د. أحمد الخليل
الزعيم!
النُّخَب هي صانعة تواريخ الشعوب.
وهي التي توجّه مسيرة الأمم صعوداً أو هبوطاً.
وهي التي تقود الأمم إلى قمم والحرية، أو تنحدر بها إلى هوّة العبودية.
بلى، هات قائداً عظيماً، أعطك شعباً عظيماً.
والعكس أيضاً صحيح.
هذه هي الحقيقة إذا رغبنا في قراءة التاريخ، قديمه وحديثه، قراءة واقعية، قراءة بعيدة عن التخليط والطوباوية والغوغائية، أما ما يقال عن القيادة الجماهيرية، فما هو إلا تحريفٌ للحقائق، وتصويرٌ للتاريخ واقفاً على رأسه بدلاً من أن يكون واقفاً على قدميه؛ كما كتب ماركس ذات مرة فيما أذكر. وقد يُظن أن ما أقوله شكلٌ من رجعية التفكير، وتأليه للقائد (الزعيم)، وتهميش لقدرات الجماهير، والحقيقة أن الأمر ليس كذلك، فالقائد هو أولاً وأخيراً ابن الجماهير، منها ينشأ، وفيها يتربّى، وبها يصبح قائداً (زعيماً)، لكنه يتميّز عن سائر أفراد الشعب بأنه يمتلك خصائص قيادية رفيعة:
– أولها أنه يستلهم روح الأمة ماضياً وحاضراً بعمق، ويمثّلها بصدق.
– وثانيها أنه يمتلك بصيرة نفّاذة قادرة على تحديد الخيار الصحيح كل مرة.
– وثالثها أنه يمتاز بأعلى مستويات قوة الإرادة، وصلابة العزيمة، وبُعد الهمّة، والحزم في المواقف، وبأرفع درجات الجسارة والإقدام، إضافة إلى اتصافه بروح الإيثار والتضحية، فيكون قدوة لشعبه في جميع هذه الميزات.
– ورابعها أنه يعيش حياة بسيطة ومتقشّفة، لا تُبهره الألقاب، ولا يسعى وراء لذائذ العيش، ولا يرضى حياة الأبّهة والترف، ويكون جادّاً في ممارسة المهامّ، عنيداً في مواجهة الصعوبات.
– وخامسها أنه يثق بالجماهير، فلا يتعامل معها باستخفاف وازدراء، ولا يقمعها ولا يستعبدها، وإنما ينمّي فيها الشعور بالعزة والكبرياء، ويعدّ كرامة الجماهير جزءاً من كرامته، ولا يتميّز عنها لا في المظهر ولا في المأكل والمشرب، ولا في سائر طرائق العيش.
– وسادسها أنه يأخذ بأيدي الجماهير، فيخرج بها من متاهات الشعور بالضياع، وينقذها من ظلمات الشعور بالإحباط، ويحيي فيها الأمل المشرق، ويرسم لها الهدف الأسمى، ويدلّها على الطريق القويم إلى الخلاص.
– وسابعها أنه يرتقي بالجماهير روحياً وفكرياً وسلوكياً، ويحررها من روح التنافس الرخيص على المكاسب، كما يحرّرها من الذهنية العبودية المستكينة، ويوحّد طاقاتها، ويوظّف قدراتها بشكل مدروس وهادف في تحقيق الهدف المرسوم.
تلك هي أبرز خصائص القائد (الزعيم).
وبهذه الخصائص صنع القادة العظماء تواريخ أممهم ومستقبلها.
أهُورامَزْدا وأَهْرِمان
وقد تتمثّل النخبوية في شخص واحد، كما هو أُورنامو السومري، وسرجون الأكّادي، وحمورابي البابلي، ورعمسيس المصري، وبانيبال الآشوري، وكَي خسرو الميدي، وكورش الأخميني، والإسكندر المكدوني، وهانيبال الفينيقي، وغيرهم كثيرون. وقد تتمثّل النخبة في فئة من أبناء الأمة، تجمعهم رؤية واحدة، وتقودهم مبادئ مشتركة، ويعملون لهدف واحد، فيفرزون من بينهم القائد الذي يجسّد رؤيتهم، ويتوسّمون فيه القدرة على تحقيق آمالهم. وسواء أكانت النخبة شخصاً أم فئة، فإنها هي التي تستقطب جماهير الأمة، وترسم لهم مسار المستقبل، وتقودهم إليه، وبعبارة أخرى: إن النخبة تصنع قدر الأمة؛ تقدّماً أو انحطاطاً، وأتحدث عن القدر الآن من المنظور التاريخي الواقعي، وليس من المنظور الديني.
