الإثنين, يناير 20, 2025

“والي المدينة”.. ومضات سهيل عيساوي تضيء عوالم مكثّفة

صباح بشير

من بين ثنايا الكلمات وعبق الحبر، تشرق علينا باكورة أدبيّة جديدة للكاتب سهيل عيساوي، بعنوان: “والي المدينة”، وهي مجموعة قصصيّة قصيرة جدّا، تسافر بنا إلى عوالم مختلفة، تحلّق في سماء الواقع الاجتماعي والسّياسيّ الّذي نعيشه، وتحرّك الأحاسيس المختلفة في الوجدان.

سأقدّم في هذه المقالة لمحة موجزة عنها، أسلّط الضّوء على عوالمها المكثّفة؛ لنستكشف معا، أسلوب الكاتب في نسج هذه القصص، الّتي تشبه ومضات خاطفة تثير التّساؤلات وتحرّك المشاعر.

صدرت هذه المجموعة الّتي تضمّ ثمان وخمسين قصّة مختلفة، عن دار سهيل عيساوي للطّباعة والنّشر، وتقع في أربع وستّين صفحة من الحجم المتوسّط، يفتتحها الكاتب بالإهداء (ص3) فيكتب: “إلى عشّاق الشّمس، الّذين يحملون هموم النّاس البسطاء.. إلى أصحاب القلوب الكبيرة”.

من المعروف أنّ القصّة القصيرة جدّا تشبه ومضة خاطفة، تنير زوايا النّفس المظلمة؛ كنافذة صغيرة تطلّ على عوالم شاسعة، تثير في النّفس تساؤلات عميقة، وتغادرها معلّقة بين الأرض والسّماء، لتبحث عن إجابات في فضاءات الخيال.

هي صرخة في وجه الرّتابة، ولغز أدبيّ مثير، يخبّئ في طيّاته حكايات لا تحصى، تشعل الخيال وتطلق العنان للتّفكير والتّأويل، وهي فنّ يتقن لغة الإيجاز للتّعبير عن عوالم كاملة في سطور قليلة.

في هذه المجموعة، يضع عيساوي بصمته الخاصّة، يتركها في قلب القارئ، ليثير فيه مشاعر متضاربة، ويجبره على مواجهة ذاته، والتّفكّر في معنى الوجود ومآسي الحياة، وذلك عبر رحلة قصيرة، لكنّها عميقة بالمعنى، تكشف عن خبايا الحياة وأسرارها؛ كمرآة صغيرة تعكس واقعا كبيرا، وتلخّص حياة بأكملها في لحظة عابرة.

 

والي المدينة” كعنوان للمجموعة:

عنوان “والي المدينة” هو اختيار دقيق ومثير للاهتمام، فهو يحمل في طيّاته العديد من الدّلالات الّتي يمكن أن تتشعّب في اتّجاهات مختلفة.

هذا العنوان لا يقتصر على الإشارة إلى شخصيّة سياسيّة محدّدة، بل يتجاوز ذلك ليصبح رمزا يحمل العديد من المعاني، وأوّل ما يتبادر إلى الذّهن عند ذكر “والي المدينة” هو صورة الحاكم والقائد.

الوالي يمثّل السّلطة والقوّة، وهو شخصية محوريّة في أيّ مجتمع. يمكن لهذا العنوان أن يستخدم كرمز للسّلطة بشتّى أنواعها، سواء كانت سياسيّة أو اجتماعيّة أو دينيّة، والقصص في هذه المجموعة تتناول جوانب مختلفة من السّلطة، مثل تعسّفها، أو عدالتها، أو تأثيرها على حياة النّاس، تستكشف القصص أيضا الصراع بين السّلطة والفرد، وبين السّلطة والقيَم الأخلاقيّة.

“المدينة” في العنوان لا تشير فقط إلى مكان جغرافيّ، بل هي رمز للمجتمع بكلّ تعقيداته وتاريخه، فالقصص تتناول أيضا التّقاليد والعادات والقيَم الّتي تربط النّاس بمدينتهم، وكيف تتفاعل هذه القيَم مع التغيّرات الاجتماعيّة والسّياسيّة.

