وجود الكورد في سوريا

ماهر حسن

لا يمكن فهم التركيبة السكانية والثقافية في شمال سوريا دون التوقف مليًا عند الوجود الكورد، بوصفه أصحاب المكان. فعلى عكس السرديات التي تختزل هذا الوجود في كونه نتاج موجات هجرة سياسية خلال القرن العشرين، ومن خلال تحليل شهادات المستشرقين، الرحالة، والمؤرخين، واستعراض الوثائق العثمانية والخرائط الأوروبية، بغية دحض الأطروحات القومية الإقصائية التي تنكر هذا الوجود، وإبراز الحقيقة التاريخية الكامنة خلف محاولات الطمس والتشويه المتعمدين

ورغم السياسات الرسمية التي مورست على مدى عقود بهدف تفكيك البنية الثقافية والاجتماعية للكورد في مكانهم، بدءًا من مشاريع التعريب القسري، ومرورًا بحرمانهم من الجنسية، وصولًا إلى سياسات التهميش الممنهج في التعليم والإعلام والإدارة، فإن الكورد استطاعوا الحفاظ على مقومات هويتهم الجمعية. لقد شكّلت اللغة الكوردية، التي كانت محظورة في المجال العام، محورًا أساسيًا في مقاومة محاولات الطمس، حيث تم تناقلها شفويًا ضمن الأطر الأسرية والمجتمعية، ما أبقى الروح اللغوية حيّة ومتوارثة، رغم انعدام الاعتراف الرسمي بها

إن محاولة تصوير الوجود الكورد سوريا على أنه نتيجة “هجرة سياسية” بعد قمع الثورات الكوردية في تركيا خلال القرن العشرين، هو اختزال سطحي للواقع، وتزوير متعمد لحقيقة تاريخية أعمق وأوسع. نعم، لجأ بعض الكورد إلى سوريا بعد 1925، ولكن هؤلاء لم ينشؤوا هوية جديدة، بل انضموا إلى إخوانهم الذين كانوا هنا قبلهم بقرون، مندمجين في مجتمع كوردي راسخ وموثّق. فالهجرة الطارئة لا تصنع وجودًا ثقافيًا عريقًا، ولا تنتج تراثًا حيًا متجذرًا في المكان، ولا تؤسس لعشائر تمتد جذورها إلى قرون مضت، كما هو حال الكيكي، والمللية، والبرازي، والخيتوني، والدقوري، وغيرها من العشائر الكردية الأصيلة في الجزيرة.

إن إنكار هذه الحقيقة التاريخية والجغرافية لا يغيّر من الواقع شيئًا، بل يعبّر عن ضيق أفق قومي مقيت، يخشى الاعتراف بوجود الآخر، ويرى في التنوع تهديدًا بدل أن يراه ثراءً. تجاهل الكورد أو محاولة إقصائهم من المشهد الوطني السوري، لن يُلغي حضورهم، ولن يطمس حقائقهم، لأن الأرض تشهد، والتاريخ يشهد، والوثائق تشهد، على أن الكورد ليسوا مجرد مكوّن من مكوّنات سوريا، بل هم من بناتها الأصليين، وركن من أركان ذاكرتها، وهويتها، وجغرافيتها، وشعبها

الكورد ليسوا طارئين في الجزيرة السورية:

يدّعي البعض أن الكورد في سوريا جاؤوا نتيجة هجرات متأخرة من تركيا بعد قمع الثورات الكردية كـ”ثورة الشيخ سعيد بيران” (1925)، وأنهم لم يكونوا جزءًا أصيلًا من جغرافيا سوريا الطبيعية. هذا الادعاء مردود تاريخيًا ووثائقيًا، لأن الوجود الكورد في الجزيرة السورية سبق القرن العشرين بعدة قرون، وقد وثق هذا الوجود رحالة، مستشرقون، مؤرخون، وأرشيفات رسمية.

