الأحد, ديسمبر 29, 2024

عصام الخفاجي: حين يجهض الأكراد حلماً جعلوه سلعة اسمها كردستان

اختزلت كردستان الزمن، فأرست أسس دولة مشرقية قومية شبيهة بالدول التي حكمتها النظم القومية العربية. لم تصبح كردستان دولة رسمياً بعد، لكن نظامها السياسي قطع أشواطاً بعيدة نحو التماثل مع النظم الناصرية والبعثية والقذافية التي لم يتبقى منها غير نظام الأسد في سورية. وهذه نظم لا تنشأ من فراغ بالطبع، بل هي تبني على شعور شعبي عارم بأن التاريخ السابق كان فاسداً لأن البلد كان خاضعاً لنفوذ أجنبي مباشر أو غير مباشر ولا بد من قيادة وطنية تستعيد استقلاله الذي سيكون إكسير التقدم وحلاّ للمشكلات الكبرى.
لكن تحويل هذه المثل العليا إلى واقع ملموس لا بد أن يمر بسلسلة من الإجراءات الاستثنائية تطالب القيادات القومية جمهورها بتبنّيها ويرتضيها الأخير، بل تتحمس قطاعات كبيرة منه لها. بناء الدولة القومية المستقلّة يعني نبذ كل ما يعتبره القائد خلافات جانبية لأن المرحلة تتطلّب وحدة وطنية نواجه بها الخارج ونؤكد عبرها استقلالنا الوطني. ولكي يتم تنفيذ هذه الإجراءات بفاعلية لا بد من منح بُناة الدولة القومية السلطة الكافية لاتّخاذ إجراءات استثنائية تتطلّبها المرحلة. ولا بد من تذكير الشعب بأن تحقيق الأهداف السامية عملية طويلة الأمد قد تفرض عليه تقديم تضحيات، ولكن عليه في النهاية أن يضع ثقته الكاملة بقيادته ولا يلتفت إلى من يحاول تشتيت الجهود.
هكذا تتصاعد مطالب القائد من جمهور يحلم ببناء دولة الإستقلال، وهكذا يذعن الجمهور غير آبه بأن الإجراءات التي يدعو لها القائد قد تبني تلك الدولة القومية فعلاً، لكن دولته المبنيّة على هذا الأساس ستكون دولة فاسدة فاشلة معادية له.
اختزلت كردستان الزمن، كما قلت. لم يجرؤ عبد الناصر أو قادة «البعث» الأوائل على استخدام الأمن القومي حجّة لإيلاء أبنائهم وأشقائهم مراكز عليا في السلطة إلا بعد أن ثبتوا أقدامهم في السلطة بعد عقد أو نحوه. أما في كردستان التي لم تصبح دولة بعد، فإن ابن رئيس الدولة السيد مسعود بارزاني هو مستشار الأمن القومي وابنه الآخر قائد قوات البيشمركة وابن أخيه رئيس الوزراء وخاله وزير الخارجية والمالية السابق في بغداد.
ولقادة دولة كردستان الجنينية مبرر لحجب معلومات أكثر خطورة عن شركائهم في الحكم، ناهيك عن الجمهور. فهم يتصارعون مع بغداد منذ عقد حول كمّيات النفط التي يصدّرونها في شكل مستقل والعوائد التي يحصلون عليها. وإخفاء عوائد النفط يعني إخفاء توزيعها، يعني إخفاء ما تغرف القيادة منه، يعني إشعار المواطن الكردي بأن أزمة العراق المالية وتلاعب بغداد بحصة كردستان هي سبب الضائقة الاقتصادية المتفاقمة. كردستان اليوم دولة ريعية تعمل، كما عملت دول الريع المشرقية الأخرى، على تذرير مواطنيها وربطهم بالسلطة الحاكمة. دولة يقوم عقدها الاجتماعي على تأمين عيش المواطن في مقابل إذعانه لها. دولة لا تؤمّن العيش لجيش هائل من الموظفين فقط، بل تضع النشاطات الاقتصادية الخاصّة تحت رحمتها.
ليست كردستان دولة حزب واحد، ولن تكون كذلك. بل إن قادتها لا يريدون ذلك لأنهم يدركون أنهم يعيشون في القرن الحادي والعشرين وأنهم مستميتون في توثيق العلاقات مع غرب ديموقراطي. وأهم من ذلك كله، أن الأحزاب الكردية الأخرى ليست واجهات كرتونية يمكن تحويلها إلى ديكورات في سلطة تتظاهر بالتعددية. ثمة في كردستان اليوم إلى جانب الحزب الديموقراطي الكردستاني الحاكم ثلاثة أحزاب رئيسة لها جمهورها هي الاتحاد الوطني الكردستاني الذي أسسه وقاده الرئيس السابق جلال الطالباني، وحركة التغيير المنشقّة عن الأخير، فضلاً عن الحركة الإسلامية. والنصوص تقول إن النظام السياسي في كردستان برلماني تستمد السلطة التنفيذية ورئيس الإقليم مشروعيتهما منه. لكن مقتضيات بناء الدولة القومية حتّمت على الرئيس والحكومة قلب الآية. رئيس البرلمان ممنوع من دخول العاصمة أربيل منذ سنة والبرلمان لم يعد يجتمع خوفاً من اتخّاذ إجراءات لا يريدها الطرف الحاكم.
تعددية كردستان تنطوي على مقتل أساس يتمثل في أن قيادات وجمهرة أحزابها ذات بعد جهوي واضح يعترف به الجميع صراحة أو ضمناً. الحزب الديموقراطي الكردستاني هو حزب محافظتي أربيل ودهوك. والاتحاد الوطني والتغيير هما حزبا السليمانية وكركوك. الصراع والتنافس على السلطة والموارد، إذاً، هو صراع بين مناطق تسعى الى التحكم بمناطق أخرى. وذو دلالة شديدة الأهمية أن أصواتاً مؤثرة تتعالى منذ الآن تطالب بجعل السليمانية إقليماً اتّحادياً مستقلاً عن أربيل حتى قبل قيام دولة كردستان الأربيلية العاصمة فتردّ أربيل، التي صارعت عقوداً ضد مركزية بغداد، بأن دعوات الفيديرالية تشكل خطراً على وحدة كردستان.
