أرشيف الوسم: حليم يوسف

حليم يوسف: عن حلم بناء مؤسسة ثقافية

راود حلم بناء مؤسسة ثقافية مخيلتي منذ بداية شبابي وشغفي بالكتابة الأدبية التي تحكمت بحياتي منذ يفاعتي وحتى الآن. ولأن الكتابة فعل فردي، غالباً ما تجبر صاحبها على اللجوء إلى العزلة. ويتشرب معظم ممتهني الكتابة مع مرور الزمن عذوبة هذه العزلة، فيألفونها وتصبح لهم وطناً ملؤه الوحشة والحزن. نظراً لخصوصية وضعنا السياسي والاجتماعي والثقافي، فقد كانت إحدى عيني على العزلة لأستمر في الكتابة والعين الأخرى على مؤسسة ثقافية مستقلة تدار بعقلية إدارية، مهنية، بعيدة عن سطوة السياسة وتجاذباتها الأيديولوجية المتناقضة مع الثقافة قلباً وقالباً.

لا يخفى الوضع الثقافي المزري الذي كان سائداً في سوريا لمدة نصف قرن على أحد. ومنذ تشكيل الدولة الأمنية فقدت المؤسسة الثقافية معناها بتحولها إلى “فرع” أمني تابع لوزارة الثقافة التابعة بدورها لجهات أمنية تدير كل شاردة وواردة فيها ابتداءً من تعيين الوزير مروراً بموظفيها وانتهاءً بتعيين الناطور الواقف على باب مبنى الوزارة.

كان واضحاً أن التحدث عن مؤسسة ثقافية تمارس عملها وفق المعايير المهنية في ظل النظام السوري يعتبر ضرباً من الخيال وحلماً لا يراود سوى بعض المنفصلين عن الواقع. كما أن أية محاولة لبناء مثل هذه المؤسسة الثقافية سواءً من قبل الأفراد أو بعض الجهات السياسية أو من قبل مؤيدي النظام نفسه كانت محاولة محكوم عليها بالفشل الذريع. في حين أن المعارضة، على قلتها وضعفها، كان محكوم عليها إما بالموت أو بالتغييب في السجون.

ومع بدء ما سمي بالربيع العربي وانتقال قافلة الخراب التي رافقته إلى سوريا، انزاحت قبضة السلطة الحديدية بشكل جزئي عن بعض المناطق وساد البلاد وضع آخر مختلف تماماً وجديد، وقد رافق التحرك السياسي والجماهيري للسوريين في الشوارع والذي تحول فيما بعد إلى صراع مسلح، محاولات ملفتة من قبل بعض المنخرطين في العمل الثقافي لإحياء ذلك الحلم الثقافي القديم الذي كان يراود مخيلة الكثيرين وكنت أحدهم. وتشكّلت اتحادات للمثقفين وللصحافيين وللكتاب بدأت تتأهب لطي صفحة المنظمات الثقافية الشكلية التابعة للنظام من “اتحاد الكتاب العرب” و”اتحاد الصحافيين” وغيرها. ولكي لا يتشعب الموضوع سأكتفي بذكر تجربتي مع ما سميت برابطة الكتاب السوريين بشكل مقتضب. وبالتوازي مع تأسيس هذه الرابطة التي كنت أحد المشاركين في مؤتمرها التأسيسي في القاهرة سنة 2012 كان هناك اتحاد آخر تحت مسمى “الكتاب الأحرار”، تبين فيما بعد أن هذا الاتحاد هو الفرع الأدبي غير المعلن لجماعة “الإخوان المسلمين”، في حين أن رابطة الكتاب السوريين هو الفرع الأدبي غير المعلن للتشكيلة السياسية التي كانت تعرف ب “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” بشكل رسمي، وهي لم تكن سوى مجموعة مؤلفة من خدم صغار لدى الأمن التركي بشكل غير رسمي، وبات عملها ينحصر في تنفيذ أجندة الاستخبارات التركية على الأرض السورية عبر أذرعها السياسية والعسكرية. وتبين فيما بعد بأن هذه المنظمات الثقافية من حيث الجوهر لم تكن سوى الوجه الآخر، المقلوب، من المنظمات الثقافية التابعة للنظام السوري. والمفارقة التي حدثت معي هي أن طلب عضويتي لاتحاد الكتاب العرب التابع للنظام قد رفض بسبب أمني”خطر على أمن الدولة”، في حين تم طردي من “رابطة الكتاب السوريين” التابعة “للمعارضة” بسبب تأييدي لجهة متحالفة مع النظام. والمقصود هنا هو تأييد “وحدات حماية الشعب” والدفاع عنها وعن حزب” الاتحاد الديمقراطي” الكردي الذي يعتبرونه حليفاً للنظام. في حين كان أعضاء رابطة الكتاب السوريين من الشعراء والكتاب، منهم من كان شيوعياً وماركسياً ومنهم من كان معتقلاً سابقاً ويسارياً، يصفقون فرحاً لانتصارات “جبهة النصرة” ويكتبون قصائد حماسية احتفالاً بفتوحات “المسعودي” في إدلب وسيطرته مع مجاهديه عليها.

