د. أحمد الخليل

مدخــــــل:
في البدء دعونا نميّز بين نوعين من الشخصية:
• الشخصية الفردية.
• والشخصية الجمعية القومية.
وبطبيعة الحال من المستحيل أن يكون لأبناء الأمة الواحدة جميعهم نمط واحد من السلوك، لكن مع ذلك تبقى مسارات سلوكية معيّنة هي الغالبة على شخصية هذه الأمة أو تلك، وبذلك تختلف الأمم بعضها عن بعض، وأحسب أن الشخصية القومية لأمة ما هي، من حيث الأصل، نتاج ثلاثة عوامل رئيسية متفاعلة ومتكاملة، هي:
• العامل السلالي: نقصد الجينات الوراثية، وما ينجم عنها من خصائص فيزيولوجية وسيكولوجية.
• والعامل البيئي: فالدراسات الخاصة بالجغرافيا البشرية تؤكد فاعلية هذا العامل في تكوين البشر شكلاً وتفكيرًا وسلوكًا.
• والعامل الثقافي: وهو من حيث النشأة نتاج العاملين السابقين، لكنه يصبح مع الأيام عاملاً شبه مستقل برأسه. وبقدر اهتمامنا بالجينات الفيزيولوجية في تمييز خصائص الشعوب ينبغي أن نهتم بالجينات الثقافية.
وأحسب أيضًا أن السلوك القومي للشعب الكردي يخضع في تكوينه لهـذه العوامل الثلاثة، ولعل من الموضوعية- ونحن بصدد الشخصية الكردية- أن نميّز بين أمور ثلاثة:
• الأول: نظرة كل شعب إلى نفسه.
• الثاني: نظرة الشعوب الأخرى إلى شعب ما.
• الثالث: خصائص كل شعب كما هي في الواقع.
ولن نورد هنا نظرة الكرد إلى أنفسهم، فكل شعب من الشعوب ينظر إلى نفسه بقدر كبير من الاعتزاز، ويرى أنه الأنبل والأفضل والأنقى، ولنأخذ الغَجَر مثلاً؛ فهم في نظر الشعوب التي يعيشون بينها محطّ استصغار واحتقار، أما هم فينظرون إلى أنفسهم على أنهم العنصر الأرقى والأنبل والأطهر، وأن الشعوب الأخرى من صنف أقلّ شانًا. ونكتفي هنا باستعراض آراء الآخرين في الكرد، سواء أكان أولئك الآخرون متحاملين على الكرد، أم كانوا محايدين موضوعيين.
أحكـــــــام متحاملــة:
ليس كوني كرديًا هو الذي جعلني أسخدم عبارة (آراء متحاملة)، وإنما لأنني تتبّعتُ المُناخات الأيديولوجية والمنطلقات السياسية التي صدرت عنها تلك الآراء، وتبيّن لي بالأدلة القاطعة أنها آراء إمّا قاصرة صادرة عن رؤية ضيقة، تلقّفت عن غير وعي، وبسذاجة غريبة، ما روّجته جهات معادية للكرد. وإمّا أنها تهدف إلى تشويه صورة الكرد بكل وسيلة.
ونلمح أولى مظاهر تلك الحملة الشعواء على أجداد الكرد (گٌوتي، وكاشّو، وكردوخ) منذ أيام الأكّاديين والآشوريين، إن قادة تلك الإمبراطوريات المجاورة كانوا يغزون بلاد جدود الكرد، فيقتلون وينهبون ويدمرون، حتى إذا نهض أولئك الجدود في وجوههم، وعاملوهم بالمثل، كان الغزاة يسرعون إلى رميهم بأبشع الصفات.
وقد اغتصب الفرس الأخمين السلطة من الميديين حوالي (سنة 550 ق.م)، وكان هاجسهم الأكبر على الدوام هو الخوف من عودة الميديين إلى سدّة الحكم، فنسبوا منجزات الميديين الحضارية إلى أنفسهم، واستغلوا قدرات الميديين العسكرية في غزو البلاد المجاورة، وفي تأسيس الإمبراطورية الفارسية من الهند شرقًا إلى أثينا غربًا، ولم يتورّعوا في الوقت نفسه عن إلصاق صفات الشر والمكر والخيانة بالميديين؛ هذا عدا أنهم حَرموا الكرد من الحياة الحرة، وحالوا بينهم وبين التطور الحضاري.
وتوارثت الأسر الفارسية الحاكمة ذلك الحقد الدفين على الكرد، كما توارثت سياسة تغييب صورة الكردي الشجاع عن صفحات التاريخ، وأحلّوا محلها صورة الكردي الراعي المتخلف الجلف الجافي، حتى إنهم جعلوا لقب (كردي) من الألقاب التي تقال في معرض التحقير؛ وخير دليل على ذلك أن الملك الأرشاكي أَرْدَوان عيّر خصمه مؤسس الدولة الفارسية الساسانية أَرْدَشَير بن بابَك بأنه “كردي مربّى في خيام الأكراد”.