صحيح أنّ والي المدينة يمثّل السّلطة، لكن.. يمكن أن تمثّل الشخصيّات الأخرى في القصص، الفرد الّذي يسعى إلى تحقيق ذاته في ظلّ هذه السّلطة، فالقصص تستكشف أيضا الصّراع بين الفرد والمجتمع، وبين الرّغبة في التّغيير والحفاظ على التّقاليد.

قصّة “طوشة (ص5)، تقدّم صورة مكثّفة لواقع اجتماعيّ معقّد، وتسلّط الضّوء على ظاهرة العنف، وانتشار ثقافة “الشّلليّة” بين فئة الشّباب.

تنطلق أحداث القصّة بخطىً سريعة، حيث يبدأ “المعتدي” بالتّحديق بالضّحيّة بنظرات حادّة تنذر بقدوم مواجهة وشيكة، ثمّ تنتقل إلى استدعاء المعتدي لأصدقائه عبر رسالة قصيرة في مجموعة “الصّقور الجارحة”؛ لتنتهي بالاعتداء الجماعيّ على “الضحيّة” دون سبب واضح. وبما أنّها قصّة قصيرة جدّا، فهي تركّز على سرد الأحداث بشكل سريع، دون التعمّق في وصف الشّخوص أو الخوض في تفاصيل البيئة المحيطة، لكنّ القارئ الفطن، يمكن له أن يستشفّها من خلال الإشارات الدّقيقة والإيحاءات المكثّفة الّتي وظّفت في النّصّ، الّذي صيغ بكلمات قليلة مختارة، ليجسّد بيئة محدّدة بأبعادها المكانيّة والزّمانيّة والاجتماعيّة.

تُظهِر القصّة شخصيّتين رئيسيّتين: “الضّحيّة” و”المعتدي”، دون الكشف عن أسمائهما أو خلفيّاتهما الشّخصيّة، مما يضفي على القصّة طابعا رمزيّا واضحا.

يعتمد الكاتب على لغة أدبيّة مباشرة، تناسب طبيعة الأحداث السّريعة والمكثّفة.  يستخدم بعض الصّور الفنّية؛ لإضفاء الحيويّة على السّرد، مثل تشبيه نظرة “المعتدي” بعين النّسر، ووصف الحارة بالضّيقة، واستخدام كلمة “الغضّ”؛ لوصف جسد الشاب “الضّحيّة” وعدم قدرته على مواجهة “المعتدي” ورفاقه.

يطرح هذا النّصّ قضية العنف بين الشّباب، يسلّط الضّوء على السّلوكيات العدوانيّة الّتي تنتج عن أسباب تافهة أو وهميّة، ويشير إلى خطورة ثقافة “العنف” الّتي تؤدّي إلى تكوين جماعات تمارس البلطجة على الآخرين، كما يبرز مفهوم “الهيمنة” الّتي تتمثّل في قدرة “المعتدي” على استدعاء أصدقائه؛ للوقوف معه حتّى في المواقف الّتي لا تحتاج لذلك.

يعتمد الرّاوي وجهة النّظر العليمة بشكل واضح، ناقلا لنا أفكار الشّخصيات ومشاعرها، كما لو أنّه ينظر إلى عوالمهم الدّاخليّة من نافذة شفّافة، فيمكّننا من  خلال رؤيته الشّاملة فهم تصرّفات شخوص العمل، مما يضفي على السّرد صبغة  من  الموضوعيّة، ويمنحنا نظرة أكثر عمقا على أبعاد القصّة وتفاصيلها الدّقيقة، الّتي تطرح بعض الظّواهر الاجتماعيّة السّلبيّة المنتشرة في مجتمعاتنا، مثل العنف والبلطجة وانعدام الأمن والاستهتار بالقانون.

يركّز النّص أيضا على غياب الحوار البنّاء والتّواصل بين الأفراد، واستخدام العنف كوسيلة لحلّ الخلافات، يقدّم لوحة رمزيّة مكثّفة تثير التّساؤلات حول السّلطة وسلوكها تجاه الأفراد.