في تلك الأثناء كان صدى كلمات صاحب فكرة تأسيس رابطة الكتاب السوريين وهو يدعوني لحضور المؤتمر التأسيسي لها حول سوريا الجديدة والمؤسسة الثقافية المستقلة يتردد في أذني مثل “جعجعة بلا طحن”. وعلى الصعيد الكردي كان تأسيس “اتحاد مثقفي غربي كردستان” خطوة متقدمة في هذا الاتجاه. تأسس الاتحاد في أوربا بعد انتفاضة الثاني عشر من آذار في العام 2004 بهدف الوصول إلى بناء جسم ثقافي حيوي يعمل بشكل مهني بعيداً عن المنافسة الحزبية الكردية. ومنذ العام 2018 انتقل مركز الاتحاد إلى داخل الوطن لتشكيل مظلة ثقافية تجمع كل المشتغلين في الحقل الثقافي بغض النظر عن الانتماءات الحزبية والاتجاهات السياسية لهؤلاء، خاصة أن الساحة الثقافية الكردية تتوزع بين اتحادات ومنظمات تابعة للأحزاب السياسية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وعاد الحلم بتأسيس منظمة جامعة تطغى عليها الهوية الثقافية لصالح تغييب الانتماءات السياسية يراود الكثيرين منا.

ودرءاً للإطالة فإنني سأكتفي بعرض النتيجة وهي أن هذا المشروع تم إجهاضه منذ الأيام الأولى بتأسيس اتحادات للمثقفين، وأصبح لكل مقاطعة أو مدينة اتحاده الخاص للمثقفين، وازداد كل اتحاد ثقافي أو اتحاد للكتاب تمسكاً بالجهة التي يتبع لها. وأصبح “اتحاد مثقفي غربي كردستان” رغم تميزه ونشاطه المتفرد، رقماً مضافاً إلى أرقام اتحادات أخرى، لم يستطع أن يجمع تحت مظلته الثقافية الواسعة سوى أعضائه فقط، وبقيت الاتحادات والمنظمات الأخرى تتابع عملها ” الحزبي” وكأن شيئاً لم يكن. في حين لم تعد فكرة تأسيس مؤسسة ثقافية مستقلة تراودنا حتى في الأحلام.

المصدر: نورث برس

الأدب الكردي عربياً: تصحيحاً لخطأ شائع – حليم يوسف

أجرت الروائية الكردية السورية مها حسن مؤخراً بعض الحوارات المتعلقة بالأدباء الكرد الذين يكتبون بالعربية، وقد تطرقت إلى موضوع الخطأ الفادح السائد في الأوساط الثقافية العربية بخصوص تقديم الأدب الكردي إلى القارئ العربي باختصار شديد. في هذا المقال أودّ التطرق إلى هذا الموضوع بشيء من التفصيل، إذ نشأ جيلي والجيل الذي يسبقني من الكتاب الكرد السوريين في أجواء عربية محضة، وفي ظل غياب تام للغة الكردية المكتوبة وللكتب والصحف والمجلات الورقية الكردية، فوق أن ما كنّا نتداوله بيننا هو مجموعة دواوين شعرية مطبوعة بسرية تامة، بطباعة رديئة غالباً، بالإضافة إلى بعض المجلات الحزبية الكردية التي كانت تطبع وتوزع في السر و بشكل “غير قانوني”.

ظلت سوريا بعيدة عن انتشار الإنترنيت ووسائل التكنولوجيا الحديثة حتى مطلع الألفية، وهو أول عام لي بعد الخروج من سوريا. والحال، أنني لم أعايش دخول شبكة الإنترنيت وتبعاتها من وسائل التواصل الاجتماعي والإلكتروني إلى سوريا، وفي ظل دكتاتورية عسكرية تقاد من قبل أجهزة أمنية تستقي توجهاتها الفكرية والسياسية من حزب شوفيني عربي هو البعث، وفي دولة كانت العربية هي لغتها الوحيدة الرسمية وتُمنع فيها اللغة الكردية منعا باتاً. كان البحث عن منفذ لانتعاش الأدب الكردي ضرباً من العبث.

في هذه الأجواء المشحونة بالكراهية والمحملة بهوس اللغة الواحدة، والعلم الواحد، والقومية واحدة، والدين الواحد، والشعب الواحد، واختزال كل ذلك في فرد واحد هو “الرئيس”، لم يكن أمام الكرد ولغتهم وثقافتهم وأدبهم سوى الانزياح إلى الهامش والإنكفاء على نفسهم في الظل، في محاولة مستميتة لمقاومة الاندثار والاستبسال في سبيل البقاء.

طوال عقود طويلة من غياب الثقافة الكردية في سوريا، لم يخلُ الأمر من محاولة بعض القائمين على المجلات الثقافية العربية، وخاصة من المنتمين إلى الأوساط اليسارية، إلى الإشارة إلى وجود ثقافة كردية مغيبة ولفت النظر إليها، إلا أن ما كان يقدم للقارئ العربي هو أدب عربي مكتوب من قبل كتاب ينحدرون من أصول كردية، ولم تكن لهذه النتاجات أية علاقة مع الأدب الكردي، أو الأدب المكتوب باللغة الكردية، ولا أنكر مساهمتي الشخصية في نشر هذا الخطأ الجسيم بحق الأدب الكردي، وخاصة في بداياتي، إنطلاقاً من اعتقاد ساذج يحيل هوية الأدب إلى الانتماء القومي لمنتجه، بغض النظر عن اللغة التي يكتب بها هذا الأدب. في حين أن اللغة هي العامل الحاسم في تحديد هوية الأدب، بغض النظر عن جنسية منتج هذا الأدب أو قوميته. كنت في ذلك الوقت أقرأ نتاجات يشار كمال المترجمة إلى العربية على أنها روايات وقصص من الأدب الكردي، ونعتبر كتابات سليم بركات، على سبيل المثال، كتابات تنتمي إلى الأدب الكردي. لكن، فيما بعد اكتشفنا بأن كل العالم يقرأ نتاجات يشار كمال ويقر على أنها أدب تركي وأن مسألة انتمائه إلى عائلة كردية لا قيمة “إبداعية” لها وهي مسألة هامشية ولا تلعب دوراً في تحديد هوية أدبه. كذلك الأمر بالنسبة لسليم بركات الذي كنّا نعتبر أن له دور في الشعر الكردي أو الرواية الكردية، تبين فيما بعد، وهذا هو الصواب، أن لا علاقة لبركات لا بالشعر الكردي ولا بالرواية الكردية، وهذا لا يعني التقليل من شأن الرجلين على الإطلاق؛ فمكانة كمال في الأدب التركي محفوظة، وكذلك فإن مكانة بركات في الشعر العربي وكذلك في الرواية العربية مصانة، ولها حضورها المرموق في هذا السياق.

أن تتحدث أم الكاتب أو أباه الكردية لا يجعل منه كاتباً كردياً بالضرورة، إذ إن ما يجعل من الكاتب أو من الأدب كردياً هو اللغة المكتوبة، واللغة فقط، بغض النظر عن لغة الأب أو الأم، وينطبق الأمر نفسه على شيركو فتاح الذي يعتبر كاتباً ألمانياً، رغم أصوله الكردية، كما أن كاروش طه ورونيا أوصمان كاتبتان تنتميان إلى الجيل الجديد في الأدب الألماني، رغم أصولهن الكردية.

بالعودة إلى موضوعنا الأساسي، فإن أول ملف متكامل عن الثقافة الكردية، على حد علمي، هو العدد الخاص من دراسات اشتراكية، مجلة الحزب الشيوعي السوري-جناح يوسف فيصل، كان ذلك في نهاية الثمانينيات وبداية تسعينيات القرن المنصرم، حين تم تكليف آحو يوسف بإعداد الملف، على ما أذكر. وقد استدعاني وقتها معدّ الملف مع صديق آخر هو الشاعر طه خليل، لفرز مواد العدد الصالحة للنشر واستبعاد المواد غير الصالحة للنشر، وقد تم الفرز في مكتب المجلة في دمشق بحضور رئيس التحرير وقتذاك ظهير عبدالصمد، إثرذاك تم نشر النتاجات العربية التي كتبها الكتاب الكرد على أنها نتاجات تنتمي إلى الأدب الكردي في سوريا. لا شك أن النية الحسنة هي التي تقف وراء إعداد و نشر هذه الملفات، لكن النيات الحسنة، مهما كانت صادقة، لا تكفي لأن تقدم للقارئ أدباً كردياً، خاصة إذا كان هذا الأدب قد كتب بلغة أخرى غير الكردية، وتتالى نشر مثل هذه الملفات في الكثير من المجلات والدوريات الثقافية العربية، وعلى الدوام تم تقديم الأدب العربي للقارئ وتسميته خطأ بالأدب الكردي، ولا بد من القول بأنها ظاهرة جميلة ويمكن الاستمرار في ترسيخها، لكن بشرط تقديم هذه النتاجات على أنها إسهامات الكتاب الكرد في الأدب العربي، وأن لا علاقة لكل هذا بالأدب الكردي الذي له سياق مختلف.

بناءً على ما سبق: أنقل أمنيتي إلى المعنيين بأمور الثقافتين الجارتين، العربية والكردية، بضرورة تصويب هذا الخطأ الشائع الذي يتكرر في حياتنا الثقافية منذ عقود، ووضع النتاجات الأدبية التي يكتبها الكتاب الكرد بالعربية في سياقها الصحيح.

المصدر: نورث برس

لماذا لا توجد دراما تلفزيونية كردية؟

حليم يوسف

تلفت نظري تعليقات و ملاحظات مشاهدي المسلسلات السورية والتركية من الكرد، المتعلقة بغياب الحالة الكردية بالمطلق في المسلسلات السورية، خاصة أنهم يجدون نفسهم جزءاً من العوالم الواقعية التي تتحدث عنها بعض تلك المسلسلات، في حين تغيب قضيتهم عن الشاشات بالمطلق من خلال التجسيد الفني والدرامي لهذه العوالم. ولا يتوانى بعضهم من الشكوى والتساؤل حول هذا التغييب المقصود للمشكلة الكردية بكل تجلياتها الدراماتيكية. علماً أن المخرج قد يكون كردياً في بعض المسلسلات، وأن يكون كاتب السيناريو كردياً في مسلسلات أخرى، ولا يخفى على أحد الحضور الكردي الكثيف نوعاً ما للممثلات والممثلين الذين يلعبون أدواراً رئيسية فيها.

في الدراما التركية تحضر الحالة الكردية من خلال تقديمها كمفرخة للإرهابيات والإرهابيين أو كحاضنة لقطاع الطرق المنتمين إلى بيئة قروية، بدائية، في أفضل الأحوال. وغالباً ما تلقى هذه المسلسلات التركية الاستهجان والاستنكار من الجمهور الكردي العريض الذي يرى في هذه المسلسلات شكلاً من أشكال الحرب الخاصة الممولة من أذرع الدولة الدرامية والتي تعتبر امتداداً للحرب الدموية التي يخوضها الجيش التركي ضد بناتهم وشبابهم الذين يحتمون بالجبال لمواصلة قتالهم في سبيل الحرية.

وفي البلدين، سوريا وتركيا، تعج ساحة الدراما التلفزيونية بكوادر كردية تساهم في خلق ورفع مستوى هذه الأعمال الدرامية في كل المجالات، ابتداء من الإخراج والسيناريو، مرورا بالإضاءة وتقنيات الصوت وانتهاء بالديكور والإكسسوار. والسؤال الذي يحضرني هنا، لماذا تغيب الأعمال الدرامية الكردية عن شاشات الفضائيات الكردية، رغم أعدادها الهائلة؟ خاصة أن أول فضائية كردية، “مد تيفي”، تأسست في آذار/مارس العام 1995 في بلجيكا، حتى قبل أن تتأسس الفضائية السورية.

ثم هل يبرر عدم وجود دولة كردية، عدم وجود مسلسلات كردية؟ رغم أهمية وجود الدولة، نظراً لما تلعبه مؤسساتها في هذا المجال، إلا أن ذلك لا يكفي، ولا يجوز أن نعلق كل خيباتنا السياسية والإدارية والفنية على مشجب غياب الدولة. إذ إن هناك الكثير من الدول التي ينعدم فيها الإنتاج الدرامي بالمطلق. ومن هذا المنطلق يمكننا الحديث عن كيانين إداريين يلعب الكرد فيهما دوراً محورياً. أحدهما كيان دستوري، فيدرالي تشكل في كردستان العراق منذ العام 1991، يدار من قبل الحزبين الرئيسيين في الإقليم، الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل والاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية. ولكل من هذين الحزبين عشرات الفضائيات التي يمكنها إنتاج وبث المسلسلات الدرامية، لكنها لا تفعل. والكيان الآخر غير دستوري وغير معترف به بشكل رسمي على المستويين الإقليمي والعالمي، وأقصد به الوضع السائد في شمال شرقي سوريا والذي يدار بشكل أساسي من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي وحلفائه منذ العام 2012 وحتى الآن.

تتوزع هذه الفضائيات الكردية بين قنوات إخبارية، سياسية في معظمها وتقدم الكثير من البرامج السياسية والقليل من البرامج الثقافية، إلى جانب الأغاني المصوّرة، في حين تغيب الأعمال الدرامية بشكل تام، وإن ظهرت فإنها لا تتعدى سوى محاولات خجولة قائمة على جهود بعض الأفراد المجتهدين الذين لا تلبث أن تصطدم محاولاتهم الجادة في النهوض بالدراما الكردية بجدار الإمكانيات التقنية والمالية الضعيفة، فما من مخصصات مالية كافية يتم رصدها لهذا الأمر. وهكذا تموت المحاولة تلو المحاولة في المهد. أو أنهم يخصصون التكلفة المادية التي لا تكفي لحلقة واحدة من مسلسل شيق، لعشرات الحلقات، وهكذا يتم عرض مسلسلات باهتة بين الفينة والأخرى، يكف الناس عن مشاهدتها بعد الحلقة الأولى أو الثانية. هذا عدا عن المسلسلات الكسيحة التي تروج لإيديولوجية الحزب الذي يمول تلك الفضائية.

ثمة عدد كبير من المخرجين والممثلين والتقنيين الكرد الأكفاء الذين يستطيعون النهوض بالحالة الدرامية الكردية، من خلال إنعاشها وبث الروح فيها وتطويرها، وينقسمون إلى قسمين. قسم يعمل لدى جهات غير كردية ويشاركون ببراعة في إنتاج درامي لا علاقة له بالكرد أو بالمسألة الكردية لا من قريب ولا من بعيد. والقسم الآخر يعمل في فضائيات كردية حزبية، و يدار من قبل أناس غير مهنيين يتم تعيينهم من الحزب ويكون لهم القول الفصل ويتحكمون بكل القرارات النهائية المتعلقة بصرف الأموال والعمل على المشاريع. هذا عدا عن الفساد المستشري في هياكل هذه الإدارات ومنها إدارات الأقسام المتعلقة بالمشاريع الفنية. من ناحية يتم تقليل المخصصات لهذه المشاريع على اعتبارها ليست مهمة بقدر أهمية نشر أخبار تبث من خلالها صور الزعيم وأخباره ولقاءاته “التاريخية”، ومن ثم العمل على ذهاب هذه المخصصات، على قلتها، إلى جيب المدير الحزبي وبعض المتعاونين معه في القسم الفني.

دفعت الظروف القاهرة التي تخضع لها عملية الإنتاج الدرامي الكردي بعض الأفراد الموهوبين للجوء إلى اليوتيوب لصنع دراما كردية تحظى بالانتشار والمتابعة، رغم جذب بعضهم لعشرات الآلاف من المتابعين، إلا أنها ظلت محاولات متعثرة لم يكتب لها الاستمرارية والنجاح. يمكننا إرجاع هذا التعثر إلى عاملين أساسيين، أولهما شخصي يتجسد في غياب التخصص المهني، كأن يقوم الشخص نفسه بعمليات الإخراج وكتابة السيناريو والتمثيل والتصوير معاً، وثانيهما موضوعي يتعلق بانعدام الإمكانيات المادية اللازمة لتأمين الاحتياجات التقنية الحديثة وتأمين الكوادر الفنية اللازمة لصنع عمل درامي فني متكامل ورفيع المستوى.