ولما بدأت الفتوحات العربية في القرن السابع الهجري، وانهارت الدولة الساسانية، كان العنصر الفارسي متقدمًا بأشواط كبيرة على العنصر الكردي، سواء أكان ذلك على الصعيد الثقافي، أم على الصعيدين السياسي والاقتصادي، فنقل الفرس إرثهم المعادي للكرد إلى داخل الثقافة الإسلامية، وابتلع بعض المثقفين المسلمين الطُعم، ويتجلى ذلك في ظاهرتين:
1 ـ الظاهرة الأولى: أنك قلمـا تجد ذكرًا للكرد في النصوص التي تتناول صفات خصائص الشعوب في كتـابات الموسوعيين، أمثال الجاحِظ وأبي حَيّـان التَّوحِيدي وغيرهم، وإنما يذكرون العرب والفرس والروم والترك والهند والصين، وأحيانًا غيرَهم، أمّا الكرد فلا، بل كثيرًا ما عدّوا الكرد فرسًا تارة وعجمًا تارة أخرى. قال الجـاحظ في كتابه (البيان والتبيين): “وإنما الأمم المذكورون أربع: العرب، وفارس، والهند، والروم” .
2 ـ والظاهرة الثانية: أن المؤلفين إذا ذكروا الكرد فإنهم يقدّمونهم بصورة منفِّرة، فهذا المسعودي مثلاً يذكر ” فظاظة الأكراد ” . وهذا الجاحظ يذكر في رسـالة (مناقب التُّرك) أن قبيلة هُذَيْل العربية هي “أكراد العرب” . ولا تتضح دلالة هذه العبارة إلا إذا عرفنا أن قبيلة هُذَيْل كانت من القبائل الفقيرة المقيمة في جبال الحجاز، وكان منها أكثر صعاليك العرب؛ ثم ها هو ذا الجاحظ يكتب رسالة في (مناقب الترك)، ولا نراه يفعل ذلك بالنسبة الكرد؛ ولعل وراء موقف الجاحظ أمرين:
• الأمر الأول: أن الكرد كانوا غير معروفين من قبل النخبة المثقفة في العصر العباسي سوى أنهم عصاة على الدولة، خارجون على سلطة الخلافة، مشاغبون، متمردون.
• والأمر الثاني: أن الجاحظ كان انتهازيًا، يعرف من أين تَؤكَل الكَتِف كما يقول المثل العربي، وكان من ممثّلي ثقافة السلطة، وكان الضباط الترك في عهده قد بلغوا مناصب رفيعة في البلاط العباسي، حتى إن الفَتْح بن خاقان كان وزير الخليفة المُعتصِم بالله، فكان من الطبيعي أن يتقرّب الجاحظ إليهم بهذه الرسالة، ولو عاش في العصر الأيوبي لكتب رسالة عنوانها (مناقب الكرد).
ورغم أن بعض المؤرخين والجغرافيين أشادوا بهذا العالِم الكردي أو ذاك، لكنهم سرعان ما كانوا يرمون الكرد عامّة بصفات ذميمة، ويصفونهم بأنهم جُفاة، قُساة، أشرار، ولنأخذ ياقوت الحَمَويّ نموذجًا؛ إنه تحدّث عن مدينة شَهْرَزُور الكردية، فقال:
“إلا أن الأكراد في جبال تلك النواحي على عادتهم في إخافة أبناء السبيل، وأخْذ الأموال والسرقة، ولا ينهاهم عن ذلك زَجْر، ولا يصدُّهم عنه قتلٌ ولا أَسْر، وهي طبيعةٌ للأكراد معلومة، وسَجِيّةٌ جِباههم بها مَوْسُومة، وفي مُلَح الأخبار التي تُكْسَع بالاستغفـار أنّ بعض المتطرّفين قرأ قوله تعالى: (الأكرادُ أشدُّ كفرًا ونِفـاقًا) فقيل له: إن الآية: (الأعرابُ أشدّ كفرًا ونفاقًا). فقال: إن الله تعالى لم يسافر إلى شَهرزور، فينظرَ إلى ما هنـالك من البلايا المخبّـآت في الزوايا” .
