د. محمود عباس
تمعنوا، وفكروا بعمق، قبل صياغة دستور سوريا القادمة.
فالشعب السوري، بكل مكوناته، لم يثر لينقلنا من دمار إلى آخر، ولا ليدور في حلقة مفرغة من الخيبات، بل ثار بحثًا عن عدالة مفقودة، وكرامة منهوبة، ودولة لجميع أبنائها، واليوم، وأنتم تقفون على مفترق مصيري، تُظهر الوقائع أنكم تسيرون في ذات الطريق الذي أوصل البلاد إلى الهاوية.
فلا تجعلوا النفق أكثر ظلمةً وطولًا، ولا تُطفئوا ما تبقّى من بصيص الضوء في آخره.
السلفية التي بشّر بها الشيخ الكوردي ابن تيمية، وأنتم تطبقونها، كانت ابنة سياقها التاريخي، وظرفها الزمني، لكنها اليوم، وقد أُعيد نفخ الروح في خطابها، تحوّلت إلى متاهة فكرية موحشة، تُعيد إنتاج الاستبداد بلبوس ديني، وتنذر بكوارث قد لا تقل فتكًا عمّا مضى.
ونحن، إذ نحذّر من استحضار هذا النمط من الخطاب في صياغة الدولة القادمة، ندعوكم للاستماع، بتروٍّ وتبصّر، إلى خطابات وتأويلات الشيخ الكوردي الآخر، الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، لا من باب التبجيل، بل من باب استخلاص العبرة، فرغم اختلاف الرؤية معه، ظلّ، حتى آخر لحظاته، يُطلق نداءً صادقًا يُحذر فيه الجميع مما كان سيقع، وقد وقع فعلاً.
استمعوا إليه، لا بوصفه مرجعًا، بل بوصفه جرس إنذار فكري، تأملوا كلماته كتحذير من أن تُلدغ سوريا من الجُحر نفسه مرتين.
لا تقتلوا سوريا مرةً أخرى.
لا تشعلوا فتيل الحرب الأهلية الجديدة باسم “المواطنة” المجرّدة من العدالة.
لا تُغتالوا العقل السوري، لا تقسّموا سوريا بخمس رصاصات سياسية، تكتبونها في نصوص دستورية، ثم تُطلقونها على جسد الوطن باسم الوحدة.
قرأنا لابن تيمية في الماضي، ولبعض شيوخ السلفية، واستمعنا إلى خطابات تلميذه القرضاوي قبل وفاته، وقارنتها بخطابات الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي. وقبل أيام، تابعت ثلاث تسجيلات مرئية له، في فترات متباعدة، وكل واحدة منها كانت تُنير زاوية طالما أُريد لها أن تبقى معتمة في المشهد السوري.
ورغم خلافي العقائدي العميق معه، خصوصًا في مسألة أولوية الدين على حساب البعد القومي، وسكوته الطويل عن مأساة المكونات غير العربية في سوريا، لا يسعني إلا أن أقرّ أن الرجل، في تلك اللحظات، كان يقرأ المشهد السوري لا كواعظٍ يُردد ما يُرضي الجماهير، بل كمفكرٍ يرى من وراء الغبار، ويحاول، بصوته المرتجف والهادئ لكن الجريء الواضح والصارم في القول، أن يمنع زلزالًا كان يلوح في الأفق.
الفيديو الأول، الذي يعود إلى عام 2011، لم يكن خطابًا سياسيًا على النحو التقليدي، بل أقرب إلى قراءة دقيقة لمستقبلٍ كان على وشك أن يُولد من رحم الفوضى.
تحدث فيه الشيخ، بوضوح تقشعر له الروح، تحدّث عن سوريا، بلغة الواعظ وبصرامة المفكر، وكأنه رأى الانقسام قبل أن يقع.
أما الفيديو الثالث، فكان قبل استشهاده بأيام، تحديدًا في آذار 2013، قبل أن يُغتال في 21 من الشهر ذاته، أثناء إلقائه محاضرة دينية داخل جامع الإيمان بدمشق.
لم يكن يتحدث عن ثورة، بل عن صراع أجهزة وأجندات، وعن مسرحٍ يُدار من خلف ستار، والدم فيه أرخص من الحبر.
ليس مبالغة القول إن كلماته تلك كانت سبب اغتياله، كما أودت كلمات ابن تيمية به إلى السجون، لم تُردِه جهة واحدة، بل تآمر على قتله أطراف متناقضة ظاهرًا، موحدة في خوفها من الحقيقة، المعارضة التكفيرية، التي رأت في صوته فضحًا لعقيدتها، بدعم من القرضاوي، والنظام البائد المجرم، الذي اعتبره خارجًا عن طاعته.
وليعلم المنتصرون اليوم، سواء بالسلاح أو الصفقات، أن ما جرى خلال العقد الماضي لم يكن سوى نتيجة حتمية لهيمنة لون واحد، وهذا ما يُعاد إنتاجه الآن، مهما حاولوا تزيينه بلغة دبلوماسية ناعمة، بدون فيدرالية، وبدون نظام لامركزي حقيقي، ستتجه سوريا حتماً نحو الانقسام.
المسؤولية الأولى والأخيرة ستقع على الحكومة الانتقالية الحالية، التي تدعي تمثيل الشعب، بينما تخضع فعليًا لهيمنة هيئة تحرير الشام وإملاءات تركيا.
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
15/4/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=67544