لكن، في المقابل، لماذا لا تخصص الفضائيات الكردية ميزانية معتبرة للدراما الكردية؟

يصعب الحديث عن دراما كردية في ظل غياب تام للتسويق ولشركات الإنتاج التي تخصص رساميلها للإنتاج الدرامي. وتظل الفضائيات الكردية هي الجهة الوحيدة، على الأقل حتى الآن، القادرة على انتشال الجمهور الكردي من متاهة البحث عن مقطع لأغنية كردية رديئة أو عزف بائس على الطنبور في هذا المسلسل العربي أو ذاك، ووضعه في مكانه الذي يليق به، من خلال صنع دراما تلفزيونية تخاطبه بلغته وتتناول مشاكله، فيرى نفسه فيها ويتابعها بشغف.

هل سيستمر القائمون على هذه الفضائيات في عدم احترام الجمهور الكردي وإبقائه بعيداً عن شاشاتها، من خلال متابعتهم لدراما تلفزيونية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، أم أنهم سيعمدون إلى ملء هذا الفراغ الهائل وجذب جمهور الدراما التلفزيونية، من خلال إعطاء بعض الأهمية لهذا الموضوع وتخصيص ميزانية مستحقة لها. بكلمات أخرى، وحسب المثل الكردي الدارج، هل سيتم انتزاع المواد اللازمة لصنع “الخبز” من يد المدير الحزبي وتسليمها إلى يد “الخباز”؟ هذا ما لن أتوقع حدوثه في المستقبل القريب.

المصدر: نورث برس

الثقافة السورية الموزعة بين جزر متباعدة

حليم يوسف

بعد نصف قرن من التخدير العام، استيقظ الجسد السوري فجأة من السبات البعثي، العروبي، ليجد نفسه أمام حقيقة لا تسرّ أحداً. وهي أن هذه “الوحدة العضوية” التي تجمع بين أعضاء هذا الجسد لم تكن إلا مظهراً خارجياً، ديكوراً جميلاً صنعته القبضة الحديدية لسلطة عسكرية، مخابراتية، اختزلت الوطن في حزب والدولة في جهاز مخابرات.

حولت السلطة هذه الوطن والحزب والدولة والأجهزة الأمنية كلها إلى خاتم في يد فرد واحد أوحد، القائد الخالد والأبدي الذي يمسك بكل خيوط الماضي والحاضر والمستقبل في يده. يد اختزلت بدورها كل ألوان الجسد السوري في لون واحد، داعية الجميع للركون إلى حقيقة مطلقة غير قابلة للنقاش، وهي أن هذه البلاد التي تسمى سوريا ماهي إلا “قُطر” من أقطار عديدة أو جزءاً من وطن أكبر متجانس هو الوطن العربي، وكل من يعيش فيه هو عربي بالضرورة وله لغة رسمية واحدة هي العربية والكل ينتمي إلى “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”.

هذه هي العباءة السوداء التي كانت تغطي حقيقة جسد منهك من الداخل، يتداخل تحت جلده نسيج قومي وديني ومذهبي وطائفي مختلف الألوان. وأصبح للعباءة ذات اللون الواحد سياقها الواضح والمعلن، وللنسيج الخفي المتلون سياقا آخر، بحيث يغذي كل مكون من مكونات هذا النسيج نفسه بمسببات الحياة والاستمرار بمعزل عن المكون الآخر. وساهم مرور عقود من الزمن على تفاقم أزمة العلاقة بين السياقين من جهة، وازدياد الشرخ الروحي والوجداني والفكري بين مكونات هذا النسيج من جهة أخرى، حتى باتت غريبة عن بعضها، وكأنها تقيم في جزر معزولة عن بعضها، رغم تجمعها العضوي في جسد واحد.

عباءة سوداء أم ثوب من رقع ملونة؟
ما حدث بعد العام 2011 هو إزاحة القبضة الحديدية عن جزء من الجسد ومعها العباءة السوداء، فبدا الثوب الذي يغطي الجسد وكأنه مجموعة رقع متعددة الألوان وقد تمت خياطتها بطريقة رديئة. ولا يحتاج الأمر سوى لحركة خفيفة حتى تتساقط الرقع على الأرض. وهكذا فرضت الظروف الجديدة على كل رقعة أو كل مكون الدخول في معركة البقاء والاستمرار في الحياة. وبدأت حروب الرقع المتنافرة باللجوء إلى طلب المساعدة والاستقواء بجهات وقوى ما وراء الحدود.

وفي ظل غياب العمل على تشكيل الهوية الوطنية السورية الجامعة لنصف قرن، انكفأ كل مكون من مكونات هذا النسيج على ذاته وبرزت هويات متعددة بتعدد المكونات القومية والطائفية والمذهبية والعشائرية والعائلية والتي كانت لها امتدادات إلى ماوراء الحدود. وهكذا كانت إيران وحزب الله وروسيا أقرب إلى النظام من السوري المعارض، وكانت تركيا وقطر والسعودية أقرب إلى المعارضة من السوري الموالي للنظام، وكان الكردي القادم من تركيا والعراق وإيران أقرب إلى الكردي السوري من السوري الموالي أو المعارض. ووصل الأمر بالنظام إلى قتل السوريين المعارضين بسلاح الجيش الروسي، وتحولت المعارضة السورية المسلحة إلى جيش من المرتزقة يتقدم الجيش التركي لقتل الكرد السوريين وسفك دماء السوريين من الموالين للنظام، بل واحتلال الأراضي السورية لصالح الجيش التركي، وبلغ الأمر ببعض قوى المعارضة السورية المسلحة إلى خوض حروب الجيش التركي في ليبيا وأذربيجان.

