بقلم: دحام السطام
في خضم التحولات العميقة التي تشهدها سوريا منذ أكثر من عقد، برزت قضية الهوية الوطنية كإحدى أهم القضايا المُلحّة التي تستدعي النقاش والتأمل. فالهوية الوطنية، بما تمثله من سمات وخصائص مميزة للأمة، تواجه تحديات جسيمة في ظل الصراعات والانقسامات التي عصفت بالبلاد. هذه التحديات لم تقتصر على الجانب السياسي فحسب، بل امتدت لتشمل النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع السوري بأكمله، مما يستدعي وقفة جادة لإعادة النظر في مفهوم الهوية الوطنية وسُبل تعزيزها في ظل الظروف الراهنة.
الهوية الوطنية وتداعيات التطرّف
تشكّل الهوية الوطنية السورية مزيجاً فريداً من عناصر متعددة، كالموقع الجغرافي والتاريخ المشترك والاقتصاد والحقوق والواجبات المشتركة. هذا المزيج الفريد يعكس ثراء التجربة السورية عبر التاريخ، حيث تفاعلت حضارات وثقافات متنوعة لتشكّل نسيجاً اجتماعياً فريداً. غير أن التنوع اللغوي والثقافي للمكونات السورية يجعل من الصعب اعتبار اللغة عنصراً أساسياً في هذه الهوية، إذ تحتفظ مجموعات عديدة كالشركس والأرمن والكُرد بلغاتها وتقاليدها الخاصة. هذا التنوع، الذي كان يوماً مصدر قوة وغنى للمجتمع السوري، أصبح في ظل الأزمة الراهنة تحدّياً يتطلب معالجة حكيمة لضمان تماسك النسيج الوطني.
يشكّل الفكر المتطرف أحد أخطر التهديدات للهوية الوطنية السورية. فطبيعته الإقصائية والإلغائية تتعارض بشكل جذري مع التنوّع الذي يميّز المجتمع السوري. هذا التطرف لم يقتصر على جماعات بعينها، بل امتد ليشمل أطيافاً متعددة من المجتمع، مما زاد من حدّة الانقسامات وعمق الشروخ في الهوية الوطنية. ولا يقتصر هذا التطرف على الجانب الديني فحسب، بل يمتد ليشمل التطرّف السياسي الاستبدادي، كما تجلى في تجربة حزب البعث الحاكم، الذي مارس سياسات أدت إلى تهميش فئات واسعة من المجتمع وإضعاف الشعور بالانتماء الوطني.
ملامح الهوية الوطنية السورية الراهنة
لقد أدى الخراب الشامل الذي أصاب سوريا على كافة المستويات إلى تشويه ملامح الهوية الوطنية وجعلها ضبابية. هذا الخراب لم يقتصر على البنى التحتية والمؤسسات، بل امتد ليطال القيم والروابط الاجتماعية التي كانت تشكّل أساس الهوية الوطنية. وتجدر الإشارة إلى أن جذور هذه الأزمة تمتد إلى ما قبل عام 2011، حيث ساهمت تراكمات الاستبداد في ترسيخ ثقافة العنف وخلق بيئة حاضنة للتطرف. هذه التراكمات أدت إلى تآكل تدريجي في الشعور بالانتماء الوطني وإضعاف الروابط بين مختلف مكونات المجتمع السوري.
كما أن الذهنية الشمولية التي قيّدت حريات بعض مكونات المجتمع السوري وحرمتها من ممارسة نشاطها الثقافي، إضافة إلى تغيير أسماء المدن، أدت إلى إضعاف شعور هذه المكونات بالانتماء للهوية السورية الجامعة. هذه السياسات، التي استمرت لعقود، خلقت شرخاً عميقاً في النسيج الاجتماعي وأسهمت في تعميق الشعور بالاغتراب لدى فئات واسعة من المجتمع، مما جعل مهمة إعادة بناء هوية وطنية جامعة أكثر تعقيداً وصعوبة.
