الإثنين, مارس 10, 2025

محمد شيخو… اللحن الحزين والصوت الثائر

دجوار أحمد آغا

ليس كل من غنّى أطرب المستمعين، فالطرب حالة وجدانية تصل بنا إلى مرحلة النشوة بعد الاستماع والاستمتاع بالموسيقا، والغناء والاندماج معه. الطرب حالة خاصة لا يمكن للمغنّي أو المؤدّي أن يصل بنا إلى الطرب كون هذه الحالة ترتبط بأشياء كثيرة من الثقافة والذوق والتذوق، فهي حالة عاطفية وليست مرتبطة بالفكر والذهن.

الشعب الكردي مثل بقية شعوب العالم، يزخر بالكثير من القامات الفنية الكبيرة وخاصة في مجال الفن سواء الموسيقا، والغناء، والرسم، وغيرها. بالنسبة للموسيقا والغناء، هناك العديد من كبار الفنانين الكرد الذين أبدعوا في هذا المجال وأصبحوا أصحاب مدارس خاصة بهم أمثال: (حسن زيرك، وكاويس آغا، ومحمد وعارف جزراوي، وعيسى برواري، وتحسين طه، ومريم خان، وعيشة شان، وسعيد يوسف، ويوسف جلبي، وخضر، وحسين أومري، وسعيد كاباري، وكُلبهار، ومحمد شيخو وغيرهم). سوف نخصص هذا المقال عن بلبل كردستان الحزين وصاحب المدرسة الخاصة، الفنان والمطرب الكبير محمد شيخو في ذكرى رحيله.

 الولادة والنشأة

 قرية “خجوكي” الهادئة الواقعة جنوب غرب قامشلو، كانت في العام 1948 على موعد مع ولادة طفل سيكون له شأن كبير في حياة القرية والمدينة وعموم الشعب الكردي. في ذاك العام وفي تلك القرية، ولد فناننا الكبير لعائلة مكونة من ستة شبان وست شابات هو أكبرهم. اسمه محمد صالح شيخو عاش طفولة بائسة مثل بقية أقرانه من الأطفال الكرد. درس الابتدائية في القرية ومن ثم أكمل الإعدادية في مدارس قامشلو.

اضطرّت عائلته إلى التجول وفلاحة الأراضي بسبب صعوبة الحياة والضائقة المادية مما أدى به إلى ترك الدراسة. إلى جانب أنه أصيب خلال العام 1965 بمرض في عينيه أدّت إلى ضعف كبير في نظره مما أدّى إلى إعفائه من الخدمة الإلزامية السورية.

البدء بعزف الموسيقا

 بدء بالعزف على الناي وهو ما يزال في المرحلة الابتدائية، إذ كان يسرح بالأغنام لمساعدة أهله بعد عودته من المدرسة. ومن ثم تعلّم العزف على الطنبورة، والبزق، والعود، وغيرها من الآلات الموسيقية خاصة عندما استقرت عائلته في قرية “خربي كورما” حيث تعرف هناك على الفنانين الشعبيين أمثال خليل يزيدي، وحسين طوفي، وحليم حسو، حيث تعلّم على أيديهم أصول العزف، كما قام بمرافقتهم في الحفلات والأمسيات الغنائية والموسيقية التي كانوا يقومون بإحيائها في القرى الكردية المتناثرة في برية ماردين.

أجاد عزف الموسيقا الشرقية وخاصة مقام “البيات” الذي سجّل معظم أغانيه على نمطه، وأصبح صاحب أسلوب السهل الممتنع الذي شكل مدرسة خاصة عُرفت فيما بعد بمدرسة محمد شيخو.

 السفر إلى بيروت

 بعد أن تشرّب عزف البزق بالدرجة الأولى وبقية الآلات الموسيقية إضافة إلى غناء قصائد العديد من الشعراء الكرد، ونتيجة لضيق الحال وصعوبة الحياة خاصة مع العائلة الكبيرة، سافر الفنان الكبير إلى العاصمة اللبنانية بيروت في أواخر 1969. لؤلؤة الشرق، ملجأ المناضلين والهاربين من الظلم والاضطهاد، بيروت كانت قد احتضنت قبله الكثير من الفنانين الكرد الكبار أمثال (سعيد يوسف، ورفعت داري، ومحمود عزيز شاكر، ورمضان نجم أومري، وشيرين برور، ومحمد طيب طاهر) حيث قام بإحياء العديد من الحفلات الموسيقية، لعل أشهرها حفلة سينما “ريفولي” عام 1972 التي حضرها رئيس وزراء لبنان وقتها “صائب سلام”.

