مقدّمة
شهدت مدينة منبج جدلاً متزايداً حول المناهج الدراسية المعتمدة من قبل الإدارة الذاتية، وسط مطالبات متباينة بين التمسّك بالمناهج الحالية وبين الدعوة للعودة إلى مناهج النظام السوري. ينعكس هذا الجدل على الساحة الاجتماعية والتعليمية في المدينة؛ حيث يرى بعضهم أنّ المناهج الجديدة تسهم في تعزيز الهوية الثقافية والتعدّدية اللغوية، بينما يرى آخرون أنّه من السابق لأوانه تطبيق مناهج الإدارة الذاتية الجديدة في الوقت الراهن. بيد أنّ أيادٍ خفيةً هي مَن تقود الحراك وتوجّهه إلى مسار منحرف عمّا هو عليه في الظاهر، ويمتدّ إلى الأبعاد السياسية والتأثيرات الخارجية التي تلعب دوراً في تحريك هذه المسألة.
أولاً- بروباغندا التضخيم والتحريض:
بدأ الجدل الدائر حول المناهج التعليمية في منبج حين دعت مواقع التواصل الاجتماعي العائدة لأبواق الدولة التركية والنظام السوري إلى التحرّك ضدّ سياسة ”الإدارة الذاتية“ بعد توزيع مناهجها التعليمية في منبج في 18 سبتمبر/ أيلول، وذلك في إطار سعيها لاستكمال خطّتها السنوية الصادرة في عام 2021 والتي أقرّت خلالها توحيد منهاج التعليم الذي طُبّق سابقاً في الحسكة، ودير الزور، والرقة.
على أثر هذه الخطوة، بدأت مواقع التواصل الاجتماعي تلك بسياسة التحريض وبثّ الفتنة، من خلال خطاب قائم على العنف والكراهية، هدفه إثارة مشاعر الأهالي وتحفيزهم على رفض المناهج الجديدة التي اعتمدتها الإدارة الذاتية. ونتيجة لذلك؛ شهدت منبج أولى المظاهرات يوم الجمعة، الرابع من أكتوبر/ تشرين الأول، والتي تبعتها مظاهرات وإضرابات أخرى في الجمعة التالية، في تصعيد واضح أنّ مَن تموّل تلك الأجندات والتحرّكات إنّما هي مدفوعة بعوامل خارجية واستغلال الأوضاع الراهنة لتحقيق مكاسب سياسية معيّنة.
ووظّفت مواقع التواصل الاجتماعي تلك قضية توزيع المناهج التعليمية من قبل الإدارة الذاتية وجعلتها محوراً للصراع السياسي والاجتماعي في المنطقة، عبر التلاعب بالوعي الجمعي للأهالي لتأجيج الرأي العام ضدّ الإدارة الذاتية، وترويعهم من عملية تغيير المنهاج على نحو يخالف المعتاد وتوظيفه كورقة ضغط للتشكيك في سياسات الإدارة الذاتية التعليمية، واتّهامها بفرض مناهج تتماشى مع توجّهاتها السياسية، خاصة في منبج التي لا تزال العديد من مدارسها تدرّس مناهج النظام السوري حتى الآن.
ثانياً- حقائق حول مناهج النظام السوري:
قبل أن تحرّر الإدارة الذاتية مدينة منبج من تنظيم داعش، كانت تخضع لسيطرة النظام السوري الذي فرض سياسات تعليمية تتماشى مع أهداف حزب البعث القومية والإيديولوجية منذ توليه السلطة، واتّسم التعليم، بما في ذلك مناهجه من امتحانات وزارية وشهادات، بالمركزية المطلقة وخضوعه لسيطرة الحكومة في دمشق، حيث تركّز المناهج على تمجيد النظام ورموزه، خاصة “الرئيس الأسد” وقيادات حزب البعث؛ وهو ما أدّى لتحويل التعليم لأداة للسيطرة السياسية والفكرية، في مقابل تجاهل قضايا التنمية البشرية والمواطنة الديمقراطية.
كما وتركّز المناهج الدراسية لدى النظام السوري على إحياء اللغة العربية، والتاريخ السوري الموجّه، وقيم النظام الحاكم؛ ما جعل التعليم أداة لتثبيت الهوية البعثية. وانصبّ التعليم على خلق وتشكيل ”مواطن ملتزم“ بالخطاب القومي العربي وتهميش التنوع الثقافي والإثني الذي تتميّز به سوريا، خصوصاً في مناطق مثل منبج التي تضمّ تركيبة سكانية متنوّعة، بما في ذلك العرب والكرد والشركس والتركمان والأرمن.