ولم يفتقر الكرد، طوال تاريخهم، إلى النُّخَب النقية والعبقرية والشجاعة، بل لولا تلك النُّخَب لما اجتاز الكرد بسلام موجات المحن الكبرى التي ابتُلوا بها، محن الغزوات والاحتلالات، ومحن الصهر والتذويب، وحتى محن الإبادة أيضاً، لكن المؤسف أن الكرد لم ينجوا، طوال تاريخهم أيضاً، من المصائب الكبرى التي جرّتها عليهم النُّخب الأنانية والمغفّلة والحمقاء والجبانة، إنهما خطان متوازيان أبديان، لكنهما متعاكسان لا بل متصارعان: الأول يرتقي نحو الأعالي، والآخر ينحدر نحو الهاوية، تُرى هل استشعر النبي الميدي زردشت شيئاً من هذا حينما بنى عقيدته على ثنائية الصراع الأبدي بين أَهورامَزْدا (إله النور) وأَهرِمان (إله الظلام)؟ من يدري؟! ربما!
وما زلنا بصدد الحديث عن النخب الميدية التي أصبحت أسيرة أنانيتها، وانساقت خلف أحقادها، فخانت شعبها، وجعلت مصير الأجيال في أيدي من لا يرحمونها، وعلمنا أن هارپاك (هارباجوس) كان أول من دشّن هذا الخط الأهرماني في العهد الميدي، فتآمر على أستياجيس آخر ملوك ميديا، ونسّق خطة الثورة عليه مع الزعيم الفارسي كورش، والحقيقة أن هارپاك لم يكن الوحيد في هذا المجال، وإنما كان قد ضمّ إلى حلقة التآمر معه عدداً آخر من كبار قادة الميد، حسبما أكد في رسالته السرية إلى كورش، فقد جاء في تلك الرسالة قوله مخاطباً كورش:
” فافعل ما أنا مشير عليك به، وستكون لك مملكة أستياجيس كلها؛ هيّئ الفرس للثورة، وامض لملاقاة الميديين، ولا يضيرنّك إن كنت أنا أو أحد المقدََّمين منهم على رأس الجيش الذي سيرسله الملك لملاقاتك، فالفوز لك في كل الأحوال، لأن أشرف الميديين سيكونون أول من يهجرونه للانضمام إليك في جهدك للإطاحة به، ونحن جميعاً جاهزون للعمل، فافعل ما أنصحك به، وبادر العمل سريعاً “. (تاريخ هيرودوت، ص 90 – 91).
ويبدو أن مازاريس كان من القادة الذين تآمروا على أستياجيس أو تخلّوا عنه.
فمن هو؟ وما هي الجهود التي بذلها في خدمة الدولة الأخمينية؟
طنابير.. وأقلام
الحقيقة أننا لا نعرف شيئاً عن مازاريس في مرحلة التآمر التي قادها هارپاك ضد أستياجيس، فقد سبق القول بأن تاريخ ميديا ملوكاً وشعباً تعرّض للتغييب المنهجي على نحو غريب، ولا ريب في أن الفرس- أخمينيين كانوا أم أشگانيين أم ساسانيين- هم وراء ذلك التغييب؛ لأنهم كانوا أكثر المستفيدين منه والأرجح أن مازاريس كان أكبر من هارپاك سنّاً، وكان أرفع منه مقاماً في المناصب العسكرية القيادية في الجيش الأخميني، والدليل على ذلك أنه توفي قبل هارپاك بسنين طويلة، وأن هارپاك تولّى قيادة الجيش الفارسي في آسيا الصغرى بعد وفاته.
بلى، لا شيء عن مازاريس قبل الهجوم الذي شنّه كورش على مملكة ليديا في أقصى غربي آسيا الصغرى، وقبل أن يقتحم سارديس عاصمة ليديا سنة (547 ق.م)، ويأسر الملك الليدي كرويسوس (قارون)، ومصدرنا الرئيسي بل الوحيد في هذا المجال هو تاريخ هيرودوت، فالنسبة إلى هارپاك أطال هيرودوت الحديث عن دوره القيادي في إسقاط الحكم الميدي، أما مازاريس فلم يذكره إلا خلال الأحداث التي تلت سقوط الدولة الميدية وقيام الدولة الأخمينية، ولا سيما بعد نشوب ثورة ليدية كبرى ضد السلطات الفارسية المحتلة في ليديا.