انضم محمد شيخو إلى اتحاد الفنانين اللبنانيين ودرس الموسيقا لمدة سنتين، حيث حصل على دبلوم في العزف على الآلات الموسيقية والغناء. كما شارك في تأسيس فرقة نوروز برفقة سعيد يوسف بالإضافة إلى تعاونه مع فرقة “سركفتن” التي أسسها المناضل كمال شامباز. تعرّف محمد شيخو على العديد من الفنانين اللبنانيين الكبار، وتعاون مع البعض منهم أمثال: فيروز، ووديع الصافي، وسميرة توفيق، وصباح، ونصري شمس الدين، وعاصي الرحباني، وغيرهم.

 التوجه صوب بغداد

  سافر من بيروت إلى العراق، حيث حلّ ضيفاً على إذاعة وراديو بغداد وقام بتسجيل العديد من الأغاني وهناك تعرف على العديد من الفنانين الكرد الكبار أمثال: (محمد عارف جزراوي، وعيسى برواري، وكُلبهار، وتحسين طه، وشمال طاهر، وغيرهم). كما تعرّف على شعراء كرد أمثال صبري بوطاني، وخلف زيباري، وغنّى أشعارهم بألحان ستبقى خالدة.

سجّل خلال فترة تواجده في بغداد العديد من الأغاني الرائعة مثل (Carek min dîbû Gewrê، Aman dilo، (Min bihîstî tu nexweşî , Azad e şîrîn عبر هذه الأغاني، نال محمد شيخو شهرة واسعة انتشرت بين الكرد في باشور كردستان ومنها إلى سائر أرجاء الوطن.

 العودة الملاحقة والسجن

 بعد عودته من العراق إلى روج آفا، لم تتوقف مخابرات حكومة دمشق عن ملاحقة الفنان محمد شيخو، فقد تعرض في كثير من الأحيان للاعتقال والتعذيب؛ لكنه لم يتراجع عن موقفه، ولم يتخلَّ عن عمله في تطوير الأغاني الكردية. عمل في بلدة رميلان النفطية، حيث أشرف على فرقة موسيقية وقام بتدريب أعضائها على العزف بشكل جيد. لكنه نتيجة لضغوطات النظام البعثي القمعي وإصرارهم على ضرورة مشاركته مع الفرقة في المناسبات والاحتفالات البعثية مثل الثامن من آذار، التي كانوا يحتفلون بها على أنها ثورة البعث، واستلام الحكم عام 1963 وكذلك السابع من نيسان، والتي تعتبر يوم تأسيس حزب البعث، ترك العمل في الرميلان، وعاد إلى قامشلو، لكنه عانى كثيراً من الملاحقة الأمنية والضغط المستمر مما دفعه إلى العودة للعراق والمشاركة في ثورة باشور.

 الذهاب إلى روجهلات وزواجه 

شارك محمد شيخو في ثورة باشور كردستان، حيث صعد الجبال برفقة البيشمركة وغنّى لهم. وعلى إثر توقيع اتفاقية السادس من آذار 1975 وانهيار الثورة، غادر باشور برفقة الكثير من مقاتلي البيشمركة إلى روجهلات كردستان، وأقام معهم حيث شكّل فرقة فنية من جرحى الحرب وسجّل في مدينة مهاباد إحدى أهم وأشهر أغانيه Ey Felek بسبب المضمون القومي لأغانيه، قام جهاز الاستخبارات الإيرانية “السافاك” بمنعه من الغناء ونقله إلى مدينة كرج بالقرب من طهران العاصمة، ومن ثم قامت بنفيه إلى مدينة “غنبت كاوس” على بحر قزوين.  هناك قام شيخو بتدريس اللغة العربية في مدارس المدينة، وهناك أحبّ إحدى طالباته “نسرين” ابنة حسين ملك أحد قادة بيشمركة جمهورية كردستان الديمقراطية في مهاباد. غنّى لها أغنية Nisrên  التي اشتهرت كثيراً إلى الآن. أنجبت له نسرين، ثلاثة أولاد وابنة. الابن البكر بيكس توفي وهو صغير، وهناك إبراهيم، وبروسك. بينما الابنة الوحيدة اسماها “فلك”.

لدى قيام نظام الخميني عام 1979 تم اعتقاله وسجنه بتهمة الشيوعية، لكن مع صدور عفو عنه في سوريا، تمت تبرئته، حيث عاد فوراً برفقة عائلته إلى مدينته التي عشقها قامشلو.

 الأغاني والأشرطة الموسيقية

 أكثر من 120 أغنية توزّعت على ما يُقارب 20 كاسيتاً، بالإضافة إلى المشاركة في العزف مع العديد من الفنانين الكرد وتلحين الكثير من الأغاني من أشعار كبار الشعراء الكرد. جميعها كانت نتاج جهد كبير قدّمه الراحل الكبير محمد شيخو. أول ألبوماته الموسيقية سجّلها عام 1974 تحت عنوان “Ay Lê Gewlê”. ثم خلال فترة وجوده في إيران شهدت تسجيله لأربعة البومات موسيقية، لعل أبرزها الذي أطلق عليه اسم “Nisrîn” وهو اسم الأغنية الشهيرة التي كان قد كتب كلماتها الشاعر خلف زيباري، وقام محمد شيخو بتلحينها وغنائها لحبيبته نسرين التي أصبحت فيما بعد زوجته.

وفي دمشق العاصمة السورية، سجّل شيخو ألبومه الموسيقي تحت عنوان “”Ez Bûm Firar أي “أصبحت فراراً” سنة 1982 وأغلب أغاني الألبوم كانت من كلمات الشاعر الكردي يوسف برازي.

شهد عام 1984 تعاوناً بينه وبين شقيقه الفنان بهاء شيخو بإصدار ألبوم معظم أغانيه كانت من أشعار الشاعر الكردي الكبير “سيداي تيريج” أطلق عليه اسم “Lê Lê Ciwanê”. كما غنّى عن سجن آمد في ألبومه الغنائي الصادر عام 1985 تحت اسم “Sebrê” وكانت كلمات أغاني الألبوم، من أشعار الشعراء يوسف برازي، سيداي تيريج، عمّري لالي.

 افتتاح محل فلك في قامشلو 

بعد عودته من المنفى على إثر صدور عفو عنه في سوريا، قام بتدريس الموسيقا في قامشلو من خلال دورات خاصة، كما أسّس فرقة موسيقية وسجّل العديد من الأعمال الفنية كانت أخرها سنة 1986. وفي العام 1987 قام برفقة شقيقه بهاء بافتتاح محل تسجيلات موسيقية على طريق عامودا في قامشلو أطلق عليه اسم ابنته “فلك” لحبه الشديد لها.

لكنه لم يسلم من ممارسات السلطات القمعية لنظام البعث الأسدي الدكتاتوري. حيث جاء أزلامه وقاموا بإغلاق المحل بالشمع الأحمر بحجة أن المحل يوجد فيه أشرطة وكاسيتات فيها أغاني قومية كردية. وبعدها قامت باعتقاله مع شقيقه وزجّهما في السجن.  المرض والوفاة

 كانت لسنوات السجن والتعذيب، وحياة الملاحقة والنفي والعيش في الغربة، أثرها الكبير على صحة ونفسية الفنان الكبير. بعد إغلاق محله في قامشلو من جانب السلطات البعثية بالشمع الأحمر وزجّه مع شقيقه الفنان بهاء شيخو في السجن، تعرض خلالها إلى المزيد من الضغوطات النفسية بالإضافة إلى التعذيب الجسدي الأمر الذي أثّر على صحته. بعد خروجه من السجن بفترة قصيرة وفي السادس من آذار 1989 تعرّض لنوبة قلبية أُدخل على إثرها إلى المشفى الحكومي (الوطني) في قامشلو، وبسبب الإهمال وعدم الاهتمام توقف القلب الكبير عن الخفقان يوم التاسع من آذار 1989.

بعد الإعلان عن وفاته، حضر الآلاف من أبناء الشعب الكردي وأصدقائهم من محبّي الفنان الكبير مراسم تأبينه في مسيرة حاشدة طافت شوارع المدينة وصولاً إلى مقبرة الهلالية غرب المدينة حيث وري جثمانه الثرى وسط صدى أغنيته الحزينة
(Gava ez mirim , gelî zindiya , hûn min neveşêrin, weku hemiya, hemî Adara hûn min şiyarkin)

والتي تعني حرفياً (عندما أموت، أيها الأحياء، لا تدفنوني، مثل الجميع، كل آذار، أيقظوني).

الختام

صوته العذب، وألحانه الحزينة التي لطاما دغدغت الآلام والأحزان الدفينة في نفوس شعبنا الكردي وأيقظتها، دفعت بأبناء هذا الشعب إلى إطلاق لقب “البلبل الحزين” على الفنان الكبير محمد شيخو الذي استحق هذا اللقب وبجدارة. رحلة حياة قصيرة لم تتجاوز 41 عاماً لكنها مليئة بالفن الأصيل. غنّى قصائد لثمانية عشر شاعراً كردياً من مختلف أجزاء كردستان. ذكر شقيقه بهاء بأن الراحل الكبير كان يقول عن السبب في ذلك: “إن غايتي في الغناء هي ألا تضيع أعمال الشعراء الكرد بمرور الوقت. وبهذا الشكل صنع لتلك القصائد أجنحه لتحلّق في أنحاء كردستان”.

نعم لقد صنعت أجنحة لتلك القصائد التي رفرفت فوق ذرى جبال كردستان في كل مكان ودخلت كل بيت من بيوت الكرد في مختلف أرجاء العالم. صدقت أيها الراحل الكبير بلبل كردستان الحزين.

 

​المصدر | صحيفة روناهي

 

شارك هذه المقالة على المنصات التالية