سلطة أربيل القابضة على الريع النفطي والجمركي مع تركيا لا تسعى ولن تسعى قط إلى محو وجود غريمها الذي أنهكته صراعاته الداخلية فما عاد غريماً. هي تريد «يكتي» (المختصر الكردي لاسم حزب الطالباني) حركة ضعيفة ملحقة بالأخ الأكبر، الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي لم يعد له وجود حقيقي أصلاً لأنه مثل أي حزب وصل إلى السلطة، صار ديكوراً لها. وهذا ما يحصل الآن بالضبط.
تعفّنت حياة كردستان السياسة من الداخل. انشق حزب الطالباني ليتبع جناح منه دولة الريع الأربيلية. البيشمركة التي هي جيش كردستان الوطني هي في الواقع بيشمركتان على رغم اتّفاق الحزبين على توحيدهما قبل أكثر من عقد. والكتلة الكردستانية الموحّدة في البرلمان العراقي لم تعد كذلك.
هل ثمة وضع أكثر مثالية من هذا، من منظور قادة بغداد واللاعبين الإقليميين؟ إيران تحتضن اليكتي، الذي صار بالتبعية حليفاً لتابعها نوري المالكي. وأربيل التي رفعت في السابق راية كردستان الموحّدة تحت قيادتها صارت تابعاً لتركيا وتنخرط، من دون نجاح يذكر، في محاربة «أشقائها» أكراد سوريـة الذيـن تنـاصبهم تركيا العداء.
هنا أيضاً اختزلت كردستان الزمن. تطلّب انهيار خرافة الوحدة العربية نحو أربعة عقود ولم يتطلّب انهيار خرافة الأمة الكردية الموحّدة غير بضع سنوات.
في العام الماضي كانت الذكرى المئوية لإبرام اتّفاقية سايكس- بيكو فرصة لرئيس إقليم كردستان السيّد مسعود بارزاني لكي يذكّر بأن الظلم الذي تعرّض له الشعب الكردي بسببها أوشك على الزوال. كان، كأمثاله من القادة القوميين العرب، لا يرى سبباً لتجزئة الشعب الكردي وتوزيعه على أربعة بلدان غير تآمر العدو الخارجي الذي تعمّد منع الكرد من إقامة دولتهم الموحّدة. خلال تلك المئوية نفسها كانت سنجار المحاذية لسورية تتحرّر من داعش على أيدي قوات حزب العمال الكردستاني المعادي حتى العظم لقيادة بارزاني والمصرّ حتّى اليوم على عدم اعترافه بسلطة أربيل عليه. حلم الوحدة بين «كردستان الغربية» (أي كردستان الواقعة في الأراضي السورية) و «كردستان الجنوبية» (أي كردستان العراق) صار نسخة من صراع البعثين العراقي والسوري. الحدود الدولية التي كانت في عرف القوميين الأكراد، وقبلهم العرب، مصطنعة، صارت حدّاً فاصلاً بين «أراضيهم» و «أراضينا»، بل تعدّاهما. كُرد سورية قضموا جزءاً من «أراضينا».
من المفترض أن يكون الإنتقال من مرحلة الحلم إلى الواقعية، أو من الثورة إلى الدولة، دليل نضج سياسي. لكنه في حالة كردستان صار دليل ابتذال. أكثر من ربع مليون كردي قضوا، بطرق بشعة في أحيان كثيرة، أملاً في استعادة كرامتهم والوقوف أنداداً إلى جانب دول المشرق الأخرى. وبدا الأمر قريب المنال حين شرعت القيادة الكردية بالتفاوض مع بغداد لتعيين المناطق التي يجب أن تكون جزءاً من كردستان، بعدما مارس نظام «البعث» سياسة تعريب ممنهجة في كثير منها. أساس مفاوضات كهذه هو بالطبع الحق القومي في السيادة على أرض كردية. وأساسها الثاني، أننا قد نبقى جزءاً من عراق فيديرالي أو نكوّن دولتنا المستقلة كحق نمارسه مثل بقية الشعوب.
لم يعد الأمر كذلك اليوم. فقد حوّلت القيادة الكردستانية بلدها إلى سلعة بخسة للمساومة. الاستقلال لم يعد ممارسة لحق قومي يأخذ مصالح الشعب في الإعتبار. صار شعاراً تلوّح به القيادة الكردستانية متى ما اختلفت مع بغداد. وحدود دولة كردستان «مرسومة بالدم»، كما يعلن القادة الأكراد. قول متكرر غير موارب يعلن رفض البيشمركة الإنسحاب من المناطق التي تم تحريرها من داعش بعد القضاء عليه حتى لو لم تكن تلك المناطق كردية. قول يستدعي القتال: الجيش الأقوى، لا الحقوق القومية، هو من سيحدد تابعية هذه المنطقة أو تلك.
قول يطبّق المبدأ البدوي حرفياً. الوطن هو البقعة التي نستطيع دفع القبائل الأخرى عنها بحد السيف. الوطن هو حيث نتوطّن وليس معطى تاريخياً.

* كاتب عراقي

“الحياة”

شارك هذه المقالة على المنصات التالية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *