العـجـيلي حكـايا الـراحلة وأنـيس المـضارب

كورد أونلاين |
عبد الله رحيل_
أورد ياقوت الحموي في مجلّده معجم البلدان، خبرا عن الرقة، يخبره الأصمعي:”الرقاق الأرض اللينة من غير رمل”، وأنشد:
“كأنّها بين الرّقاق والخمر
إذا تبارين، شآبيب مطر”
ومن هنا جاءت تسمية الرقة، في العصر الإسلامي، لكنها مدينة موغلة في القدم، وسحيقة المعنى والدلالة، فاتّخذت أسماء متعدّدة بتعاقب حقب التاريخ على قيامها، فعند الآراميين بداية القرن الحادي عشر قبل الميلاد، هي “بيت أدين” وسمِّيت في العهد الإغريقي باسم “نيقفوريوم”، لكن الإمبراطور سلوفس الثاني علم 244 قبل الميلاد، سماها غالينغوس، وفي عام 474 بعد الميلاد، أسماها الإمبراطور ليو الثاني ليونتوبولس، بعد أن أصبحت مركزا تجاريا هامًّا على ضفاف الفرات، وفد إليها المسلمون فاتحين عام 639م، وسمّوها الرقة، التي تعني الحجرة المسطحة، ثم عشقها الخلفاء، وأحبّوا طيب رياحها الخليطة بدموع الفرات، وغضب الصحراء، وجعلوها مركز تمويل للدولة، وعلى أرض مسطحة ممتدة على الضفاف من جوارها، تقع الرافقة التي أمر المنصور ببنائها، وربما يريدها مدينة خاصة له، لتكون عاصمته الصيفية، عام 722م.
فيتموَّج المدى البعيد بين أحضان نهر الفرات العذب مختلطا بسراب في الصحراء، الممتدة من تدمر حتى مشارف الجزيرة السورية، فتتربّع مدينة الرقة البيضاء القديمة، الممهورة بختم أمير بني العبّاس، هارون الرشيد، وقد تحثو عليها رياح قادمة من متون نجد والدهناء، بنسيم الصحارى المملوء بحصيات الرمال الحمراء، ثم انبثق من هذا النشيج الصحراويّ أديب وطبيب بلغت شهرته الآفاق، فاتَّشحت قصص عبد السلام العجيلي، بوشاحها الريفيّ البدويّ المزخرف بقصص، وحكايا خطّها في مؤلفاته الكثيرة، لكن “عيادة في الريف” بقيت حاضرة في مسامع أهل الرقة، في أسلوب قصصي ممتع، فرَمَت (أوضة العجيلي) برحلها كلِّه، إلى رجل الفرات والصحراء والبدوي، فكانت البيئة، التي حوت الأقارب، والجيران، والأهل، حتى يسمعوا حكايا العجيلي، وكثيرا ما كانت الأوضة تفضُّ الخلافات والنزاعات، ويسمع بها أحاديث اللهو، والطرب والأخبار وحكايا السخرية النبيلة، ومن هنا وبهذا الإيراد البيئي، استوت قريحة عبد السلام العجيلي القصصية، واكتملت الكلمات عنده فأبدع فنَّ القصّة المختلطة ببعض حكايا الطبّ الخاصة في شؤون أهل الرقة، حتى كتب قصة” بنت الساحرة”، وهنا أورد الدكتور حسام الخطيب في كتابه “القصة القصيرة في سوريا” تعريفا للعجيلي: “كان ظهور “بنت الساحرة” في عام 1948 علامة انعطاف حي في تاريخ القصة القصيرة في سوريا، فهي ليست إعلاناً عن ولادة كاتب قصصي عظيم فحسب، بل إعلان عن بدء استواء فن جديد متميز في التجربة الأدبية لسورية”.
وبين ثغاء الأغنام، وعويل الذئاب، وبين مرابط الخيل، ومناخ الإبل، ظلّ العجيلي شاردا بين أفياء البادية، ولهيب الصحارى يفيض بقلمه وبفكره البدوي الخالص قصصا في سلوكيات بدوية يومية، لكنه ينفذ أحيانا كثيراً إلى صخب المدينة، وبيئة الحاضرة، يصوغ تصاميم فنية، وتجارب حياتية محكية بأسلوب قصصي شيق متسق، وبهذا التمازج بين الحضارة والبداوة جعله متنوعا في الحوار والشخصيات القصصية، وما جعله متنوعا في تأثيره، وتنقله في مناصب اجتماعية، ومهنية، وأدبية على مدى ثلاثة أرباع القرن العشرين، ومن هنا اتكأ عبد السلام العجيلي على وسادة الريف والبداوة، مظهرا البعد الوجداني المحب، الذي يظهر في تعابيره، ولعل ما يظهر هذا الإيقاع القصصي مجموعة قصصية” الخيل والنساء”، فالخيل جميلة ومطلوبة، والنساء متممة لجمال الخيل، فهما مشتركان عند العجيلي في جمال الحياة، وتمامها، وكلاهما الحاجة الضرورية المبتغاة عند البدوي، فبهما تكمل سيادة المضارب، والمجالس عند روح الأصيل في الغروب الممتد في البادية، وما يجدر بي هنا في المقام، أن أورد جزءا مما عناه في قصة الخيل والنساء: «انحدرتُ إلى البويتات، وأنا أنوي تقويضها فوق رؤوس أهلها، وأطردهم من جوار الطاحونة، ولما وصلت إلى تلك الأخبية، تلقاني دونها “نوريّ” أعرج، بغيض الهيئة يقود فرساً شقراء لم تقع عيني ـ وأنا الذي ربيت في بيت يهيم أهله حباً بالخيل ـ على مثلها رشاقة وتناسق أعضاء، فوقفت أمتع نظري بجمال هيئتها، وكان انصرافي إلى هذا الإعجاب بهذا الجمال قد هدأ من ثورتي”.
