من جديد، الدب الروسي في الكرْم السوري، فماذا عن الحصرم الكوردي؟! القسم الثاني

التصريح الروسي الأخير: تغيير شكل للعبة سوداء أم تكويع أبيض؟!

د. ولات محمد

“وبضدها تتميز الأشياء”

المتنبي

 

2 ـ قبل احتلال سري كانيه (رأس العين) وتل أبيض وبعده

كل تلك الحملة الدعائية/ الادعائية التي اتهمت فيها موسكو الكورد بالسعي للانفصال بمساعدة أمريكية كان الهدف منها (باختصار) تبرير احتلال تركيا لعفرين لكسب ودها وإبعادها عن الأمريكي، وإبعاد الأنظار عن الصفقة التي تمت بينها وبين أنقرة (تسليم عفرين مقابل استعادة ريف دمشق) وتبرئة نفسها من تلك الجريمة، بالإضافة إلى التمهيد (التبرير المسبق) لاحتلال سري كانيه وتل أبيض.

والملاحظ من التصريحات الروسية التي عرضها القسم الأول من المقال أن لغة الدعاية ارتكزت على المفردات والعبارات الآتية: “الانفصال، التقسيم، وحدة الأراضي السورية، كيان كوردي، دويلة كوردية، شبه دولة، مغامرة أمريكية، الورقة الكوردية، لعبة خطيرة، أنشطة مشبوهة”. وعندما اقترب موعد الهجوم التركي على مدن كوردية أخرى في خريف 2019 دخلت مفردات جديدة في لغة الدعاية الروسية تماشياً مع الهدف ومقتضى الحال، مع استمرار لغة الخطاب السابقة، كما سيتبين من هذه التصريحات المختارة:

ـ بتاريخ 28/9/2019 (أي قبل عشرة أيام من الغزو التركي لسريه كانيه/ رأس العين وتل أبيض) قال سيرجي لافروف في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة “إن تركيا محقة جداً في المطالبة بالمنطقة الآمنة في الشمال السوري، لأنها تواجه مشاكل بسبب الإرهابيين الذين يتسللون من المنطقة الخاضعة لسيطرة الولايات المتحدة (…). الأمريكيون يستغلون الأكراد في المنطقة، وهناك خطوات ملموسة اتخذت لإنشاء أركان الحكم الذاتي”.

ـ الأربعاء 2/10/2019 أي قبل الهجوم التركي بأسبوع واحد فقط، وفي الاجتماع السنوي السادس عشر لنادي فالداي للحوار في مدينة سوتشي الروسية، قال لافروف: “الولايات المتحدة داخل لعبة خطيرة للغاية في شرق الفرات، هدفهم هو عزل هذه المنطقة عن سوريا… ومحاولة استخدام الكورد لإنشاء دولة شرق الفرات.. إن الولايات المتحدة تحاول نقل الكورد إلى المناطق العربية لتعزيز موقعهم في المنطقة”.

ـ يوم الجمعة 11/10/2019 (في اليوم الثالث بعد الغزو التركي) قال بوتين في أثناء مشاركته في قمة قادة الدول المستقلة في عشق آباد عاصمة باكستان: “لست على قناعة بشأن ما إذا كان الجيش التركي سيتمكن، وفي أي فترة، من السيطرة على هذا الوضع“. هذا الكلام يناقض كل التصريحات الروسية التي كانت داعمة للعملية التركية، إذ يشكك بوتين في قدرة الجيش التركي على ضبط الوضع الجديد، كي تطالب وزارة الدفاع الروسية في اليوم التالي مباشرة (السبت 12/10/2019) بالعمل على إعادة سيطرة النظام على الشمال السوري، وذلك لأن موسكو كانت قد ضمنت إضعاف الإدارة الذاتية وخلخلة الوضع الكوردي، وضمنت كذلك الحفاظ على التقارب التركي الروسي، وكانت ترى أنه حان الوقت للضغط على التركي لتسليم المنطقة لحليفه الأسد.

ـ يوم الأربعاء 16/10/2019 قال لافروف إن تصرفات التحالف الدولي تدفع الكورد نحو الانفصال.

ـ يوم الاثنين 22/10/2019 وعقب توقيع اتفاق مع أردوغان بخصوص الترتيبات في الشمال السوري قال بوتين “نشارك قلق الجانب التركي من زيادة (…) تصعيد الخلافات العرقية والدينية في هذه المنطقة، تم تأجيجها، برأينا، بشكل مصطنع من الخارج”.

والواقع أن روسيا وتركيا هما اللتان كانتا تثيران تلك الخلافات والشكوك بين المكونات المجتمعية السورية من خلال دعايتهما التحريضية الكاذبة. والملاحظ أن بوتين ولافروف في التصريحين لم يذكرا أمريكا بالاسم وإنما استخدما “التحالف الدولي” و”الخارج“.

