سنة بعد أخرى، وخاصة في مناسبة يوم المرأة العالمي، تهيمن كتابات المجاملة والتي تطفو عليها لغة التزلف لحقوق المرأة، على الكتابات الهادفة لتوعية المجتمع عامة، وبشكل خاص ما تكتب بيد النساء ويقال بلسانهن، وتتكرر ديباجة ما قيل وكتب وبنفس الأساليب الكلاسيكية الجامدة، من الدفاع عن حقوقها إلى تهنئتها في عيدها، خاصة في العقد الأخير مع انتشار سهولة النشر في وسائل التواصل الاجتماعي، وحيث المبالغة، والتضخيم والذي في عمقه اعتراف ضمني غير مباشر على أن أغلبية الذات المدافعة تريد إقناع نفسها قبل إقناع المرأة على أنه يؤمن بحريتها الكلية وأن حقوقها يجب أن تكون على قدر حقوق الرجل، وهو بذاته في الواقع ليس حرا، فكيف لسجين يعطي الحرية لسجين أخر، إلى درجة يشعر القارئ بأن الرجل، الشرقي خاصة، يتباها وهو في ذاته غير مقتنع بالحقوق التي تنسخ خارج المساحات الدينية، أو يكتبها لأنه يشعر بأنه لا يؤمن بمنطق التنازل عن حقوقه كرجل أمامها، كما وتنتشر كتابات وأقوال تعكس عكس المقال، وتتبين بين سطورها بعض الدلالات على قناعته بوجود غبن بالمكون وهو جزء مشارك أو يؤمن بهذا الغبن.