ونجد ياقوت الحموي في الوقت نفسه يقول: “وقد خرج من هذه الناحية من الأَجِلّة والكُبَراء، والأئمّة والعلماء، وأعيان القضاة والفقهاء، ما يفوت الحصرَ عدُّه، ويَعجز عن إحصائه النفَسُ ومدُّه، وحَسْبُك بالقضاة بني الشَّهرزوري جَلالةَ قدر، وعِظمَ بيت، وفخامةَ فِعل، وذِكْرِ الذين ما علمتُ أن في الإسلام كلِّه وليَ من القضاة أكثرَ مِن عِدّتهم من بيتهم، وبنو عَصْرُون أيضًا قضاةٌ بالشام، وأعيانُ من فرّق بين الحلال والحرام منهم، وكثيرٌ غيرُهم جدًا من الفقهاء الشافعية، والمدارس منهم مملوءة ” .
وكأن من ذكرهم ياقوت من القضاة والفقهاء لم يكونوا كردًا، والغريب أن ياقوتًا الحموي عاش بين سنتي (574 أو 575 – 626 هـ )، وكان معاصرًا للدولة الأيوبية الكردية، وهي صاحبة الفضل في تحقيق الانتصارات على الفرنج في معركة حِطِّين سنة (583 هـ)، وفي معركة تحرير مدينة القدس، فكيف استطاع الكرد- وهم حسب زعمه أشرار وفاسدون – أن يقودوا العالم الإسلامي في شرقي المتوسط حينذاك، وينجزوا تلك الانتصارات الحربية، إلى جانب المكاسب الحضارية الكثيرة ولا سيما الثقافية منها؟
ومع إطلالة العصر الحديث في غربي آسيا عمل فريق جديد لتشويه صورة الكرد؛ إنهم الرحّالة الأوربيون، فقد توجّهوا، خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، إلى بلاد العرب وكردستان وفارس والأناضول، وكانوا مبعوثين على الغالب من جهات سياسية أو تبشيرية، وقد أعطى بعضهم انطباعات غير طيبة عن الكرد، فوصفوهم بأنهم: رعاة، همجيون، لصوص، مزعجون، سفّاحون، إلخ.
لماذا التحامل على الكرد؟
يبدو أن ثمّة على الأقل أربعة عوامل أنتجت هذه الأحكام المتحاملة:
1- العامل الأول: أن السياسات العثمانية والصَّفَوية حالت دون مساهمة الكرد في حركة الحضارة، ورمت بكردستان في الفقر والجهل والتخلف، مما جعل المجتمع الكردي، ولا سيما في الأرياف والمراعي الجبلية يعيش حياة فيها قدر كبير من البدائية، ومن الطبيعي أن تسود الخشونة حياةً كهذه، وأن يكثر اللصوص وقطاع الطرق، ولم يكلّف أولئك الرحالة أنفسهم أن يتساءلوا: لماذا وصل الكرد إلى تلك الحالة المُزْرِيَة؟
2 – العامل الثاني: أن الكرد كانوا شديدي التمسك بالدين الإسلامي، الأمر الذي جعلهم ينظرون بعين الريبة والنفور إلى الأوربيين، ولا سيما أن الدولة العثمانية كانت تخوض صراعًا مريرًا ضد أوربا، فصوّرت الأوربيين على أنهم (أعداء) للمسلمين، وأنهم (كفّار) و(نجسون)، ومن هنا جاءت خشونة بعض الكرد في التعامل مع الرحّلة الأوربيين.
3 – العامل الثالث: أن معظم أولئك الرحّالة كانوا مبعوثين من جهات استعمارية وتبشيرية، وكانوا يصطدمون من ناحية بتعصب الكرد لللإسلام، ويقعون، من ناحية أخرى، تحت تأثير النخبة الكهنوتية في الطوائف المسيحية التي كانت تعيش بين الكرد، من أمثال بعض الأرمن والسريان والآشوريين، وكانت آراء تلك النخبة في الكرد سلبية على الغالب، بسبب الصراع على الجغرافيا ومشكلات التجاور، وكانت السياسات العثمانية، إلى جانب السياسات الروسية والأوربية، وراء إحداث الشقاق بين الكرد وجيرانهم المسيحيين.
4 – العامل الرابع: أن هؤلاء الرحالة الأوربيين- وكان معظمهم واسعي الثقافة- جاؤوا إلى الشرق وهم على علم بتفاصيل الحروب الفرنجية (الصليبية)، وكانوا يعلمون دور الكرد قادةً وقبائل في إلحاق الهزيمة بأجدادهم، ولا نستبعد أن تكون آراؤهم السلبية في الكرد صدرة عن تلك الخلفية التاريخية.
الهوامش:
– الجاحظ: البيان والتَّبيين، 1/87.
– المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، 2/121.
– الجاحظ: رسائل الجاحظ، 1/10، 71.
– تُمحى.
– ياقوت الحموي: معجم البلدان، 3/425 – 427.
– المرجع السابق.

توضيح:
هذه الدراسة مقتبسة من كتابنا “تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية”.

شارك هذه المقالة على المنصات التالية

تابعونا على غوغل نيوز
تابعونا على غوغل نيوز