الخارطة السياسية والخارطة الثقافية
كان لا بد من رسم الخارطة السياسية للحالة السورية الراهنة، وإن كانت بتكثيف شديد، لفهم الخارطة الثقافية السورية التي تبدو أشد تعقيداً من الحالة السياسية. وإذا كانت الجبهات السياسية والعسكرية في سوريا الحالية تتوزع بين ثلاث جبهات رئيسية، فإن الثقافة السورية تتوزع بين جزر كثيرة متباعدة لا علاقة لها ببعضها. يمكن تسليط الضوء على ثلاث جزر منها فقط، بما هي انعكاس يحاكي الحالة السياسية الراهنة:

أولاً- الثقافة “الرسمية”:لم تستطع التغيرات التكنولوجية والمعلوماتية والانفتاح الهائل، الذي لا حدود له في وسائل الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي، من تغيير الذهنية التي تدار بها المؤسسات الثقافية السورية الرسمية. عصفت الأحداث بسوريا من أقصاها إلى أقصاها، ابتداءً من قتل مئات الآلاف من السوريين، مروراً بهجرة وتشريد الملايين منهم وانتهاءً بمئات آلاف الجرحى والمعاقين والمفقودين والسجناء، كل ذلك ساهم في تعميق الشرخ الثقافي بين السوريين. ولم يتغير أي شيء وبقيت الحالة الثقافية على حالها حبيسة مؤسسات كسيحة و”اتحاد للكتاب العرب” يتخذ من الموافقة الأمنية شرطاً لقبول العضوية فيه.

ثانياً- الثقافة الموازية: نحت الثقافة التي أنتجتها المعارضة منحى مطابقاً لثقافة النظام من حيث البنية الذهنية، ومنحى معاكساً له من حيث الصبغة الأيديولوجية التي اتخذت طابعاً دينياً إلى حد كبير. هذا عدا عن الاحتكام إلى مؤشرات تحيل إلى الجهات الممولة، حيث لعب المال القطري،مثلاً، دوراً محورياً في هذه الثقافة، إلى جانب الدعم اللوجستي والمالي التركي وحضور أجندة الإخوان المسلمين في كافة المؤسسات الثقافية من جمعيات واتحادات وما إلى ذلك من تسميات لا تحمل من الثقافة سوى اسمها.

لكاتب هذه السطور تجربة شخصية متواضعة مع “اتحاد الكتاب العرب” التابع للنظام ومع “رابطة الكتاب السوريين” التابعة للمعارضة، قد تغني عن سرد الكثير من التفاصيل بهذا الخصوص. تم رفض طلبي للانتساب إلى اتحاد الكتاب العرب التابع للنظام في سوريا لأسباب أمنية. وتم طردي من رابطة الكتاب السوريين التابعة للمعارضة بتهمة تعاملي مع جهة متحالفة مع النظام.

ثالثاً- الثقافة الكردية: من المفارقة القول أن العصر الذهبي للثقافة الكردية في سوريا كان في سنوات الاحتلال الفرنسي لسوريا، حيث صدرت جريدة هاوار بالكردية في دمشق، بعد أن حصل صاحبها جلادت علي بدرخان على ترخيص رسمي لها من الفرنسيين. وهي الجريدة التي كرست الأبجدية اللاتينية للكردية الحديثة. وأنشأ الشاعر جكرخوين ورفاقه النادي الكردي في عاموده، عدا عن الكثير من الجمعيات والتجمعات الثقافية. وقد توقف منح التراخيص للمنشورات الكردية بعد رحيل الفرنسيين، ودخل النشاط الثقافي والسياسي الكردي منذ الاستقلال وحتى الوقت الحاضر في طور الحالة السرية. وبقيت اللغة الكردية تنتعش حينا وتكبو حيناً آخر في الظل. وربما تكون الجزيرة الأكثر عزلة للثقافة السورية هي جزيرة الكتاب الكرد السوريين الذين يكتبون باللغة الكردية.

وثمة جزر أخرى صغيرة تتوزع بين هذه الجزر الثلاثة الرئيسية التي تطرقنا لها، وهي جزر متنافرة، ما من جامع يجمع بينها سوى الانتماء الجغرافي إلى نفس المكان. وفي الوقت الذي يصغر فيه العالم وتتقارب الثقافات من بعضها وتنتعش من خلال انفتاحها على بعضها، نجد الجزر الثقافية السورية تزداد تنافراً وتباعداً من خلال تكريس اللون الواحد وعدم الاعتراف بالآخر وإنكار حقه في المساواة وحرمانه من حقه في تقرير مصيره بنفسه، وهو حق أساسي نصت عليه جميع المواثيق الحقوقية.