وكان قائد تلك الثورة زعيم ليدي كبير يسمى (باكتياس)، فما إن رحل كورش بجيشه عن ليديا ومعه كرويسوس حتى شرع باكتياس يحرّض الليديين على الثورة، ووظّف ما لديه من الذهب في تجنيد المقاتلين، وسيطر على ساحل آسيا الصغرى المطل على بحر إيجه، وأقنع السكان بتأييده، ثم زحف على العاصمة الليدية سارديس، وحررها، وأحكم الحصار على الحاكم الفارسي تبالوس الذي تحصّن مع قواته في القلعة، ووصلت أنباء الثورة إلى كورش وهو في طريق العودة إلى إكباتانا، فاستبدّ به الغضب، والتفت إلى الملك الليدي شبه الأسير كرويسوس، وقال له:
” لست أرى إلا أن هؤلاء الليديين مصدر للمتاعب لي، ولسوف يجرّون الوبال على أنفسهم أيضاً، وفي اعتقادي أن أفضل ما يمكن عمله بشأنهم هو أن أجعلهم أرقّاء، وأبيعهم في سوق النخاسة، … ” (تاريخ هيرودوت، ص 103).
إن القائد الأصيل يظل مخلصاً لشعبه حتى في أحلك المواقف.
وهكذا كان كرويسوس، ويبدو من سيرة هذا الرجل- سواء في عهد كورش أم في عهد ابنه قمبيز- أنه كان ملكاً فَطناً حكيماً، يمتاز ببصيرة نفّاذة، ويقرأ الحاضر والمستقبل قراءة واقعية واعية، وكان يعلم أن شعوب آسيا الصغرى المتفرقة الانتماءات والمصالح غير قادرة على مواجهة قوة إمبراطورية كاسحة، فخشي على سارديس رمز ليديا من الدمار، وخشي على الليديين من أن يصبحوا عبيداً يباعون في أسواق النخاسة، ويتبعثرون في أنحاء العالم، فينقرضون بعد عدة أجيال بشكل كامل، وتلك أكثر الكوارث هولاً في تاريخ الشعوب.
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى كان كرويسوس يفهم بدقة ذهنية كورش الإمبراطورية، ويدرك ماذا يرضي تلك الذهنية وماذا يغضبها، وماذا يناسبها وماذا لا يناسبها، فأشار على كورش بألا يعاقب شعب ليديا جميعه، وأن من الحكمة أن يعاقب باكتياس وحده، باعتبار أنه هو الذي دبّر أمر الثورة، وقاد الثوار ضد السلطات الفارسية، وقدّم لكورش حلاً بديلاً، كان يعلم أنه سيلقى القبول منه، إنه قال لكورش:
“ فالرأي عندي أن تحظر عليهم حمل السلاح، وليرتدوا من الآن فصاعداً الإزارات تحت عباءاتهم، ولينتعلوا النعال العالية، ومروهم بأن يعلّموا أبناءهم العزف على القيثار، فإذا ما انتهجتم هذا النهج، يا مولاي، وجدتم أن هؤلاء الرجال سرعان ما غدوا نساء، وما عدتم تخشون من أمرهم شيئاً “. (تاريخ هيرودوت، ص 103 – 104).
وكان كورش معروفاً بفطنته ودهائه، وهو بحسب قول ديورانت: ” من الحكّام الذين خُلقوا ليكونوا حكّاماً” (قصة الحضارة، 2/403)، وقد أدرك أن الرأي الذي قدّمه كرويسوس هو الأنسب والأقل ضرراً، فالحكم على شعب بأكمله بالعبودية قد يشجّعه على الثورة والدفاع عن النفس بضراوة، بل إن ذلك الحكم الجائر قد يشجّع سكان المدن الإغريقية المجاورة لليديا في آسيا الصغرى، وفي أرخبيل إيجه، وفي بلاد اليونان، على توحيد الصفوف، والتصدي معاً للسلطات الفارسية المحتلة.
وكان كورش صاحب ذهنية إمبراطورية ذكية حقاً، إنه كان يعرف، مثل جميع أصحاب هذه الذهنيات عبر التاريخ، أن أمةً يكون حملةُ الطنابير من أبنائها أكثر من حملة الأقلام والسيوف، وأمة ينصرف أبناؤها إلى حياة الترف وإلى اللهو والعبث، لهي أمة ضلّت طريقها إلى الحرية والكرامة، وحكمت على نفسها بالضعف والتبعية والعبودية، وهذا ما قرر كورش أن يفعله بشعب ليديا؛ إذ هذا هو المطلوب بالنسبة إلى أي حاكم ذي نزعة إمبراطورية.
