في مناطق الصراع المسلّح المديدة والمتعددة الأطراف، تتمزّق الروابط المدنية ويجري اغتيال أوليات الحقوق الأساسية للناس بشكل منهجي ويعود قسم كبير من الناس إلى عصبيات ومسلكيات بدائية وغريزية. هذه المسلكيات تتعارض مع مفاهيم مركزية للحياة المشتركة بين الأشخاص والجماعات ومع قيم قامت عليها المدنية مثل التسامح والإخاء والبناء المشترك. إن هدم هذه القيم وتحقيرها ممّن يؤمن بأن “عدالة” القوة والعنف هي الوسيلة الأكثر نجاعة لبناء الحاضر والمستقبل وليس قوة العدالة، تعمّم المظالم والأحقاد وتجعل من الانتقام وسيلة للبقاء ولكن أيضاً، لرؤية المستقبل، وهنا الخطورة الكبيرة. لذا، لا يمكن أن نعالج موضوع السلم الأهلي بمنطق من جعل الصراعات الأهلية وسيلة للحكم وطريقاً لتنظيم العلاقة بين الأشخاص والجماعات في أي بلد.
من هنا، لا يمكن أن يقوم السلم الأهلي على النوايا الطيبة وحدها، ولا على إقامة مؤتمر وطني بين “مكوّنات” وشرائح المجتمع. وعلى نحو مماثل، لا يقوم السلم الأهلي على مجرّد المصالحة بين الناس، إذ لا بدّ من عمل شامل ومتكامل، يأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المجتمع السوري والآثار السلبية التي خلّفتها الحروب الهجينة، على كافة المستويات، النفسية-الاجتماعية والمادية. وبناءً على ذلك، لا بدّ من البحث في مقوّمات السلام المجتمعي الاقتصادية-التنموية، والاجتماعية-السياسية، والقانونية-التشريعية، والمدنية-البيئية، والثقافية العابرة للأديان، والتربوية-التعليمية، والطقسية-الفولكلورية، وما إلى ذلك. بالإضافة إلى ذلك، لا بدّ من التأسيس على محاكمات عادلة بعيدة عن الثأرية، قائمة على أعلى درجة ممكنة من التسامح، الأمر الذي لا بدّ منه وخاصة بعد النزاعات المسلّحة التي شارك فيها قسم كبير من السوريين ومن كل شرائح المجتمع السوري، على المستوى الطائفي والقومي.
تتعدد الأسباب في تهديد السلم الأهلي في سورية. منها ما هو سياسي، إذ تعرّضت سورية لحكم استبدادي ديكتاتوري لأكثر من نصف قرن؛ ومنها ما هو تاريخي ناتج عن ترسبات الماضي من خلال الجهل المؤسس الذي كرّسته السلطات القائمة منذ تأسيس الدولة السورية، والجهل المقدس الذي تمّ تصنيعه من خلال صناعة الرأي العام السوري من السلطة السابقة والمعارضة، على حد سواء، في أثناء فترة الانتفاضة السورية والنزاع المسلّح بين السلطة والمعارضة؛ ومنها ما هو خارجي بسبب التدخلات الخارجية في الشأن السوري؛ ومنها ما هو ثقافي واجتماعي وحقوقي واقتصادي. إنّ الحصار الاقتصادي على الشعب السوري وحالة إفقار المجتمع وانهيار مؤسستيْ التعليم والصحة وانتشار الفساد بشكل منهجي، والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان والجرائم المرتكبة من السلطة السابقة الاستبدادية واستمرارها مع سلطة الأمر الواقع، كل هذه الأسباب تحتاج إلى بحث معمّق لكل سبب منها كي نحدّد بدقة تأثير كل سبب على السلم الأهلي.
هذه الأسباب كلها جعلتنا أمام واقع مرير علينا الاعتراف به، فنحن أمام مشكلة كبيرة وعميقة ومعقّدة على مستوى السلم الأهلي، تتطلّب تضافر كافة الجهود، ومن كافة الأطراف المؤثّرة لحلّ تلك المشكلة، لأنه من دون حلّها، لا فائدة من أي عمل لبناء الدولة السويّة الجديدة.
وعليه، فلا بدّ من تحليل معمّق للوضع السوري من كافة جوانبه، وتقديم مقترحات لعمل عاجل، وخطط متوسطة المدى وأخرى استراتيجية بعيدة المدى، لإعادة بناء المجتمع السوري، بما يضمن عودة الحياة الطبيعية وتضميد الجراح ورأب الصدع وتحقيق السلم الأهلي، وصولاً إلى التآخي في بوتقة مواطنة عادلة تضمن الحريات والحقوق المتساوية وتصونها. وكذلك، لا بدّ من البحث في آليات توظيف طاقات السوريين كافة بما يقود إلى اشتغال وطني جامع يساهم فيه الجميع لبناء دولة عصرية تسودها العدالة وحكم القانون وتنتفي فيها إمكانية ديمومة منطق الحروب الأهلية.
من أجل تكريس السلم الأهلي في سورية، علينا البحث في الواقع كما هو الآن، والآثار المدمّرة لما حصل ويحصل على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والعمراني والنفسي، وكذلك طبيعة القوى الاجتماعية والسياسية والمدنية والأهلية والدينية الفاعلة على الأرض ومدى تأثيرها في صناعة السلم الأهلي في سورية وتحديد دورها والتشبيك بينها والتعاون البنّاء في ما بينها للوصول بالمجتمع إلى برّ الأمان.
#الكتلة_الوطنية_السورية
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=75958