يمكن النّظر إلى “المعتدي” في القصّة على أنّه انعكاس للسّلطة القمعيّة الّتي تمارس العنف دون وجه حقّ، وتسخّر قوّتها في تجييش الأنصار للقضاء على أيّ معارضة مثلا. كما توحي نظرة “المعتدي” الحادّة بعين السّلطة الّتي تراقب الأفراد وتلاحقهم، وتثير في نفوسهم الخوف والقلق.

مقابل ذلك، تجسّد “الضّحيّة” المواطن المقهور، الّذي يتعرّض للقمع والظّلم دون أن يستطيع الدّفاع عن نفسه.

كما يعبّر السّؤال عن سبب الاعتداء، عن حالة الضّياع والتّيه الّتي يعيشها الفرد في ظلّ الأنظمة القمعيّة، الّتي لا تقدّم تفسيرات أو مبرّرات لأفعالها، وتترك المواطن لمواجهة مصيره، يلملم جراحه بصمت.

تضفي عبارة “الحارة الضّيقة” بعدا رمزيّا آخر، حيث تشير إلى “المجتمع المقيّد”، الّذي يفتقر إلى الحريّة والتّعبير عن الرّأي، وتوحي “الحارة” بالتّضييق على الأفراد وعدم إتاحة المساحة الكافية لهم للتّحرّك والتّنفس، في ظلّ أجواء مشبعة بالخوف  والتّرهيب، تمثّلها “المفرقعات” الّتي تطلق؛ كأدوات للسّلطة في إخافة النّاس وقمعهم.

أيضا، يبرز غياب العدالة وانتشار الظّلم في المُجتمع، حيث يتعرّض النّاس للاعتداء دون أيّ ذنب، ثمّ يعبّر سبب الاعتداء “داس على خيالي” عن تفاهة الأسباب الّتي قد تؤدّي إلى ممارسة العنف، وانتشار هذه الثّقافة في المجتمع، وغطرسة البعض دون أيّ رادع أو محاسبة.

أيضا.. تطرح القصّة، قضيّة مهمّة وهي خطورة ثقافة “القطيع” الّتي تؤدّي إلى تبعيّة الأفراد للسّلطة الحاكمة، الاجتماعيّة أو السّياسيّة، دون تفكير أو تمحيص. ويمكن تفسير استجابة الشّباب لرسالة “المعتدي” على أنّها خضوع للسّلطة، وتنفيذ لأوامرها دون نقاش، مما يؤدّي إلى غياب الإرادة الفرديّة، وتحوّل الأفراد إلى أدوات طائعة، يُستَخدمون للقمع وإسكات الأصوات المعارضة.

تعتبر هذه القصّة مهمّة، لما تطرحه من قضايا حسّاسة، وتشكّل دعوة إلى التّفكير في أسباب العنف وطرق معالجته.

قصّة أخرى بعنوان “وطن” (ص47)، وهي تقدّم لوحة رمزيّة مؤثّرة عن سقوط وطن وأوجاعه، ويمكن أن يمثّل النّص الوطن نفسه أو المواطن المُتمسّك به، يحاول النّهوض رغم جراحه، ليعانق الحياة بكلّ مظاهرها: أبناؤه، الورد، النّجوم، الشّمس.

هذه الرّغبة في الحياة والتّجدّد، تتجلّى في الأفعال “يلعق”، “يضم”، “يشم”، “يعانق”، “يبتسم”، الّتي تعكس جميعها حالة من التّفاؤل والإيجابيّة، لكنّه يصطدم بواقع قاس، يرمز له “الحبال والسّكاكين والبارود”، هذه الأدوات الّتي ترمز للعنف والقمع تحول دون نهوضه وتدفعه للسّقوط.

“عتاب للشّمس” يعكس خيبة الأمل من قوى الخير الّتي تبدو عاجزة عن حمايته. أمّا “صندوق التّاريخ المتأرجح” فيشير إلى تراث الوطن وهويّته الّتي يحاول التشبّث بها رغم السّقوط.

