بيان إلى الحكومة الأمريكية واللجان المعنية بالشأن السوري

د. محمود عباس

بصفتي مواطنًا أمريكيًا، أتوجّه بهذا البيان إلى وزارة الخارجية، ووزارة الدفاع (البنتاغون)، والبيت الأبيض، وإلى أعضاء لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأمريكي، محذرًا من خطر تكرار كارثة 11 أيلول (9/11)، إن تم التغاضي مجددًا عن المنظمات التي خرجت من رحم الفكر ذاته الذي أطلق الشرارة الأولى للإرهاب العالمي.

لقد ثبت بالأدلة أن تنظيم “جبهة النصرة”، الذي أعاد تسمية نفسه لاحقًا بـ “هيئة تحرير الشام”، هو وريث مباشر لتنظيم “القاعدة”، وشقيق أيديولوجي لتنظيم “داعش” فزعيمه الحالي، أحمد الشرع (المعروف باسم أبو محمد الجولاني)، كان أحد أبرز معاوني أبي مصعب الزرقاوي في العراق، وقاتل إلى جانب تنظيم القاعدة ضد القوات الأمريكية وحلفائها، خاصة القوات الكوردية، طيلة سنوات ما بعد التدخل الأمريكي في العراق عام 2003. تشير تقارير وزارة الدفاع الأمريكية إلى أن المنظمات التي انتمى إليها الجولاني تسببت في مقتل أكثر من 3000 جندي أمريكي وإصابة آلاف آخرين بجروح مستديمة.

في عام 2011، ومع انطلاق الثورة السورية، انتقل الجولاني بتنظيمه إلى الداخل السوري تحت ذريعة “الجهاد”، لكنه سرعان ما بدأ بقتل الثوار السوريين الوطنيين أكثر مما قاتل النظام الاستبدادي نفسه، لقد ساهمت “النصرة” بشكل مباشر في تحريف مسار الثورة وتحويلها من ثورة شعبية نحو صراع ديني تكفيري بين نظام استبدادي ومجموعات متطرفة.

في بداية عام 2014، نشب خلاف بين “داعش” بقيادة البغدادي و”النصرة” بقيادة الجولاني، لم يكن خلافًا في الفكر أو العقيدة، بل على من يحتكر “الخلافة” والزعامة الدينية، وقد أصدر الجولاني حينها تسجيلًا علنيًا أعلن فيه ولاءه التام لتنظيم القاعدة وأميرها أيمن الظواهري، بعد مقتل أسامة بن لادن، مؤكدًا التزامه العقائدي بمنهج القاعدة.

فيما بعد، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عن مكافأة بعشرة ملايين دولار، لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى اعتقال الجولاني، تمامًا كما فعلت مع البغدادي، باعتبارهما من أخطر الإرهابيين المطلوبين. واليوم، وبمفارقة مثيرة للقلق، نرى بعض الإدارات الأمريكية تتعامل مع الجولاني على أنه “رئيس فعلي” لسوريا، بعد إعادة تلميعه سياسيًا ودبلوماسيًا، وهو الذي لم يغيّر قناعاته وإنما غيّر فقط شكله وخطابه، مستبدلًا البدلة العسكرية، البدلة الشرعية الجهادية الخاصة بتنظيم القاعدة، بربطة عنق، دون أن يتخلى عن عقلية “الخلافة” وأدبيات “الولاء والبراء”.

لا يمكن فصل “هيئة تحرير الشام” عن جذور “القاعدة” و”داعش”، فكلها تستند إلى العقيدة ذاتها، وتربّي أجيالها على العداء العلني للولايات المتحدة وإسرائيل واليهود، تحت شعارات الموت والدمار، وهي نفسها التي ترفعها إيران وأذرعها كـ “الحوثيين”، رغم اختلاف الرايات والمذاهب. فالصراع بين “ولاية الفقيه” و”إمارة القاعدة” ربما فكريًا، لكن ليس استراتيجيا سياسيا، بل على من يسيطر على العالم الإسلامي المتطرف.