وأبدى كورش سروره بنصيحة كرويسوس، واطمأن إلى أنها نصيحة سياسي حكيم، فقرر العمل بها، وكان من الضروري أن يقوم شخص ما من أتباعه بتحويل خطته من النظرية إلى التطبيق، فاختار مازاريس الميدي، من بين سائر القواد، للقيام بهذه المهمة الدقيقة، قال هيرودوت:
” بعث في طلب مازاريس الميدي، وطلب إليه أن يعلن لليديين مرسومه وفق النقاط التي تضمّنتها مشورة كرويسوس، ويتولّى بعدئذ بيع كل من كان له ضلع في هجوم الليديين على سارديس، وأوعز بالإبقاء على حياة باكتياس مهما كانت الظروف، على أن يحضر للمثول أمامه “.(تاريخ هيرودوت، ص 104).
وتابع كورش مسيره نحو أرض فارس.
ويُفهم من هذا الخبر أحد أمرين:
– إما أن مازاريس كان مكلفاً ببعض المهام في إكباتانا فأرسل كورش في طلبه، وكلّفه بالمهمة.
– وإما أنه كان مع كورش في الجيش العائد من ليديا إلى إكباتانا، وهذا هو الأرجح.
وعلى الحالين هذا دليل على ثقة كورش بقدرات مازاريس القيادية والعسكرية من ناحية، فقد كان الليديون شعباً مقاتلاً، لا تسهل السيطرة عليهم. كما أنه دليل على ثقة كورش بإخلاص مازاريس له، فليديا كانت تقع في أقصى غربي آسيا، أي في أقصى غربي الإمبراطورية الفارسية حينذاك، وكانت الموانئ التجارية التي تربط الإمبراطورية بالبلقان وبلاد اليونان، عبر بحر إيجه تقع في ليديا والبلاد المجاورة لها؛ تلك البلاد التي ما كان للفرس أن يسيطروا عليها إلا بالسيطرة على ليديا أولاً، هذا عدا أن ليديا كانت قريبة من بلاد اليونان العدو الأوربي الرئيسي للفرس حينذاك.
فكيف نفّذ مازاريس المهمات الموكولة إليه؟
المطاردة!
تصدّى مازاريس للمهمة بكفاءة تامة، وكان من الطبيعي أن يزحف بجيشه نحو العاصمة الليدية سارديس، ليستردها من باكتياس، وليفك الحصار عن الحاكم الفارسي وجنده في القلعة، قال هيرودوت يصف الأمر:
” ولما علم باكتياس أن جيشاً غدا يطارده، وبات على مشارف موقعه، انتابه الهلع، فهرب إلى سايمه Cyme [مدينة على ساحل بحر إيجه]، بينما كان مازاريس يتابع الزحف على سارديس مع فوج من جنود قورش “. (تاريخ هيرودوت، ص 105).
تلك كانت هي المرحلة الأولى في خطة مازاريس.
وماذا كانت المرحلة الثانية؟
كان على مازاريس، بعد السيطرة على سارديس، أن يبدأ في تنفيذ المخطط الإمبراطوري الذي طابت به نفس كورش، أقصد قتل إرادة الحرية في نفس الليديين، وتجريدهم من روح الفروسية، وإلهائهم بالغناء واللهو، وهذا ما كان على مازاريس الميدي أن يفعله تلبية لإرادة سيده الفارسي، قال هيرودوت:
” وحين وجد [مازاريس] أن باكتياس ومناصريه قد غادروا كان أول ما فعله أن فرض على الليديين ما رسمه لهم قورش، وكان ذلك بداية تحول في حياة الليديين كلهم “. (تاريخ هيرودوت، ص 105).
ووصل مازاريس إلى المرحلة الثالثة في الخطة، ألا وهي القضاء على قائد الثورة، والعقل المدبّر لها، وكان باكتياس هو القائد وهو العقل المدبّر، وكان على مازاريس أن يلقي القبض عليه حسب أوامر كورش، ويرسله إلى البلاط الملكي؛ وكان باكتياس قد لجأ إلى جزيرة سايمه، قال هيرودوت: ” وبعث [مازاريس] بعد ذلك بكتاب إلى سايمه يطالب أهلها بتسليم باكتياس” (تاريخ هيرودوت، ص 105)، ولا ريب في أن رسالة مازاريس كانت رسالة تهديد ووعيد شديدة اللهجة كما يقال في العُرف السياسي المعاصر، ولا ريب في أن مازاريس أنذر السايميين في رسالته باجتياح مدينتهم ما لم يبادروا فوراً إلى القبض على باكتياس وتسليمه.