صحيح أن جزءًا من الكورد لجأوا إلى سوريا بعد قمع الثورات ضد الدولة التركية الكمالية، لكن نسبتهم بقيت محدودة مقارنة بعدد الكورد المستقرين أصلًا في المنطقة. هؤلاء الوافدون اندمجوا مع إخوانهم، لكنهم لم يكونوا سببًا في تشكيل “هوية كردية مصطنعة” كما يدّعي البعض. بل كانوا امتدادًا طبيعيًا لأمة واحدة فُرضت عليها الحدود باتفاقية سايكس بيكو وسيفر ولاحقًا لوزان.

الأدلة التاريخية والوثائقية على الوجود الكورد:

ماكس فون أوبنهايم (Max von Oppenheim)

هذا البارون الألماني، والكاتب وعالم الآثار، أجرى تنقيبات في تل حلف (رأس العين) بين عامي 1899 و1929، وزار الجزيرة السورية ثلاث مرات بين عامي 1893 و1920. كتب تقارير مفصلة عن الحياة القبلية في الجزيرة، وذكر فيها العشائر الكوردية مثل المللية والكيكي وغيرها. تقاريره وصوره الميدانية محفوظة، وتُعتبر مصدرًا من الدرجة الأولى في دراسة تلك الحقبة.

أوستن هنري لايارد (Austen Henry Layard)

المستشرق البريطاني الذي زار المنطقة عام 1849، عبر نهر الخابور، وكتب في مذكراته أن عشيرة المللية الكوردية كانت تحكم مناطق واسعة من الجزيرة عبر أمراء وراثيين منذ مئات السنين. في كتابه “Discoveries among the Ruins of Nineveh and Babylon” يصف حياتهم الاجتماعية والسياسية والعسكرية بدقة.

كارستن نيبور (Carsten Niebuhr)

الرحالة الدنماركي من البعثة الألمانية-الدنماركية، زار الجزيرة السورية عام 1764 قادمًا من الموصل، وذكر خمس عشائر كوردية أصيلة مستقرة في المنطقة.


أوليا جلبي (Evliya Çelebi)

الرحالة التركي الشهير، زار المنطقة عام 1655، ووثق بالتفصيل أسماء العشائر الكوردية في الجزيرة، وأشار إلى نمط حياتهم، مما يثبت تواجدهم المستقر في المنطقة قبل أكثر من 350 عامًا.

الوثائق العثمانية (دفاتر الضرائب)

يعود أقدم ذكر رسمي للعشائر الكوردية في الجزيرة السورية إلى دفاتر الضرائب العثمانية عام 1552م، حيث ذُكرت بالاسم العشائر التي لا تزال موجودة اليوم، كالكيكي، الزور، الملية، وغيرهم. هذه الوثائق محفوظة في الأرشيف العثماني في إسطنبول.

المصادر العربية الإسلامية الكلاسيكية

ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ أشار إلى الكورد في أحداث القرن السابع الهجري، وذكر وجودهم في المناطق الممتدة من الموصل إلى ماردين ونصيبين.

البلاذري في كتاب فتوح البلدان يذكر قبائل كوردية في أطراف الجزيرة.

أبو الفضل الله العمري في مسالك الأبصار يشير إلى العشائر الكوردية ومواطنها في ديار ربيعة وجزيرة .

سليمان صائغ في كتابه تاريخ الموصل يشير إلى وجود كورد كثيف في مناطق الحسكة الحالية.


الخرائط الأوروبية والدولية:

خرائط تعود إلى القرن التاسع عشر، ومنها خرائط المستشرق الفرنسي فيليكس ماتييه، ومؤرخين مثل غوتليب شومّاخر، تبين حدود كُردستان الكبرى وتضع أجزاء واسعة من الجزيرة السورية ضمنها.

خرائط المفوضية الدولية لتقسيم الولايات العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، كانت تعترف بوجود مناطق كوردية في سوريا، خصوصًا في رأس العين، القامشلي، عفرين، وكوباني.