المصدر: نورث برس

حليم يوسف يجمع ’99 خرزة مبعثرة’

محمد الحمامصي

تبدأ أحداث رواية “99 خرزة مبعثرة” للروائي حليم يوسف بجريمة قتل لمهاجر كردي في ألمانيا ثم تعود إلى كردستان الممزقة.. لتنتقل بعد ذلك بينهما، محاولة تتبع أحلام “ازادو” العريضة المتمثلة فى مجرد الحصول على وطن يحتويه. وممزقا بين ثلاث لغات؛ لغته الأصلية الكردية، والعربية بطبيعة الحال، والألمانية التي تعلمها.. وعمله كمترجم للاجئين، متنقلا بين اللغات كأن قدره ألا يستقر على لغة واحدة تعبر عما بداخله. شتات وهجرة وهروب وترحيل.. حياة وموت وأحلام ساطعة وأحلام موءودة.. حب وهجران وخيبة ونصر وهزيمة.. أمل وألم وتمزق.. أكراد وعرب وألمان.

يتناول حليم يوسف في روايته التي ترجمها جوان تتر وصدرت عن دار صفصافة كل هذا في مزيج وتناغم مذهل، متنقلاً بمهارة بين الداخل/ النفسي، والخارج/ الواقعي راسماً رحلة طويلة تدور عن تمزق الأوطان، وضياع الإنسان- بمعناه المجرد- في محاولاته الدؤوبة لمجرد العيش، والحفاظ على ما تبقى من ذكريات بعيدة لشوارع وبيوت وساحات بلده البعيد.

حليم يوسف

بطل الرواية اليتيم آزادو العامودي ـ نسبة إلى عاموا من مدن محافظة الحسكة على الحدود السورية التركية ـ الذي ذهب إلى ألمانيا بعد انهيار الدولة وأصبح لاجئًا في مخيم هناك. يختار الترجمة كمهنة من خلال الحصول على حق الإقامة، يعتقد أن الترجمة تبني جسراً بين شخصين.لكن آزادو ليس مترجمًا لأناس سعداء. مثله، هاجر مئات الأشخاص وعانوا من أمراض عقلية في جزء من ألمانيا. أصبح نقل الآلام والمعاناة الشديدة لهؤلاء الأشخاص إلى علماء النفس ومديري الدولة عبئًا متزايدًا عليه. لذا فإن الموضوع الأهم للرواية يدور أكثر ما يدور حول علم نفس اللاجئين واللاجئين، وإن كانت نشأة آزاد يتيما، فإن هذا اليتم يخلق له عقلية مختلفة.

إننا بفضل “99 خرزة مبعثرة” نشهد معاناة الهجرة، وتجارب الأبطال المثيرين للاهتمام، وصدمات بلد منقسم، ونتعرف أيضًا على القصة السرية لحب قديم. مع المشاهد والمواقف الواقعية. وبالنهاية نحن أمام رواية بانورامية وقصة ذات طابع إنساني مع تفاصيل دقيقة، مليئة بالألم والدهشة.. والأحلام عن الأوطان التي نظل نحملها داخلنا مهما سافرنا وابتعدنا.

يذكر أن الروائي افتتح الرواية بما أطلق عليه “ملاحظة المؤلف” وهي تقريبا ملاحظة كاشفة لتقنية الرواية والركيزة التي انطلقت منها فكرتها يقول حليم يوسف “مساء السادس عشر من آزاسر/ مارس، في منطقة “نيدرسكارسين” الألمانية، ثمة كردي غزا شعره الشيب يمشي في الشارع، قتل غدرا على يد شاب في الرابعة والعشرين، يبلغ طوله مئة وخمسة وتسعين سنتيمترا. كادت معفتي بالمقتول أن تكون معرفة سطحية، وكان قد مضى على مجيئنا إلى ألمانيا عامان فقط، منذ ذلك اختمرت في رأسي فكرة بناء رواية”.

ويتابع “منذ عام ألفين وأحد عشر بدأت العمل في الترجمة، بغية الحصول على قوت يومي، وعلى إثر مصاعب الحياة باتت الحادثة تلك بالنسبة إليّ حلما بعيدا، أو ربما جرحا قديما، ولولا تلك المصادفة لنسيت الجرح. جعلتني المصادفة مترجما لإمرأة كردية في مصح نفسي، وبعد معرفة طويلة بها مدت إليّ دفترا ذا غلاف أزرق مهترئ، سوى أن الكلمات بداخله مدونة بخط جميل، مع القراءة تقشر الجرح القديم ليتسلل إلى داخلي ألم مستجد، كان دفترا يحوي يوميات الرجل الأشيب، قمت بترجمتها، يوميات تفضح ألمي وألم من هم مثلي، حين قرأتها اختلط الأمر علّ، ولم أفهم إن كان يتحدث عني أم عن نفسه! لكن ولأجل بعض الأسباب المعروفة، قد غيرت الأسماء الحقيقية الواردة وأضفت على السبحة خرزات نعتها بنفسي، وأيضا رتبت الفوضى في الدفتر، الفوضى الشبيعة بفوضى خرزات سبحته السوداء التي في يده. والمؤلفة من تسعة وتسعين خرزة وقد أعدت ترتيبها خرزة إثر أخرى”.