واعتمد النظام السوري منذ الثمانينيات سياسة قومية عربية صارمة، أدّت إلى تهميش كبير للغات والثقافات غير العربية؛ فعلى سبيل المثال، كان تعليم اللغة الكردية محظوراً بشكل كامل، وتم تجاهل التراث الثقافي الكردي، ما خلق حالة من التهميش والحرمان الثقافي للعديد من المكوّنات الإثنية في منبج والمناطق المجاورة، وأدّت إلى شعور بالاغتراب لدى شريحة كبيرة من السكان الذين لم يروا أنفسهم ممثّلين في المناهج التعليمية، بالأخص لدى الأطفال والشباب الذين لم يشعروا بالانتماء إلى المناهج التي تفرض هوية قومية عربية أحادية.
واتّسمت البيئة التعليمية بضعف البنية التحتية من ناحية قلة عدد المدارس وغياب أسس التعليم الحديث والمتطوّر، كما كانت تعاني من الاكتظاظ، ونقص المواد التعليمية الأساسية، وضعف تدريب المعلمين؛ الأمر الذي انعكس سلباً على جودة التعليم؛ حيث كانت العملية التعليمية محدودة في محتواها ولا تواكب التطوّرات الحديثة في طرق التدريس أو المنهجيات التربوية، ناهيك عن افتقاره إلى التنوّع أو الشمولية في تناول قضايا الهوية والثقافات المختلفة التي تميّز المجتمع السوري.
بعد خروج مدينة منبج من سيطرة النظام السوري في عام 2012، انتقلت إلى حكم فصائل الجيش الوطني، التي لم تولِ أي اهتمام بالتعليم لمدّة تجاوزت العام؛ بسبب التناحر والاقتتال ووضعهم اليد على المدارس وجعلها مراكز أو مقرّات عسكرية. ثم انتقلت السيطرة بعد ذلك إلى تنظيم داعش، الذي أوقف التعليم العام في المدارس بشكل كامل، وحصره بتنظيم دورات شرعية إجبارية للمخالفين لقواعده. وعلى العموم تركّز التعليم خلال هذه الفترة السابقة على تعزيز الفكر المتطرّف وكان هناك تعصّب متفاوت حتى في شرائح مختلفة من أهالي منبج؛ ما أدّى إلى تدهور النظام التعليمي في مدينة منبج وإبعاده عن مسار التعليم المدني والعلمي.
عقب ذلك، نجحت قوات سوريا الديمقراطية في تحرير مدينة منبج، حيث وقفت أمام تحدّيات جسيمة تتعلّق بإعادة هيكلة النظام التعليمي من جديد، كان الهدف منها إرساء نظام تعليمي شامل يلبّي احتياجات سكان المنطقة المتنوّعين ثقافياً ولغوياً، وقد بدأ الأمر بخطوة محورية تتمثّل في مراجعة المناهج الدراسية، وذلك لتقديم محتوى تعليمي يعكس الغنى الثقافي والتنوّع اللغوي من أجل بناء بيئة تعليمية تعزّز الهوية الثقافية وتساهم في تعزيز الانتماء المجتمعي.
ثالثاً- تطبيق مناهج الإدارة الذاتية:
تُولي الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا اهتماماً بالغاً بالتعليم كنموذج متطوّر لبناء مجتمع متماسك ومتعدّد الثقافات؛ حيث اتّخذت خطوة استراتيجية بارزة تتمثّل في إعادة صياغة المناهج التعليمية في المناطق الخاضعة لإدارتها، كجزء من جهود شاملة لتطوير النظام التعليمي، ساعيةً لتقديم بديل حديث ومتجدّد للمنهجيات التقليدية التي لطالما اعتُمِدت في المدارس السورية في الفترة الماضية.
وتتجلّى أهمية جهود الإدارة الذاتية في سياق التحدّيات المتعدّدة التي يواجهها النظام التعليمي، والتي تشمل إعادة بناء البنية التحتية التعليمية التي تضرّرت جراء سنوات من الصراع العنيف، لاسيّما عشرات المدارس المدمّرة وحالات تسرّب للطلاب في كثير من مراحل التعليم؛ فإعادة الإعمار لا تقتصر فقط على الجوانب المادية، بل تتعدّاها لتشمل أيضاً تطوير مناهج تتفاعل مع الواقع الثقافي واللغوي الغني الذي يميّز هذه المناطق.