من بين أقدم الشهادات التي تدعم هذا الوجود، ما جاء في “Histoire de Timur Bec, connu sous le nom de Grand Tamerlan”، المؤلف في أربعة مجلدات عام 1723، والمبني على كتابات المؤرخ الشهير شرف الدين علي يزدي، المؤرخ الرسمي للإمبراطور تيمورلنك. في هذا العمل الذي يحتوي على خرائط مطوية ولوحات محفورة، تظهر بوضوح مناطق كوردية ضمن الرقعة الجغرافية التي كانت تحت سيطرة المغول والتتار، في دلالة على وجود سياسي وجغرافي قديم للكورد.

هذا لا يقف وحده، بل تؤكد عليه أعمال مثل Atlas-i muhtasar-i cografya، الصادر في إسطنبول عام 1838 عن مطبعة Mühendishane-i Berri-i Hümayun، التي تُظهر حدوداً واضحة لمناطق تُصنف ضمن كوردستان، وتُشير إلى مدن كوردية بقيت مأهولة بكثافة كوردية حتى اليوم، منها الجزيرة، ديرك، قامشلو، وسري كانيه، وهي الآن داخل الحدود السورية.


أما في القرن الثامن عشر، فيقدم كارستن نيبور في كتابه “Beschreibung von Arabien” الصادر في كوبنهاغن عام 1772، معلومات مستفيضة عن شعوب المنطقة من خلال ملاحظاته الميدانية، ويذكر الكورد ضمن مكونات المنطقة الطبيعية، في إشارات لا لبس فيها إلى قدم تواجدهم في شمال شرق سوريا وغرب العراق.

كما أن خريطة Carte du Capchac، التي تعود لجان باتيست (1657–1708)، تُظهر بوضوح منطقة كوردية جغرافياً وسياسياً، تقع في قلب بلاد ما وراء النهر، ممتدة من القوقاز وحتى تخوم ميزوبوتاميا.


وفي العصر الحديث، وضمن الجهود السياسية للكورد من أجل إثبات وجودهم وحقوقهم، قدمت رابطة خويبون الكوردية خريطة باسم كوردستان إلى مؤتمر سان فرانسيسكو عام 1945، تطالب فيها باعتراف دولي بوجود أرض كوردية محتلة، وتقع أجزاء منها داخل سوريا الحالية. وقد أُدرجت هذه الخريطة كوثيقة رسمية، وتُعد من أواخر المحاولات السياسية الكوردية في مرحلة ما قبل الحرب الباردة.


أما التحليل الاصطلاحي والتاريخي الذي أجراه فرديناند هنربيشلر، فقد تناول في دراسته Karda: Land of Valiant Mountain People تحليلًا لاسم كوردستان وأصوله في جبال زاغروس الوسطى، ويعزز فكرة أن تسمية كوردستان ليست حديثة العهد بل ممتدة لما قبل الميلاد، ككيان جغرافي إثني قائم في شرق الأناضول وغرب إيران.

إحدى أهم الخرائط التي تؤكد هذا التوزع الكوردي هي تلك المحفوظة في مجموعة David Rumsey Historical Map Collection، والتي تتضمن خريطة بتاريخ 1868، منسوبة إلى حافظ علي أغرف، تشير إلى التوزع السكاني الكوردي في أجزاء واسعة من سوريا.


إن تجميع هذه الشواهد من مصادر تعود إلى قرون مختلفة، يؤكد بلا أدنى شك أن أرض كوردستان كانت تمتد داخل ما يُعرف اليوم بالأراضي السورية، وأن الكورد ليسوا أقلية مهاجرة، بل شعب أصيل جغرافيًا وتاريخيًا، قُسِّمت أرضه بفعل السياسات الاستعمارية ومصالح القوى الإقليمية، ولا يزال يرزح تحت التقسيم القسري، بما في ذلك السوري لأجزاء من كوردستان

Scroll to Top