ويعطّر كثيرا حبّ الهال سُمُرات العجيلي القصصيّة، وهذا بعد آخر، ومنحى نحو ليل البادية الهادئ، فلا تحلو مجالسها إلا بذكر الهال، والقهوة السوداء تُدار في مجالس القوم، وهذا ما يظهر في مجموعته القصصية: «في مجموعة (الحبّ والنفس)، نقرأ قصة (أينما كان)، وهي مجموعة تحكي أطوارا من رحلته إلى الغرب نحو فلسطين، فدخل دارا بها مجلس وفير بالرجال؛ فتذكر مجالس الرقة، ورائحة القهوة والهال: وحين وقع نظري عليه أول مرة، أحسست بأني لقيت بعضاً من أهلي، رأيت في جلسته القرفصاء على الموقد، جدي وهو يهيئ القهوة من الدلَّة الكبيرة التي اسمها “القمقوم”، إلى الدلال الأخرى، حتى تنتهي إلى المصب، وهو أصغر آنية القهوة، الذي يُسقى منه الضيوف ـ كان جدي ذلك في صغر قده، وفي انحناءة ظهره إذا قام، وفي لبثه أكثر وقته أمام الموقد متشاغلاً بالقهوة، ونارها، ومحماسها، ونجرها وعن كل شيء”.
فحين نُقوِّم عبد السلام العجيلي، وحين نتحدث عن بذور نشأة فنّ القصة، نكون قد أطلقنا جناحي فن القصة طائرا بين مثالب العجيلي، وبين أروقة المجالس، وهبوب رياح البادية، وبين أروقة دمشق، وضواحي حلب، في لغة قريبة من المجتمع، ومن بيئة القوم؛ ما عبّد الطرق نحو هيكلة فن القصة الشعبية، التي عالجها بألسنة الرعاة والشيوخ، والإنسان الريفي البسيط، وهذا ما جعله مقبولا عند أدباء عصره، وعند قرائه من الأرياف والبادية، ومعظم أفراد المجتمع المدني، والريفي على وجه الخصوص، حتى بلغ شهرة عالمية، ومحلية في سرد القصة السورية، حتى قال عنه الشاعر نزار قباني:
“إنه أروع حضري عرفته البادية
وأروع بـدوي عــرفـته الحاضرة”
فكان رسالة أدب بأسلوب الطبيب العذب الرحيم، إلى أنحاء العالم، حتى ترجمت أعماله إلى لغات العالم المختلفة، الفرنسية، والإنكليزية، والألمانية، والإسبانية، والروسية، وقد نال جوائز عدة في مجال كتابة القصة، وقد جعل المبتغون من المستشرقين، والإعلاميين، والسياسيين، والفنانين، في أدب العجيلي طرقا عديدة نحو بيته في حاضرة الرشيد، الرقة، وقد كان عام 1948 شاهدا على أدب العجيلي في قصته بنت الساحرة، ثم توالى الإبداع القصصي؛ فكان نتاجا كبيرا له، فمن هذا النتاج القصصي:
 ساعة الملازم 1951، قناديل اشبيلية 1956، الحب والنفس 1959، الخائن 1960، الخيل والنساء 1965، حكاية مجانين 1972، مجهولة على الطريق 1997، حب أول وحب أخير 2003، ومن الروايات الطويلة: باسمة بين الدموع 1959، رصيف العذراء السوداء 1960، قلوب على الأسلاك 1974، ألوان الحب الثلاثة 1975، المغمورون 1979، أرض السياد 1998، أجملهن 2001.
لا غرو أن نقول آهٍ على ألفاظ، سيقت في غروب شموس البوادي، بين الأصقاع المتواترة، ليظهر الفن عنده محاولة لاستكشاف أسرار الحياة، ولمداخلها في عالم العجيلي المليء بالغرابة والغموض، فهي محاولة لكشف ما عجز العلم عنه، وهو: إن قصص العجيلي قران النِّيء إلى المطبوخ” على قول كلود ليفي شتراوس، ومن هنا جاء رأي عبد السلام العجيلي في الأديب: أن الفنان يُكّمِّل نقص الطبيعة، الذي يكمل فيها بخيال الأديب، ليقدم واقعا تاما بين اندماجية الأديب مع كينونات الطبيعة الفاتنة، لكنَّ منية الدهر غيَّبت علما من أعلام الفن والقصة السورية، ابن بادية حثا عليها من رمال كلماته، ومدارك قصصه، وحكاياته عبر الصحارى الممتدة، وهذا ما أورده في طبيعة الانضواء السياسي أو الأيديولوجي، فقد أورد في “أحاديث العشيات” رأياً نقدياً لافتاً: “إن أعظم كُتَّاب روسيا، هم الذين في نقمتهم على الاستعباد أيام القياصرة، أو في سبرهم أعماق النفوس الإنسانية المتألمة في عالم لا عدالة فيه، دعوا إلى الاشتراكية، والعدل الاجتماعي الذي لم يحققه، الذين عاشوا في ظل الاشتراكية، ونظمها، فكان أدبهم تمجيداً لها، إن هؤلاء إلا من عصمة موهبته الأدبية الخارقة، ليسوا سوى مطبلين ومزمرين، لنظام لو عاشوا في غيره لطبلوا كذلك له وزمروا”.
حتى حوى ثرى الرقة رفات جسد، عنّاه القلم والمعنى في ليالي قصصية، سارت بها بطائن أودية الرقة، ومجالس أهلها بأمثلة قصها عليهم عبد السلام العجيلي.

​الثقافة – صحيفة روناهي  

شارك هذه المقالة على المنصات التالية