أما الحكومة السورية الحالية، المنبثقة عن هيئة تحرير الشام، والتي يتزعمها الجولاني، فكل وزرائها وقادتها العسكريين والأمنيين ينتمون إلى الفكر التكفيري، حتى وإن ارتدوا الأزياء الغربية وتحدثوا بلغة ناعمة، لغة ما يعرف بلغة المؤمنين الرخيمة لفظا والرافضة القاطعة فعلا، فخلف الأقنعة السياسية والدبلوماسية، تُخفي هذه الجماعات حقدًا دفينًا وكراهية موروثة لكل من لا يؤمن بعقيدتهم، ويؤمنون بجهاد دائم لا ينتهي إلا بإقامة نظام شمولي إسلامي متطرف.

وعليه، فإن ما يُعرف بـ “الحكومة السورية الانتقالية”، والتي تدعمها تركيا وتنسق معها، لا يمكن الوثوق بها، ولن تتوانى عن إعادة إنتاج الإرهاب في اللحظة التي تتوفر لها الإمكانيات، بل وقد تُشكّل تهديدًا على الأمن الإقليمي والدولي، بما فيه الداخل الأمريكي نفسه.

إن ما يجري اليوم في السويداء من مجازر مروّعة بحق المكوّن الدرزي، وما سبقها من مجازر ضد المسيحيين، وآخرها في كنيسة مار إلياس، حيث استشهد أكثر من 50 مصلٍّ وجُرح العشرات، وما حصل سابقًا من جرائم بحق العلويين، كلّها حلقات في مسلسل تطهير مذهبي منظم، يجري أمام أعين العالم، والفاعل معروف، والجرائم موثقة، بعضها صوّره الجناة أنفسهم بهدف بثّ الرعب ورسائل التهديد.

وتُشير معلومات دقيقة إلى أن المرحلة المقبلة ستكون موجهة نحو الكورد في غربي كوردستان (شمال وشمال شرق سوريا)، لإخراجهم من المشهد السياسي والاجتماعي بالكامل، وهو ما يعكس نوايا تطهير قومي موازٍ للتكفير الديني.

لذا، أدعو باسم الضمير الأمريكي، وباسم آلاف الضحايا من جنودنا ومواطنينا، أن تتوخى الإدارة الأمريكية الحذر الكامل، وألا تنخدع بخطابات براقة ووعود زائفة. هذه الحكومة لا يمكن أن تكون حليفًا، وهي في لحظة تمكين ستنقلب على كل من تعاون معها، كما فعلت أمثالها في أفغانستان والعراق.

إن استمرار دعم هذه الحكومة في ظل غياب نظام ديمقراطي فيدرالي حقيقي، سيقود سوريا إلى جحيم جديد، وقد يؤدي إلى إعادة رسم خرائط المنطقة على أسس دموية.

ولذلك، فإن الحل الوحيد للحفاظ على وحدة سوريا واستقرارها، يكمن في إلغاء النظام المركزي الدكتاتوري، والانتقال إلى نظام فيدرالي لا مركزي، قائم على خمس فيدراليات:

فيدرالية غرب كوردستان (من جبل الكورد حتى حدود جنوب كوردستان).

فيدرالية الساحل العلوي (اللاذقية وطرطوس).

فيدرالية السويداء (للدروز).

فيدرالية سنية شمالية.

فيدرالية سنية جنوبية.

وهذا النموذج الفيدرالي المقترح، لم يأتِ من فراغ، بل هو ذات الطرح الذي بدأت تروّج له قوى دولية ومنظمات أممية، وكان آخرها ما صرّح به الممثل الأمريكي الخاص إلى سوريا ولبنان، ضمن إطار إعادة النظر بالخريطة الجيوسياسية التي أرساها اتفاق سايكس–بيكو، والتي انبثقت عنها الخريطة الحالية لسوريا.

فقط من خلال هذا النموذج، يمكن كتابة دستور سوري جديد يحفظ الحقوق، ويضمن تمثيل كل المكونات، ويمنع ظهور الاستبداد من جديد، سواء بلبوس قومي أو ديني.

ما لم يحدث ذلك، فإن سوريا ماضية نحو التفكك الكامل، والتقسيم الفعلي، على أنقاض الدم والمجازر، وسيكون التاريخ شاهدًا على من أنذر، ومن تجاهل.

الولايات المتحدة الأمريكية

17/7/2025م

Scroll to Top