ـ يوم الأربعاء 23/ 10/ 2019 قال المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف مهدداً: “إذا لم ينسحب الكورد من شمالي سوريا سنضطر للانسحاب وسيجدون أنفسهم أمام آلة الجيش التركي”. والحقيقة أن بيسكوف يذكّر الكورد بأن الجيش الروسي سيكرر تماماً ما فعله بهم في عفرين، إذا لم يخضعوا للطلب التركي بالانسحاب من الشريط الحدودي.

ـ في 12/11/2019 قال لافروف خلال منتدى السلام في باريس: “أنا لا أتفق معكم في أن إدلب هي آخر منطقة ذات مشاكل في سوريا. هناك، إلى الشرق من الفرات، هناك أراض ضخمة تحدث فيها أشياء غير مقبولة على الإطلاق. حيث تحاول الولايات المتحدة استخدام هذه الأراضي من خلال حلفائها السوريين، وخاصة الكورد، لأجل خلق شبه دولة هناك”.

كلام لافروف يدل على أن العالم كله كان يتحدث في ذلك المنتدى عن الوضع الخطير الذي كان قائما آنذاك في إدلب فقط، أما لافروف (ممثل روسيا) فكان يحاول جاهداً تحويل الانتباه عن إدلب إلى شرق الفرات، حيث أمريكا والكورد ومساعي إقامة الدويلة المزعومة و”خوف” التركي من ذلك.

ـ في اليوم ذاته 12/11/2019 صرح لافروف لوكالة الأنباء الروسية RBC بأن “الولايات المتحدة تقوم في شرق الفرات بكل ما في وسعها لإقامة شبه دولة، وتطلب من مَلَكيات الخليج القيام باستثمارات ضخمة لإقامتها”. وهذا عامل جديد أدخله الروس في دعايتهم في هذه المرحلة: ملكيات الخليج، استثمارات ضخمة لدعم الدويلة المزعومة!!!

استراتيجية التحريض ضد الكورد

كل التصريحات الروسية التي عرضناها حتى الآن كان أحد أهدافها تحريض شعوب المنطقة وحكوماتها على الكورد وعلى الأمريكان معاً، ولكن ثمة تصريحات أخرى أكثر وضوحاً وتخاطب العواطف والغرائز مباشرة، ومنها:

ـ بتاريخ 14/10/2018 قال لافروف “إن الولايات المتحدة قد تدخل من جديد في مغامرة خطيرة في كوردستان العراق، عبر فكرة ما يسمى بـ”كوردستان الكبرى”، وتابع قائلاً: “إن أمريكا تسعى لتكرار (سيناريو) إقليم كوردستان، في منطقة شرق الفرات“.

ـ بتاريخ 2/12/2018 وفي مقابلة تلفزيونية على هامش قمة “مجموعة العشرين” في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس قال لافروف “إن أحد عناصر السياسة التي تتبعها الولايات المتحدة في سوريا هو اللعب بالورقة الكوردية (…). وهذه لعبة خطيرة جدا، نظرا لحساسية المسألة الكوردية بالنسبة لعدد من دول المنطقة كالعراق، وإيران، وتركيا“.

ـ بعد أربعة أيام 6/12/2018 قال رئيس الأركان الروسي فاليري غيراسيموف للملحقين العسكريين الأجانب “إن الأميركيين عبر دعم التوجهات الانفصالية للكورد بالآليات العسكرية، يسمحون لهم بمضايقة القبائل العربية“.

ـ في 28/12/2018 قال لافروف في مؤتمر صحافي مع نظيره الأردني: “من نفس الموقف – موقف تصفية فلول الإرهابيين في سوريا، واستعادة سيادتها ووحدة أراضيها ننظر لخطط أنقرة بتنفيذ عملية ضد شمال شرق سوريا” (كيف يمكن للكورد أن يصدقوا الآن اعتراف هذا الرجل ودولته بحقوقهم؟!).

ـ الجمعة 18/9/2020 قال لافروف لوسائل إعلام روسية إن الأمريكان “يحرضون الكورد ضد الحكومة السورية (…). إن هذه التصرفات الأمريكية ترفع درجة القابلية للانفجار حول القضية الكوردية (…). كما هو معروف، هذه القضية تعد ملحة ليست لسوريا وحدها، بل للعراق وتركيا وإيران. وهذه لعبة خطيرة في هذه المنطقة (…). الأمريكيون بعيدون ولا يهتمون كثيراً بنتائج تصرفاتهم، ولكن عواقبها قد تكون كارثية بالنسبة للمنطقة، إذا ما استمروا في تقديم النزعات الانفصالية“.

ـ الاثنين 21/9/2020 أي بعد التصريح السابق بثلاثة أيام فقط وعقب زيارة الوفد الروسي إلى دمشق قال لافروف في لقاء متلفز عن شرق الفرات إنه “توحّدَ هناك العسكريون الأمريكيون الناشطون في المنطقة بصورة غير قانونية مع القوات الانفصالية، ويلعبون مع الكورد بطريقة غير مسؤولة”.