القصّة مكثفة ومؤثّرة رغم قصرها الشّديد، واستخدام الرّموز يضفي عمقا على المعنى ويفتح الباب لتأويلات متعدّدة، والتّناقض بين رغبة الوطن في الحياة وأدوات القمع الّتي تواجهه، يخلق حالة من التوتّر الدّراميّ.

بشكلٍ عام، فقصّة “وطن”، ناجحة في تصوير معاناة الوطن بأسلوب مكثّف وشاعريّ.

أمّا قصّة “والي المدينة (ص21)، فعنوانها هو عنوان المجموعة، يوحي بوجود صلة وثيقة بين جميع القصص الّتي تدور تقريبا، حول ذات المحاور المطروحة في قصة “والي المدينة”، مثل السّلطة والقوّة، والتّاريخ والمجتمع، والفرد والجماعة، وبعض الممارسات والعادات والظّواهر الاجتماعيّة السلبيّة.. إلخ.

مع ذلك، فإن كلّ قصة تقدّم رؤية جديدة وشخصيّة لهذه المحاور، مما يجعل المجموعة ككلّ عملا متنوّعا.

“والي المدينة” هي قطعة أدبيّة تثير التّفكير حول طبيعة السّلطة والعدالة والانسانيّة، من خلال حكاية بسيطة عن حلم يراود الرّاوي، يتمكّن الكاتب من تقديم نقد لاذع لبعض الممارسات الاجتماعيّة المتجذّرة، وخاصّة تلك المتعلّقة بالعقاب الجسديّ.

تبدأ القصّة بوصف بسيط ليوم عادي ينقلب إلى عالم الأحلام، حيث يرى الرّاوي والي المدينة يأمر بقطع يد سارق. هذا الحلم، البسيط في ظاهره، يحمل رمزيّة عميقة. فـ”قطع اليد” لا يمثّل العقاب الجسديّ فقط، بل يرمز إلى العقاب الّذي كان سائدا في بعض المجتمعات، كما أنّ “السّوق القديم” الّذي يذكره الرّاوي يرمز إلى التّراث والتّقاليد المتوارثة، والّتي قد تحمل بعض الممارسات الباليّة القديمة.

 

إن غياب الكف بعد الاستيقاظ يجسّد فقدانا رمزيّا لشيء ثمين، وهو يدلّ على الخوف من المستقبل، والخوف من أن تتحوّل الأحلام إلى كوابيس.

هذا الحلم يعكس أيضا التوتّر بين الماضي والحاضر، حيث تتداخل تقاليد الماضي مع واقع الحاضر.

شخوص القصّة محدودة، لكنّها تحمل دلالات عميقة، فالرّاوي يصوّر الفرد البسيط الّذي يعكس مخاوف وهموم المجتمع، بينما يمثّل والي المدينة السّلطة والقوّة الّتي تتّخذ قرارات مصيريّة، أمّا السّارق فهو غائب بشكل مباشر، لكنّه حاضر في الوعيّ الجمعيّ كرمز للمجرم والمنحرف.

تتميّز القصّة بلغة بسيطة وواضحة، مما يسهل على القارئ استيعابها، لكنّها في الوقت نفسه تحمل عمقا فكريّا، إنّ استخدام الرّمزيّة والتّشبيه يضفي على القصّة جمالا أدبيّا.

أيضا، يمكن النّظر إلى هذه القصّة من زوايا متعدّدة، فهي نقد اجتماعيّ لاذع، وتساؤل فلسفيّ حول طبيعة العدالة، ودعوة إلى إعادة النّظر في بعض القيَم والتّقاليد المتوارثة، كما يمكن قراءتها على أنّها تعبير عن الخوف من المجهول، والرّغبة في التّغيير.

وبعد.. يمكن القول إنّ مجموعة “والي المدينة” تقدّم لنا قراءة نقديّة للمجتمع والإنسان، وتجمع بين الواقع والخيال، بين الماضي والحاضر.

ختاما، أبارك للأستاذ سهيل عيساوي هذا الإصدار وأشكره على الإهداء الجميل، وأتمنّى له مواصلة مسيرته الأدبيّة بالتّألّق والنّجاح.

 

شارك هذه المقالة على المنصات التالية