تغطّي المناهج الجديدة لدى الإدارة الذاتية جميع مراحل التعليم المختلفة، ابتداءً من التعليم الابتدائي، مروراً بالإعدادي، وانتهاءً بالتعليم الثانوي الذي يركّز على التنوّع الثقافي واللغوي في المنطقة، حيث تُدرّس المواد الأساسية باللغات العربية والكردية، إضافة إلى السريانية في مناطق أخرى. ويهدف هذا التوجّه إلى تعزيز الوحدة بين مكوّنات المجتمع، مع احترام هوياتهم اللغوية والثقافية التي تعدّ من الأساسيات التي تسعى إليها الإدارة الذاتية لضمان منهاج إبداعي وفريد من نوعه، وتكوين بيئة تعليمية تسهم في تعزيز الانتماء والتفاهم بين مختلف الأطياف.
وتأمل الإدارة الذاتية من خلال توحيد مناهجها الدراسية في زرع بذور السلام والاستقرار في المنطقة من خلال التعليم؛ حيث يُنظر إلى المناهج الجديدة كأداة فعّالة لنقل المعرفة وتعزيز القيم الإنسانية والمجتمعية، وبذلك تكون الإدارة الذاتية قد خطت خطوة مهمة نحو تحقيق رؤيتها لبناء مجتمع متطوّر ومزدهر.

أهداف المناهج الدراسية للإدارة الذاتية:
تسعى المناهج الجديدة التي وضعتها الإدارة الذاتية إلى تحقيق عدة أهداف متنوّعة، يمكن تلخيصها على النحو التالي:
1- ترسيخ الهوية المحلية: تسعى الإدارة الذاتية من خلال مناهجها الدراسية إلى تعزيز الهوية الثقافية، كمحاولة لتعويض ما تعتبره نقصاً وإقصاء لبعض القوميات والإثنيات في المناهج الرسمية التقليدية؛ إذ تهمل الأخيرة التاريخ المحلّي والتراث الثقافي الفريد للشعوب الكردية والسريانية والإيزيدية، حيث تشمل المناهج الجديدة مواد دراسية مخصّصة لتعليم الطلّاب عن تاريخ المنطقة، بما في ذلك الحروب والصراعات والتأثيرات الثقافية التي شكّلت حاضرهم في سوريا والشرق الأوسط، إضافة إلى التركيز على القيم الاجتماعية المشتركة.
2- التعليم متعدّد اللغات: تقدّم المناهج الدراسية الجديدة نموذجاً فريداً للتعليم متعدّد اللغات، حيث يتم تدريس الطلاب بلغاتهم الأم، ما يعدّ تحوّلاً جوهرياً في السياسة التعليمية، خاصة أنّ التعليم باللغة الأم يعزّز من قدرة الطلاب على الاستيعاب والفهم، ويخلق بيئة تعليمية أكثر شمولية. كذلك يُعتبَر هذا التوجّه اعترافاً بأهمية الحفاظ على اللغة والثقافة لكل مجموعة سكانية، وهو جزء من سياسة الإدارة الذاتية لتعزيز التنوّع والاندماج.
3- التقييم المستمر بدلاً من الامتحانات النهائية: من أبرز ميزات النظام التعليمي الجديد الذي تطبّقه الإدارة الذاتية هو الانتقال من نظام التقييم القائم على الامتحانات النهائية التقليدية إلى نظام التقييم المستمر الذي يعتمد على متابعة تقدّم الطالب طوال العام الدراسي من خلال أداء الواجبات، والمشاريع البحثية، والأنشطة الصفية، ما يعكس رغبة الإدارة الذاتية في الابتعاد عن التوتّر النفسي الذي تسبّبه الامتحانات النهائية ويركّز على مهارات التفكير النقدي وحلّ المشكلات.
