بوتان زيباري
في ليلة سقطت فيها النجوم صمتاً، وارتجفت أرض كويا تحت وقع انفجارات لا تُبررها حتى الحروب، أطلقت طهران صواريخها الباليستية كأنها تكتب شعراً بالدم، شعراً لا يفهمه إلا اليتامى والأرامل. كان ذلك في سبتمبر 2018، حيث اخترق الحرس الثوري الإيراني أجواء العراق، ليس لملاحقة عدو، بل لقصف مخيمات لاجئين، ومقرات سياسية، وقلوب أطفال نائمين. لم تكن هذه الضربات “رسالة”، بل إعلان حربٍ رسمية على السيادة، وعلى الإنسانية، وعلى أي أمل بسلامٍ يُبنى على الحوار لا على الركام.
ما فعلته إيران تلك الليلة لم يكن مجرد انتهاك للحدود، بل انتهاك جوهري لمقام الإنسان، خصوصاً حين استُهدفت كردستان، تلك الأرض التي لا تحلم سوى بالكرامة، بالحياة، بالوجود. عشرات القتلى والجرحى، بينهم نساء وصغار، دُفِنوا تحت أنقاض السياسة الميتة، بينما صمت العالم كأن الدم الكردي لا يُعدّ دماً، وكأن الموت في كردستان عادة، وليست جريمة.
ومن كويا، عبر الزمن، امتد السياط. صمتٌ دوليٌّ قاتل، حوّل الانتهاك إلى عادة، والجريمة إلى سياسة. فكلما مُرّ على الجريمة دون عقاب، زادت الجرأة. وها هي إيران، بعد سبع سنوات، تطلق مئات الصواريخ والطائرات المسيرة نحو إسرائيل في أبريل 2024، وكأنها تُعيد عرض مشهد كويا، لكن هذه المرة على مسرح أوسع، بذريعة فلسطين، وتحت شعار “المقاومة”، بينما الحقيقة أن فلسطين نفسها تُستخدم ورقةً في لعبة القوة، لا قضيةً إنسانيةً تستدعي حلولاً عادلة.
النظام الإيراني لا يحارب إسرائيل فقط، بل يحارب كل فكرة عن حوار، عن ديمقراطية، عن تنمية. حربه ضد الشعب الكردي ليست حرب حدود، بل حرب وجود. إنها محاولة مستمرة لطمس الحضارة، لقتل الأمل، لشل أي مبادرة سلمية في الشرق الأوسط. الاغتيالات، القمع، الهجمات الصاروخية، كلها تخلق بيئة من الخوف المزمن، وتُفقِد الشعوب القدرة على التفاوض، وتُحوّل المجتمع المدني إلى سجناء في وطنهم.
والمأساة الكبرى أن هذا النمط من “إبراز القوة” عبر الصواريخ يُعاد إنتاجه، ويُصبح طبيعياً، حتى يُنظر إلى القصف كردٍّ “منطقي”، بينما يُهمَش المدنيون، ويُنسَف الحوار، وتُدفن الحلول. هجوم حماس في أكتوبر 2023، ثم الضربات الإيرانية اللاحقة، ليست أحداثاً منفصلة، بل حلقات في سلسلة واحدة: حيث تُستبدل الكلمة بالقنبلة، والحوار بالدوي.
لقد كان هجوم كويا تحذيراً صريحاً: أن الصمت على إرهاب الدولة هو شراكة في الجريمة. واليوم، لا يكفي التنظيف بعد الانفجار، بل يجب منع الانفجار قبل وقوعه. يجب أن نسمي الأشياء بأسمائها: ما يجري هو إرهاب دولة، ومنظم، ومُمَول، ويُستخدم باسم الدين والمقاومة، لكنه في جوهره عبودية للقوة، وكره للسلام.
إذا أردنا فعلاً كسر دائرة الانتقام، فعلينا أن نبدأ من حيث بدأ الانهيار: من احترام السيادة، من حماية المدنيين، من وقف تطبيع العنف. لا يمكن بناء سلامٍ على ركام كردستان، ولا يمكن تحقيق عدالة للفلسطينيين عبر تدمير الكرد. الحقيقة المرة هي أن الحل العادل للقضية الكردية، الذي طالما تُهمَس به، أصبح اليوم شرطاً لا غنى عنه لأي استقرار حقيقي في المنطقة.
الدم لا يُبنى عليه وطن، والصواريخ لا تُنبئ بالغد. فقط الحوار، فقط الاعتراف، فقط الإنسانية يمكنها أن تُعيد للشرق الأوسط وجهه الإنساني، قبل أن يصبح كل شيء فيه رماداً.
* الكاتب: الدكتور مجيد حقي هو كاتب وناشط سياسي ومدافع عن حق تقرير المصير الكردي من كردستان الشرقية (إيران). وهو عضو في المركز الوطني لكردستان الشرقية (NNRK) ويشغل منصب رئيس تحرير موقع Jinamedia.net. يقيم الدكتور حقي حالياً في فنلندا.
* الترجمة من الانجليزية الى العربية بتصرف: بوتان زيباري، كاتب وسياسي كوردي يقيم زيباري حالياً في السويد.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=75588