وكان على قادة سايمه، والحال هذه، أن يتخذوا القرار المناسب، ويجدوا حلاً لهذه المشكلة، فهم بين أمرين أحلاهما مُرّ كما يقول المثل: إما أن يتعاطفوا مع باكتياس، ويأخذون بنهجه الثوري، ويرفضوا تسليمه، ويعرّضوا أنفسهم لخطر الانتقام الفارسي المرعب. وإما أن يخرجوا على التقاليد المرعيّة، ويفضّلوا السلامة، ويسلّموا باكتياس لمازاريس. ويبدو أن قادة المدينة انقسموا إلى فريقين متكافئين: فريق مع تسليم باكتياس وإيثار السلامة، وفريق مع عدم تسليم باكتياس، وتحمّل النتائج؛ والدليل على التكافؤ بين الفريقين هو اتفاقهم على الاحتكام إلى كهنة الآلهة (رجال الدين) لحسم ذلك الخلاف، وكانت تلك هي العادة قديماً، وما زالت هذه العادة قائمة عند بعض الشعوب إلى يومنا هذا.
احتكام إلى الآلهة
قال هيرودوت:
” فقرّ رأي الناس هناك على استشارة الكهنة في معبد برانشيداي فيما تشير به الآلهة عليهم، إن كان أن يقاوموا أو يستسلموا، وكان معبد برانشيداي يقع في منطقة ملطية [هكذا ترجمها المعرّب، والأرجح أنها مدينة مليتوس Miletus الواقعة على ساحل بحر إيجه، وليس مدينة ملطية المعروفة حالياً]، بالقرب من مرفأ بانورموس، وهو معبد قديم كثيراً ما كان يلجأ إليه الأيونيون والأيوليون” (تاريخ هيرودوت، ص 105).
وحسم عرّاف المعبد الأمر لصالح الفريق الداعي إلى تسليم باكتياس للفرس، لكن الفريق الآخر من أهل سايمه رأى من العار أن يتخلّوا عن باكتياس ويسلّموه للفرس، وبعد خلاف شديد بين الفريقين حول الموضوع اهتدوا إلى حل وسط؛ ألا وهو ترحيل باكتياس إلى ميتلانه Mytilene الواقعة على ساحل بحر إيجه شمالي مدينة سايمه. (تاريخ هيرودوت، ص 105).
ولم يترك مازاريس باكتياس ينجو بجلده، وإنما ظل يطارده، وإلى جانب سلاح الترهيب لجأ مازاريس إلى سلاح الترغيب، فأطمع أهل ميتلانه بمبلغ مغرٍ من المال لقاء قيامهم بتسليم باكتياس إليه. ويبدو أن قادة ميتلانه رضوا بذلك، فقبضُ مبلغ مناسب من المال، حسبما بدا لهم، كان أفضل من تعريض مدينتهم لخطر التدمير، وكانوا يعلمون أنهم غير قادرين على التصدي للجيش الفارسي، وأحس باكتياس بالخطر يتهدده، فانتقل إلى مدينة أخرى تسمى خيوس، ولجأ إلى معبد الإلهة أثينا، قال هيرودوت:
” وفي خيوس جرّ أهلها باكتياس من معبد الإلهة أثينا الحارسة جراً، وسلّموه إلى الفرس، وكان ثمن تسليمه منحهم مقاطعة اتارنيوس وهي قطعة أرض تقع على اليابسة مقابل ليسبوس، وهكذا كان أمر وقوع باكتياس في قبضة الفرس، واحتجازه ليصار إلى ترحيله للمثول بين يدي قورش” (تاريخ هيرودوت، ص 106).
وبعد أن ألقى مازاريس القبض على باكتياس قرر الانتقام من جميع الإغريق والليديين الذين ساروا تحت لواء الثورة، فشنّ حملة عسكرية لملاحقة ومعاقبة كل من كانت له مشاركة في حصار الحاكم الفارسي تبالوس في قلعة سارديس، وكان قاسياً في التعامل معهم، كما كانت هي العادة في السياسة الفارسية القمعية الاحتلالية، قال هيرودوت في ذلك:
” وكان أن باع سكان بييرنه في أسواق النخاسة، واجتاح بعدئذ منطقة ماجنيسيا (مغنيسيا)، وسهل مياندر، وعمل فيها نهباً وسلباً “(تاريخ هيرودوت، ص 106).
وبينما كان مازاريس يقوم بحملته تلك لإرضاء سادته الفرس أصيب بالمرض، ثم توفي، والأرجح أن وفاته كانت سنة ( 546 ق.م).
المراجع
- هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001م.
- ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، الإدارة الثقافية، جامعة الدول العربية، 1968م.
وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة والأربعين.
د. أحمد الخليل في 1 – 12 – 2007
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=35435