4- مواد تعليمية متخصّصة: تشمل المناهج الجديدة مواد تعليمية متخصّصة تعكس أولويات الإدارة الذاتية، مثل ”الجغرافيا والتاريخ المحلي“، ما يعزّز الوعي بالبيئة المحيطة والتراث الثقافي، كما تتضمّن موادّ عن ”الثقافة والأخلاق“ لتعزيز القيم المجتمعية، و”علم الجنولوجيا“ الذي يركّز على دراسة المرأة ودورها في المجتمع، بالإضافة إلى ”التربية الإسلامية“ التي يتم تناولها من منظور فلسفي يركّز على التسامح والاعتدال.
-التحديات التي تواجه النظام التعليمي:
لا شكّ في أنّ توحيد المناهج الدراسية خطوة كبيرة نحو تعزيز التعليم وتقديم تجربة جديدة، ولكنّها لا تزال تواجه تحديات كبيرة يجب التعامل معها من أجل ضمان نجاح النظام التعليمي الجديد، وهذه التحدّيات على النحو الآتي:
1- الاعتراف بالمناهج الدراسية:
على الرغم من الجهود المبذولة لتطوير المناهج الدراسية، لا يزال عدم الاعتراف الرسمي بها يشكّل عائقاً كبيراً، على اعتبار أنّ مسألة الاعتراف مرتبط بتسوية الملف السوري عموماً. قضية الاعتراف بشهادات الطلاب تكتسب أهمية كبيرة لتمكينهم من متابعة دراساتهم أو دخول سوق العمل خارج المناطق التي تخضع لسيطرة الإدارة الذاتية، وقد يتحقّق هذا الاعتراف بشكل تدريجي، هذا التحدي يشكّل إحدى أبرز العقبات التي تسعى الإدارة الذاتية إلى معالجتها من خلال تحسين جودة التعليم وتعزيز التواصل مع المنظّمات الدولية والحكومات الأجنبية في المستقبل.
2- كفاءة الكوادر التدريسية:
في الوقت الذي حقّقت فيه الإدارة الذاتية تقدّماً في تحديث المناهج الدراسية في وقت قصير، إلّا أنّه لا تزال هناك نواقص فيما يتعلّق بكفاءة الكوادر التدريسية والتربوية، خاصة في المراحل الابتدائية؛ كون الإدارة الذاتية حديثة العهد، والعمل جارٍ على رفد التعليم بتخصّصات حسب احتياجات كل منطقة. ويتطلب تطبيق المناهج الدراسية الجديدة معايير عالية في التعليم، ما دفع هيئة التربية والتعليم في شمال وشرق سوريا إلى تنظيم دورات تدريبية مكثّفة لتحسين مهارات المعلّمين وتحديث أساليب التدريس؛ بهدف سدّ الثغرات وتعزيز كفاءة المعلّمين بما يتناسب مع متطلّبات النظام التعليمي الجديد.
3- التعاون الدولي في مجال التعليم:
إنّ حداثة عهد الإدارة الذاتية لم يمنعها من توسيع علاقاتها مع مختلف دول العالم من أجل تطوير الناحية التعليمية، حيث كانت هناك عقود تبادل للخبرات العلمية مع دول من مثل ألمانيا والولايات المتحدة في مجال التعليم. كما شهدت المنطقة زيارة وفود من هيئة التربية والتعليم لتلك الدول للاستفادة من خبراتها التعليمية، إلى جانب التوصّل إلى اتفاقات عديدة لتعزيز التعاون في نقل تجارب تعليمية متقدّمة وتطبيقها في المنطقة. لكن لا يزال توسيع وتعميم التجربة محلّ اختبار مع هذه الشراكات التي تهدف إلى تطوير جودة التعليم وتحسين المناهج، على أمل أن يسهم هذا التعاون في تحقيق الاعتراف الدولي بالمناهج الجديدة وتعزيز مستقبل النظام التعليمي في شمال وشرق سوريا.
رابعاً- التحرّكات ضدّ مناهج الإدارة الذاتية:
التحرّكات التي شهدتها مناطق الإدارة الذاتية ضدّ المناهج التعليمية الجديدة تقودها عدّة أطراف، تختلف أهدافها ودوافعها بناءً على مصالحها السياسية أو الاجتماعية. ومن أبرز هذه الأطراف ما يلي:
1- الحكومة السورية: تعدّ الحكومة السورية المستفيد الأول من هذا الحراك؛ إذ تلعب دوراً رئيسياً في معارضة مناهج الإدارة الذاتية، كما وترفض الاعتراف بهذه المناهج، وتعتبرها تحدّياً لسلطتها المركزية على نظام التعليم في سوريا، وسعيه إلى فرض مناهجه الرسمية على جميع المناطق، بما في ذلك تلك التي تديرها الإدارة الذاتية، باعتبار ذلك جزءاً من الحفاظ على سيادته الوطنية، أو على الأقلّ كوسيلة للإبقاء على رابط يضمن استمرارية التواصل مع هذه المناطق، كما يُقال ”بقاء شعرة معاوية“.