وفي الواقع، الكتابة ونشر القوانين والأحكام في هذا المجال تكثر وبتلك الأساليب الضحلة في الدول والمجتمعات التي تؤمن بعدم المساواة، وبتعدد الزوجات وزواج القاصرات، وغيرها من المآسي، وترى سيادة الرجل حق لا بد منه، والأغلبية من شعوب هذه الدول لا تؤمن بها بل تعارضها، وبالتالي تلك المجتمعات تعيش المآسي ما بين النظرية والتطبيق، ومن الغرابة أن نسبة عالية من نساء هذه المجتمعات حتى المدافعات عن حقوقهن غارقات ما بين القول والفعل، أو بين المنطق وابتذال الحرية مقابل شريحة الرجال الذين يتأرجحون ما بين المنطق وعدمية الحرية، وجلها نتيجة ضحالة الوعي، وهيمنة الثقافة الدينية المطلقة، وهذا ما يجعل الرجل بحد ذاته مقيد ولا يملك القدرة على قبول حرية المرأة أو تقديمها، لذلك المرأة لا تحتاج إلى التهنئة بقدر ما تحتاج إلى توعية المجتمع، والكتابات التنويرية والتي يجب أن تتجه إلى الهدف.
نظرا للأجواء الجديدة التي تخالطها المرأة الشرقية؛ حين نزوحها من موطنها إلى الدول الغربية، وتدخل في محيط لم يسبق لها من قبل أن عاشته؛ حيث يوفر لها الكثير بدساتير محكمة ابتداء من الجانب الاقتصادي، وهو الأهم، مرورا بالثقافة الدينية ووصولا إلى الحالة الاجتماعية، وهذا الجديد عليها يدغدغ بركان الكبت المتراكم لديها في ماضيها القريب. وبحكم القوانين القاضية بالمساواة بين الرجل والمرأة لها حرية التمرد على ماضيها، إذا شاءت. والحالة هذه، يحدث لدى بعضهن انفجار للكبت المتراكم فيتصرفن بهذه الحرية المتاحة لهن في الموطن الجديد بما هو غير مقبول لدى الرجل الشرقي المستوطن في هذا الغرب الحر، صاحب الذهنية الذكورية، فيرى الحاصل مخل بالمألوف، متجاهلا ما عانته المرأة من قوانينه الذكورية في مجتمعه الشرقي. جدير بالقول إن لوسائل التواصل الاجتماعي التي تقتنيها المرأة الشرقية في محيطها الغربي ترفع من مستواها الفكري والثقافي، وتحس أن قيودها قد انكسرت، فعليها أن تعيش من الآن بما تقتضيه حريتها، كأنها تريد أن تعوض ما فاتتها من الحرية فيما مضى.
في الواقع عندما تستغل المرأة الشرقية حريتها كما المواطنات الغربيات الأصلاء، تضر بالحالة العائلية، وأكثر من يعاني من هذا الجديد هم الأطفال، من جهة الأب ما زال ذكوريا بقوانينه، وإن كانت أخف مما فيما مضى، مع ذلك فهو رجل شرقي ولِد وترعرع وصار كهلا في ظل تلك القوانين فمن الصعب أن يتغير بمائة وثمانين درجة، مهما طالت إقامته في هذا الغرب المغاير لما تربى عليه.
طالما ارتضى الرجل أن يتخذ هذا الغرب موطنا له؛ عليه أن يساير قوانينه ويقبل بتمرد المرأة عليه وعلى ماضيها. حين يفقد هذا التمرد المرأة مشاعرها كأم تجاه أطفالها، راضخة لاستفراغ كبتها، عنده تكون المصيبة كارثية على الأطفال، دعك من والدهم. ربما تندم هذه المرأة لاحقا، قد يكون سبب ذلك اقتناعها أنه كان من المستحسن لها أن توافق بين حريتها الغربية وزوجها الذكوري. لكن لا ينفع هذا الندم بعد أن فات الأوان.
نسبة واسعة من مجتمعنا الكوردي يدرج بين هذه المجتمعات، على خلفية الثقافات الدخيلة، وخاصة الإسلامية التي لا تزال تعاني من ثقافة العصر العربي الجاهلي، وهي سمة تتعارض مع ثقافة الشعب الكوردي الأصيلة وحتى مع روحانيات دياناته القديمة، علما أن بعض الفقهاء يدعون إن الإسلام أعطى المرأة حقوقها الكاملة وأحيانا أكثر من الرجل، ربما هذه في النظرية والنص، وأنا أشك فيها، ولكنني لا أجزم لأنني لست ضليعا في الفقه والشرع، لكن في الواقع العملي يتبين عكس النص، ومظاهر الحياة الاجتماعية في الدول الإسلامية خير مثال. وما يجري في جنوب كوردستان ومؤتمرات تلبيس المرأة الحجاب، القاصرات بشكل خاص، تقليد لثقافة تلك الدول الرائدة في تطبيق الشريعة، والحجاب هي بداية إقناع المرأة بالرضوخ لقوانين الرجل، وعلى أنها عورة، وما أبشع هذه الكلمة من حيث المعنى والمضمون، علما أن الحجاب كان في العصور الوسطى نوع من الأرستقراطية وتعال على الرجل، وحصانة سلبية في الديانة المسيحية تكاد تشبه الحجاب في الإسلام.
قبل عدة عقود كانت المرأة في الدول الحضارية الأن، تعاني من غبن كارثي لا يقل عما هي عليه الدول المتخلفة الأن وعلى رأسها الإسلامية، كعدم السماح لهن بالتصويت والترشيح لمناصب سياسية، كانت ولا تزال الرواتب غير متعادلة، ونتذكر كيف أن بعض الروائيات لم يكتبن أسماؤهن على رواياتهن لأن الكتابة كانت تجلب العار للعائلة، وقصص نساء عائلة برونتي معروفة للجميع، ولا زالت رواسب التمييز موجودة لكن مع ذلك المرأة في مجتمعات هذه الدول تجاوزت مرحلة المطالبة بحقوقهن إلى مرحلة فرض الذات، ليس فقط لأنها كسبت المعركة بذاتها ورسختها في الدساتير بل لأن حركات التنوير زرعت الثقافة الحضارية وهذه بدورها خلقت طفرة في ذهنية الرجل، وأصبحت المعادلة تعرض ليست عن الحقوق على أنها غير كاملة؛ بل حول التقدير بما تقدمه المرأة للمجتمع، بعكس حقوقها في المجتمعات الإسلامية التي لا زالت تملك نصف حق الرجل في الوراثة وكشاهدة وغيرها، وهذه المعادلة تعتبر جريمة قانونية في المجتمعات الحضارية.
تضخيم الدفاع عن المرأة وحقوقها، وعيدها، دون تنوير المفاهيم، ومن باب المطالبة بحقوقها وليس تقديرها، بأكثر من المطلوب انتقاص من قيمتها، والتفخيم الزائد لواقع معروف يؤدي إلى تكوين حالة عكسية، فالمرأة في المجتمعات الحضارية بلغت مراحل متطورة من المساواة، تقدم لها الهدايا ومن النادر يتم الحديث عن حقوقها. والتذكير المكرر لواقع معروف لدى الجميع، بأن المرأة هي الأم والأخت والزوجة والبناء عليه لقول ما يراد قوله، جدلية ساذجة، تظهر هشة وبدون تأثير على الرجل، والمحاولة من خلالها في إعادة تبيان ما قدمته وتقدمه للعائلة والمجتمع فاشلة على الأغلب، لأن جلها يجب أن توجه لإقناع الذات قبل المرأة.
الأغلبية تتناسى الجدلية البيولوجية والنفسية، ولا يتم دراستها من أبعادها المنطقية وحيث التكوين الأبدي للمرأة والرجل، تنجح في كتابة الدساتير ووضع القوانين، لكنها تفشل في خلق التوازن بين الجنسين، وبأنه لكل طرف حدود لقدراته، فكما هو معروف هناك مجالات لا تجد المرأة ذاتها فيها، ومن النادر أن تقتحمها، النظرة عامة ولا تعني عدم وجود استثناءات، كما وللرجل سمات تعزله عن أداء أدوار في المجتمع، مع عدم تغييب المراحل الزمنية الطويلة التي مرت بها البشرية، ووضعت الظروف المعيشية المسايرة مع التكوين البيولوجي المكونين في مناطق عملية مختلفة؛ كل يبدع فيها بشكل أفضل وأنسب للتطور الاجتماعي وللإنسانية عامة.

الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
10/3/2024م

شارك هذه المقالة على المنصات التالية