نحو إعادة إنتاج الهوية الوطنية
لإعادة بناء هوية وطنية سورية جامعة، لا بد من إعادة قراءة التاريخ والواقع الحالي بموضوعية، مع الأخذ بعين الاعتبار الانقسامات الحادة في المجتمع والتصدعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. هذه العملية تتطلب جهداً كبيراً وحواراً وطنياً شاملاً يضمّ كافة أطياف المجتمع السوري، بهدف الوصول إلى فهمٍ مشترك للهوية الوطنية وسُبل تعزيزها. ويتطلب ذلك وضع برامج واضحة تبدأ بإعادة هيكلة التعليم وبناء وعي منفتح على الآخر، مع رفض الخطاب المحرّض على الكراهية. هذه البرامج يجب أن تركّز على تعزيز قيم المواطنة والتسامح والتعايش، وأن تسعى لخلق مساحات للحوار والتفاهم بين مختلف المكونات السورية.
من الضروري تبني هوية وطنية جامعة بأبعادها القانونية والثقافية والسياسية والاجتماعية، تقوم على مبدأ الحيادية وتحترم التنوع. هذه الهوية يجب أن تكون قادرة على استيعاب التنوع الثقافي والديني والعِرقي في سوريا، وأن تعمل على تحويل هذا التنوع من مصدر للصراع إلى مصدر للثراء والقوة. فوعي الفرد بقيمة الانفتاح على جوهر الهوية هو ما يُزيد من فاعليتها ويجعلها واقعاً حيّاً، قادرًا على مواجهة التحديات وبناء مستقبل أفضل لسوريا.
تحديات إعادة إنتاج الهوية الوطنية السورية
تواجه عملية إعادة إنتاج الهوية الوطنية السورية تحديات عديدة، أبرزها التحدي الثقافي والمعرفي المتمثل في انتشار الأفكار المتطرفة والتراجع التعليمي. هذا التحدي يتطلب جهوداً كبيرة في مجال التعليم وإعادة بناء المنظومة الثقافية بما يعزز قيم التسامح والانفتاح. كما يشكّل التحدي الاقتصادي، بما يتضمنه من تدني مستوى المعيشة وانتشار البطالة والتضخم، عقبة كبيرة أمام هذه العملية. فالظروف الاقتصادية الصعبة تدفع الكثيرينَ للتركيز على تأمين احتياجاتهم الأساسية على حساب الاهتمام بالقضايا الوطنية الأوسع.
يضاف إلى ذلك تحدي الانقسام السياسي والاجتماعي العميق، وتأثير التدخّلات الخارجية على النسيج الوطني. هذه الانقسامات، التي تعمقت خلال سنوات الصراع، تشكّل عائقاً كبيراً أمام بناء هوية وطنية جامعة. كما تشكّل قضية اللاجئين والنازحين وإعادة إدماجهم في المجتمع تحدّياً إضافياً يتطلب معالجة حساسة وشاملة. فإعادة دمج هؤلاء في النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلاد يُعد أمراً حيوياً لضمان استقرار المجتمع وتماسكه على المدى الطويل.
في الختام، تبقى مسألة إعادة بناء الهوية الوطنية السورية مهمة حيوية ومُلحّة لمستقبل البلاد. وهي عملية تتطلب جهوداً متضافرة من كافة مكونات المجتمع السوري، مع ضرورة تبني نهج شامل يحترم التنوع ويعزز قيم المواطنة والانتماء. هذه العملية ليست سهلة ولا سريعة، بل تتطلب صبراً وإرادة قوية للتغلّب على التحديات العديدة التي تواجهها. فقط من خلال هذا المسار يمكن لسوريا أن تتجاوز محنتها الراهنة وتعيد بناء هويتها الوطنية على أسس متينة تضمن مستقبلاً أكثر استقراراً وازدهاراً لجميع أبنائها. وفي النهاية، فإن نجاح سوريا في إعادة بناء هويتها الوطنية سيكون نموذجاً يُحتذى به في منطقةٍ تعاني من صراعات وانقسامات مماثلة.
دحام السطام
الرئيس المشترك لمكتب العلاقات في مجلس سوريا الديمقراطية في الجزيرة
المصدر: مجلس سوريا الديمقراطية “مسد”
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=50589