2- جماعة الضغط: يشارك في هذه التحرّكات بعض الأجندة المحسوبة على تيار اليمين المتطرّف، أو هم بالمعنى الحقيقي ”لوبي“ يقوده منظّرون من مواقع التواصل الاجتماعي رافضون لأي سياسات ديمقراطية تنتهجها الإدارة الذاتية، وينسحب هذا الأمر على عدد من القضايا الأخرى في المجتمع؛ من مثل قيادة المرأة ومشاركتها في المناصب الإدارية. ويعترض هؤلاء على التعليم الذي تتبنّاه الإدارة الذاتية من كون المادة العلمية تقدّم على أساس اعتبارها ليست من الحقائق المطلقة وضرورة المعرفة بالرأي الآخر.
3- أجندة خارجية: تقود جماعات معارضة للإدارة الذاتية مدعومة من تركيا وإيران وجماعاتهما المسلحة هذا الحراك الذي يخدم أهدافاً سياسية محدّدة، تتعلّق بتأليب الرأي العام وزرع بذور الفتنة من أجل انقلابه على الإدارة الذاتية، فمن شأن ذلك تقويض جهود الإدارة الذاتية في هذا السياق على اعتبار أنّها تتقاطع مع مصالحها في معارضة سياسة الإدارة الذاتية، حيث تسعى للضغط من أجل العودة إلى المناهج التقليدية التي كانت معتمَدة سابقاً.
خامساً- الأبعاد السياسية المخفية وراء التحرّكات:
يبدو أنّ التركيز على المناهج التعليمية هو جزء من معركة سياسية أكبر، حيث يتم استخدام التعليم كأداة لتوجيه الصراع بين الأطراف المتنافسة على مستقبل المنطقة؛ فالتحرّكات ضد مناهج الإدارة الذاتية تحمل أبعاداً سياسية واضحة، تعكس صراعاً أعمق بين الأطراف المتنافسة على السيطرة والنفوذ في المنطقة. بالنسبة لبعض القوى، مثل الحكومة السورية وحلفائها، يمثّل التعليم وسيلة مهمة لبسط النفوذ واستعادة السيطرة على المناطق الخارجة عن سيطرتها؛ فالمطالبة بعودة مناهج النظام السوري يمكن فهمها في هذا السياق كجزء من جهود الحكومة السورية لإعادة فرض سلطتها على المناهج والعملية التعليمية.
ويلعب النظام السوري دوراً رئيسياً في التحريض ضدّ المناهج الجديدة التي قدّمتها الإدارة الذاتية، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك والانستغرام، عبر بثّ الدعايات المضلّلة وتضخيم خطاب الكراهية وبثّ الفتنة بين مكوّنات الشعب وخلق إرهاصات لا مبرّر لها أصلاً. ويعتبر النظام السوري أنّ هذه المناهج تشكّل تحدّياً مباشراً لسلطته وشرعيته في المنطقة؛ حيث استغلّ مؤخّراً هذه الأوضاع بإرسال شحنات من الكتب المدرسية من معبر التايهة، في حين كان سابقاً يتخلّف عن إرساله الكتب للمدراس بشكل مستمر.
ويشحذ النظام السوري عبر أبواقه الإعلامية لإعادة فرض مناهجه التعليمية، بهدف استعادة نفوذه في المناطق التي فقدها منذ بداية الحرب، كذلك يستغلّ النظام الهيجان القَبَلي العشائري في منبج لبث المشاعر القومية والاهتمام بمستقبل الطلاب لتأليب الرأي العام ضدّ الإدارة الذاتية، مشكّكاً في جودة مناهجها، ويروّج لحجج مثل عدم اعتراف الجامعات الدولية بها، ومؤكّداً على أهمية توحيد التعليم تحت سيطرة الدولة السورية.