ـ الاثنين 5/10/ 2020 قال لافروف في مؤتمر صحافي “إن الأمريكيين يحاولون إنشاء حكم ذاتي كوردي في شمال سوريا سيتمتع بصلاحيات مماثلة لسلطات دولة (…). إن التلاعب بوحدة أراضي أية دولة انتهاك صارخ للقانون الدولي. وفي هذه الحالة لا يخص هذا الأمر سوريا تحديداً، إنه ينطبق على القضية الكوردية التي تنفجر بقوة (…). إن الدعوة إلى الانفصالية بل تمريرها بشكل نشط قد تؤدي إلى تداعيات سيئة جداً (…). كل هذا تقوم به دولة تقع بعيدة وراء البحار، أما التداعيات فستتعامل معها دول المنطقة وأوروبا وكذلك نحن بأنفسنا لأننا قريبون من هذه الأرض”.

ـ الجمعة 27/ 5/ 2022 وفي مقابلة مع تلفزيون RT قال لافروف: “الجيش الأمريكي الذي احتل جزءاً كبيراً من الضفة الشرقية لنهر الفرات ينشئ بشكل علني تشكيلات شبه دولة هناك، ويشجع النزعات الانفصالية بشكل مباشر، مستخدماً لهذا الغرض مزاج جزء من السكان الأكراد (…). لدى الجانب التركي متطلبات أمنية (…). لا يمكن لتركيا أن تقف جانباً (…). نحن نتحدث مع الأكراد (…) ونشجعهم على إلقاء نظرة فاحصة على التاريخ الحديث، التاريخ المتعلق بوعود الولايات المتحدة للأطراف، وكيف يتم الوفاء بهذه الوعود”.

من الواضح أن القيادة الروسية كانت تهدف بإطلاقها مثل هذه التصريحات إلى التحريض على الكورد من خلال استثارة عواطف الناس وتخويفهم من تقسيم بلادهم، بغية دفعهم جميعا للتحرك ضد الكورد. هذا على الرغم من أن المسؤولين الأمريكان أكدوا مراراً عدم وجود أية خطط لتعاون سياسي مع قوات سوريا الديمقراطية. ومن ذلك تصريح وليم روباك مبعوث الإدارة الأمريكية سابقاً إلى شمال وشرق سوريا الأحد 7/2/2021 في حوار مع جريدة الشرق الأوسط عندما قال: “إن ما قلناه وفعلناه وعلاقتنا مع قوات سوريا الديمقراطية كان واضحاً: إننا لا ندعم قيام دولة كوردية هناك (…) التحالف جاء لهزيمة داعش، وقسد تقوم بذلك بكفاءة”.

ما يلفت الانتباه في لغة الدعاية الروسية هنا أنها لا تتحدث عن سعي أمريكي لمساعدة الكورد على إقامة إدارة ذاتية أو حكم ذاتي مثلاً ضمن إطار سورية موحدة (لأن ذلك قد لا يثير حفيظة الكثير من الناس)، بل تستخدم عبارات “إقامة دويلة” أو “شبه دولة” أو “حكم ذاتي بصلاحيات دولة” شرق الفرات، أي الانفصال عن سوريا، أي تقسيمها، وذلك لإرضاء تركيا، ولإثارة حفيظة شعوب المنطقة وتحريضهم على الكورد “الساعين لتقسيم بلادهم”.

إن تحقيق مثل هذه الأهداف يستلزم استخدام معجم معين من المفردات. لذلك نقرأ في التصريحات المعروضة عبارات من قبيل: “استغلال الكورد” و”استخدام الكورد” للدلالة على أنهم مجرد أدوات بيد أمريكا وليسوا أصحاب حقوق، وعبارة “خطوات ملموسة” للدلالة على أن مشروع الانفصال مؤكد وغير قابل للشك، وعبارات مثل: “مغامرة خطيرة، لعبة خطيرة جدا، سيناريو إقليم كوردستان، اللعب بالورقة الكوردية، قابلية انفجار القضية الكوردية الحساسة بالنسبة لعدد من دول المنطقة، لا يمكن لتركيا أن تقف جانباً.. وتركيا محقة، الأمريكيون يسمحون للكورد بمضايقة القبائل العربية، نقل الكورد إلى المناطق العربية…إلخ“. ولإضفاء المصداقية على ادعاءاتهم صاروا يرددون أن “مَلَكيات الخليج ستقوم باستثمارات ضخمة” لدعم إقامة الدويلة الكوردية. كل ذلك بقصد التحريض وتخويف شعوب المنطقة من خطر كوردي مفترض، ولتجريم الكورد وتسويغ الاحتلال التركي وكسب ودّ أنقرة، بغية إخراج أمريكا من المنطقة كغاية قصوى.

والسؤال الآن بخصوص كل هذا التحريض والتشويه والتجييش ضد الكورد الذي مارسته روسيا على مدى سنوات (واستمر حتى بعد سقوط النظام): ما الأثر الذي خلفه وراءه على الأرض؟ وهل يتناسب ذلك مع إقرار لافروف الأخير بحقوق الكورد في سوريا موحدة؟ وهل يمكن الجمع بين هذين الضدين بسهولة؟ هل هي مصالح سياسية متغيرة أو شيء آخر؟ هذا ما سوف يتناوله القسم الثالث الأخير من المقال.

Scroll to Top