وإقامة خيمة العزاء في منزل والده في جنديرس.
صورة من تقرير الطب الشرعي حول جريمة قتل “أحمد خالد مده”، يُظهر التقرير بوضوح جريمة قتل مروّعة تمّ خلالها استخدام الطعن بالسكين على العنق وأنحاء مختلفة من الجسم، بعمق يصل إلى 10 سم أحياناً، ومحاولات الخنق. المصدر: أقارب الضحية.
رغم تقدم عائلة أحمد بدعوى ضد الجاني، لا تزال القضية غير محسومة بعد أشهر من الحادثة. تواصلت “تآزر” مع أقارب الضحية (مده) بتاريخ 1 آب/أغسطس 2024، وأكدوا أنّ الجاني لا يزال مسجوناً، لكن القضية لم يُبت فيها بعد، مما يثير قلقهم من احتمال إفلات الجاني من العقوبة المستحقة.
تعيش عائلة أحمد وجميع السكان الكُرد في حالة من الخوف المستمر من انعدام العدالة. تظهرُ والدة أحمد في فيديو مفجوعة بمقتل ابنها، معبرة عن عدم ثقتها في المحاكم المحلية التي يديرها “الجيش الوطني السوري”. حيث تقول: “ما الذي فعلناه حتى يقتلوا ابني، هل السبب فقط لأننا كُرد”. كما تقول في ذات الفيديو ومدته 1:36 دقيقة “لا أريد هذه المحاكم، فأنتم من تقتلون وأنتم من تعقدون المحاكم”. مما يعكس شعور المجتمع الكردي بغياب المساءلة القانونية وتكرار الجرائم دون محاسبة.
وقد وثّقت “تآزر” في تقارير سابقة نمطاً مستمراً من غياب العدالة والمساءلة. في تقرير نُشر بتاريخ 20 مارس 2024 بعنوان “بعد عام على جريمة نوروز في عفرين: لا يزال ذوو الضحايا يلتمسون العدالة“، أشار التقرير إلى صدور حكم بالإعدام مع وقف التنفيذ بحق ثلاثة من الجناة، إلا أن تنفيذ هذا الحكم يبدو بعيد المنال، حيث تستمر الضغوط على عائلات الضحايا لطي الملفات وإسقاط الدعاوى.
مسؤولية تركيا القانونية كقوة احتلال:
منذ عملياتها العسكرية “غصن الزيتون” في عام 2018 و”نبع السلام” في عام 2019، تحتل تركيا مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي، وتحتفظ بوجود عسكري مستمر فيها، مع فرض القانون التركي وإدارة المدارس والوظائف العامة الأخرى.
بصفتها قوة احتلال، تتحمل تركيا مسؤولية ضمان النظام العام والسلامة العامة وتوفير حماية خاصة للنساء والأطفال. وتظل تركيا مُلزَمة بالتزامات الواجبة التطبيق في مجال حقوق الإنسان تجاه جميع الأفراد الموجودين في تلك الأراضي. وإذا لم تتدخل القوات التركية لوقف تلك الانتهاكات عندما يتم إعلامها بها، فأنها قد تنتهك الالتزامات المذكورة أعلاه.
علاوةً على ذلك، فإن سلطة الاحتلال ملزمةٌ باحترام بنود معاهدات حقوق الإنسان التي وقعت عليها الدولة التي احتُلت أراضيها بشكلٍ جزئي أو كلي.[1] كما أن تطبيق اتفاقيات حقوق الإنسان خارج الحدود الإقليمية هو التزامٌ يقع على عاتق سلطة الاحتلال.[2]
لذا فأن تركيا مسؤولة عن انتهاكات حقوق الإنسان في المناطق المحتلة، سواء بشكل مباشر أو من خلال الفصائل المدعومة من قبلها مثل “الجيش الوطني السوري”. ويُتوقع من تركيا احترام وتعزيز حقوق الإنسان وتوفير الحماية للسكان المدنيين، وفقًا للمادة 43 من لوائح لاهاي لعام 1907، التي تلزم قوات الاحتلال بضمان النظام والسلامة العامة.
خرق لبنود الاتفاق التركي-الأمريكي:
إلى جانب عدم الاعتراف باحتلال أجزاء من شمال سوريا، فإن تركيا لم تلتزم ببنود اتفاقية “وقف إطلاق النار” في شمال شرق سوريا، الموقعة مع الولايات المتحدة في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019. وبموجب هذه الاتفاقية، التزمت تركيا بحماية حقوق الإنسان وضمان سلامة السكان في المنطقة الآمنة.
وبحسب البند الرابع من الاتفاقية -الصادرة في 13 بنداً- “يؤكد البلدان التزامهما بدعم الحياة الإنسانية وحقوق الإنسان وحماية المجتمعات الدينية والعرقية“. كما جاء في البند السابع من الاتفاقية “أعرب الجانب التركي عن التزامه بضمان سلامة ورفاه السكان المقيمين في جميع المراكز السكانية في المنطقة الآمنة التي تسيطر عليها القوات التركية، وأكد مجدداً انه سيتم بذل أقصى درجات الحذر من أجل عدم إلحاق الضرر بالمدنيين والبنية التحتية المدنية“.
ورغم هذه الالتزامات، فإن تركيا لم تتخذ أي إجراءات جدية لضمان الأمن والسلامة في المناطق التي تحتلها. وبدلاً من ذلك، شهدت هذه المناطق حالات من الفوضى والاقتتال الداخلي بين الفصائل المسلحة، مما أدى إلى خسائر في الأرواح والممتلكات بين المدنيين. هذه الأحداث تُعد خرقاً واضحاً للاتفاقية، حيث لم تتدخل السلطات التركية لوقف هذه الانتهاكات أو محاسبة مرتكبيها.
توصيات:
فشلت تركيا في الوفاء بمسؤولياتها كقوة احتلال في المناطق السورية المحتلة، حيث لم تضمن حماية المدنيين أو الاستقرار في تلك المناطق. بناءً على ذلك، توصي رابطة “تآزر” للضحايا بما يلي:
تحمل المسؤولية: يجب على السلطات التركية، بصفتها قوة احتلال، اتخاذ جميع التدابير اللازمة لضمان النظام والسلامة العامة في المناطق التي تحتلها، بما في ذلك توفير حماية خاصة للنساء والأطفال.
الالتزام بالاتفاقيات: يجب على الحكومة التركية الالتزام باتفاقية “وقف إطلاق النار” مع الولايات المتحدة، وخاصة بنود حماية حقوق الإنسان وضمان سلامة ورفاه السكان المقيمين في جميع المراكز السكانية الخاضعة لسيطرتها.
محاسبة الفصائل: يجب على تركيا، باعتبارها الجهة المسؤولة فعليًا عن “الجيش الوطني السوري”، ضمان احترام حقوق الإنسان ومحاسبة أي انتهاكات تحدث في المناطق المحتلة.
ضمان الوصول إلى العدالة: يجب على الحكومة التركية وحلفائها في المعارضة السورية ضمان حق الضحايا في الوصول إلى العدالة من خلال إنشاء آليات انتصاف فعالة وواضحة وسهلة الوصول تضمن التحقيق الفوري والنزيه ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات وتعويض الضحايا بشكل مناسب.
[1] UN Human Rights Committee (HRC), CCPR General Comment No. 26: Continuity of Obligations, 8 December 1997, CCPR/C/21/Rev.1/Add.8/Rev.1. §4.
[2] ICJ, Legal Consequences of the Construction of a Wall in the Occupied Palestinian Territory, Advisory Opinion, ICJ Reports 2004, p. 136, § 106.
المصد: تــآزر