على الجانب الآخر؛ تسعى بعض أطراف المعارضة المسلحة التابعة لتركيا، التي تمتلك نفوذاً داخل منبج وتعمل وفق أجندتها التوسّعية، إلى تقويض شرعية مشروع الإدارة الذاتية أو ”الأمة الديمقراطية“ من خلال استهداف القطاع التعليمي، وتستخدم هذه الأطراف الحرب الخاصة وأدواتها المسمومة للتشكيك في المناهج التعليمية التي تقدّمها الإدارة الذاتية، كما تقوم بتضخيم المشكلات أو التحدّيات التي تواجه العملية التعليمية لتقديم صورة سلبية عن النظام التعليمي القائم، وزرع الشكوك حول قدرة الإدارة الذاتية على توفير تعليم مُستدام وذي جودة عالية، وبالتالي؛ هدفها الأساسي تقويض شرعيتها وإضعاف الثقة الشعبية بمؤسساتها، عبر التحريض على الإدارة الذاتية باستخدام قضية التعليم كأداة ضغط فعّالة لتحقيق أهدافها السياسية.
سادساً- السيناريوهات المستقبلية:
رغم إصدار الإدارة الذاتية الديمقراطية في منبج قرارات بشأن تطبيق مناهجها الدراسية على أثر دعوات للمظاهرات، غير أنّها عقدت لقاءات واجتماعات موسّعة مع مختلف فئات المجتمع؛ وأوضح القرار أنّه إلى حين تحسين البنية التحتية اللازمة لتطبيق المنهاج الجديد، واستجابةً لمقترحات وآراء أولياء الأمور، قرّرت الإدارة الذاتية الاستمرار في العملية التعليمية وفق المنهاج المعتمَد سابقاً، مع إضافة بعض المواد الجديدة إليه من منهاج الإدارة الذاتية، وعلى الرغم من أنّ القرار قد حدّد شكل التوجّه المستقبلي للتعامل مع جدلية المناهج الدراسية في مدينة منبج، إلّا أنّ ذلك لا يمنع من تحديد خيارين لتعامل الإدارة الذاتية مع مناهج التعليم، والتي يمكن تنفيذها على النحو التالي:
1- تعزيز الحوار والتفاوض مع المجتمع:
تدرك الإدارة الذاتية أنّ فتح قنوات حوار مع المجتمع المحلّي للقبول بالمناهج التعليمية الجديدة يمثّل خطوة استراتيجية أساسية لضمان نجاح هذه المناهج واندماجها في الحياة التعليمية، وهو ما نصّ عليه قرارها بالعودة للمناهج السابقة بعد عقد عدّة اجتماعات مختلفة مع أصحاب الشأن وذوي الأهالي. وتنطلق الإدارة الذاتية في توجّهها من أنّ الفهم والوعي يعدّ خطوة مهمة لتعزيز فهم الناس لأهداف المناهج الجديدة وأهميتها، كما أنّه بإمكانها تنظيم ورش عمل وندوات، يمكن للمعنيين توضيح كيفية تأثير هذه المناهج على مستقبل الطلاب وتعزيز الهوية الثقافية، كما يساهم الحوار المفتوح في بناء الثقة بين الإدارة الذاتية والمجتمع؛ فعندما يشعر الناس بأنّ آراءهم ومخاوفهم مسموعة ومعتبرة، يصبحون أكثر انفتاحًا لقبول التغييرات.
2 – بناء شراكات للاعتراف بالمناهج الدراسية:
من خيارات الإدارة الذاتية لتطوير التعليم توسيع التعاون مع الدول والمنظمات الدولية المتخصّصة، مثل اليونيسكو ومنظمات المجتمع المدني، لتعزيز جودة المناهج وتبادل الخبرات، وقد يشمل ذلك تنفيذ مشاريع تعليمية مشتركة وورش عمل تدريبية تهدف إلى رفع كفاءة المعلّمين وتطوير أساليب التدريس، كما يمكن لهذه الشراكات أن تعزّز الشرعية الدولية لمناهج الإدارة الذاتية وتزيد من قبولها على الصعيدين المحلي والدولي، وهو ما يعزّز الثقة في النظام التعليمي ويضمن مستقبلاً أفضل للطلاب.

مركز روج آفا للدراسات الاستراتيجية

شارك هذه المقالة على المنصات التالية

تابعونا على غوغل نيوز
تابعونا على غوغل نيوز