من الرواية

الخرزة 29: خرزة الأرجوحة

من جانب كان موت أبي يربطني بالأمس وبذهن قديم متعب عبر حبل غليظ، ومن جانب آخر كانت ساندرا تربطني بالراهن، عبر سلاسل حديدية وتشدني نحو اختلاف الروح والبدن، كان أبي يزجني في بئر الحزن العميقة، حيث أسبح في مياه الطفولة واليتم وأغرق دون أن أود الخروج، كنت أتلذذ بتعذيب نفسي وبالبكاء، ولاسيما حين أكون بمفردي بعيدا عن أبصار الناس، بت بخيرة للأيام والسنوات الماضية، كنت أعيش في الأمس، مثل وحش عجوز متساقط الأسنان يعيش في كهف ذكرياته المشلولة والفارغة، حين كان يغلبني الأمس، لم أكن أريد أن أتركه، سوى أنني حين أخرج من وحل الذكريات الثقيلة أتمنى ألا أعود إلى ذلك الصمت الثقيل والحزين مرة أخرى، دخول ساندرا إلى حياتي كان أشبه بمرور عابر سبيل أمام بئر سقط فيها طفل، مع وقع صوت قدميها، بخطواتها البطيئة، كنت أرتعد خارجا من الأمس داخلا إلى اليوم، حياتي باتت جوع وحشي للولوج إلى ما بين أفخاذ النساء، في حياة الأمس وكلما مشيت في شارع كنت محاطا بالرجال ذوي الوجوه العابسة، على العكس من حياتي اليوم التي ينتفي فيها الرجال، في حين أن ثمة عددا هائلا من النساء في الشوارع، في كل مكان، في الأماكن المغلقة، عيناي كانتا معلقتين بأسفل بطني على الدوام، وكلما رأيت فتاة جميلة أو أنثى وسيمة وإن كانت على عجلة تتوجه أبصاري نحو المؤخرة، كنت أنزع ثيابها في خيالي، أديرها وأضع ثدييها بين شفتي ولساني، وأصغي إلى آهاتها، أو أمسك بفلقتي مؤخرتها بنعومة وبكل ما أوتيت من قوة وألج إلى نار جنتها، لا أعلم لم كانت هذه الوحشية تستيقظ في داخلي كلما أبصرت فتاة أو امرأة لا أعرفها.

كل النساء حين كنت أتعرف إليهن أو أعرفهن كانت رغبتي تبرد على الفور ولا تقوى على تحريك شيئ بداخلي، كنت أتخلى عن رغبتي في تعريتها ويتعب خيالي في مساعدتي على أن أقلبها على ظهرها تارة وعلى بطنها تارة وألعب معها لعبة الحياة والموت الساخنة، يوميا في خيالي كنت أرمي بناري في كل شارع داخل عشرات الأرحام دون أن أشبع، لا أعلم لم كان خيالي يمتنع عن تعرية كل النساء، وعرض خلع الملابس، ولاسيما إن كانت الفتاة ترتدي بنطالا، أثقب البنطال في مكان فم الجنة، وأنا بملابسي وهي بملابسها لتمتزج أعضاؤنا وتتداخل في بعضها الآخر، يبتعد الجسدان بشهوة ويقتربان من بعضهما، النتيجة أنني أشعر بلذة لم أشعر بها في حياتي كلها، لكنني كنت أعلل شهوتي اللانهائية هذه بابتعادي الطويل عن النساء، كانت شهوة من نار متقدة بداخلي دون أن تنطفئ، بعيدا عن أعين الناس كنت أجول ببصري بحثا عن تلك الثقوب والممرات الدافئة المختبئة تحت أثواب النساء الجميلات، عم كنت أبحث لا أعرف لم يحدث هذا، لا أعرف. فقط كان ثمة طعم للحياة في تلك اللحظات الهاربة، كل امرأة لا أعرفها عن كثب كانت تغدو لي فريسة لذيذة لهذه اللعبة الخيالية الساخنة، والغريب في الأمر أنني وبعد مرور دقائق قليلة على تلك الأحداث الخيالية كنت أنسى ملامح تلك المرأة وكل الدفء في تلك اللحظات.

ثمة نساء يعرفن ما الذي يريده منهن الرجل دون النظر إليه، أقول هذا عن تجربتي الشخصية، أحيانا دون أن تنظر إليّ كانت المرأة التي أنظر إليها بسهام نظراتي الشهوانية الحادة تشعر بي على الفور، كنت أعرف ذلك من نظرتها ولون وجهها، لاسيما حين كانت تبتعد عني مغادرة، وكأنهن يرغبن المشاركة في تلك اللعبة الدافئة، لم أر ذلك، ربما قد أكون مخطئا أيضا، إنهن يخفن من نظراتي التي تشبه نظرات النمر، لاسيما أن شرطا من شروط الدخول إلى هذه اللعبة أن ينتفي وجود الرجل مع المرأة، فوجود الرجل مع المرأة يقضي على خيال الاستحواذ أو الزواج بساندرا بهذه الأخيلة، لذا كانت قدمي دائما تمضي نحو الأمام، فيما الأخرى مقيدة بسلاسل هذه الجنة التي فتحها موت أبي، ورأسي يلتفت نحو السنوات الماضية، في وسط هذه الأرجوحة حط الطائر الأسود، طائر روح والدتي التي كنت بحاجة ماسة إليه تعرف ذلك فتأتي، صوتها بدا واضحا أكثر، فهمت من حديثها أنها حزينة لأجل موت والدي وتركه وحيدا في هذا العالم، سوى أن قرب والدي منها الآن أمر مفرح لها، لم أعرف إن كان بوسعهما اللقاء، كنت كالثمل ذلك اليوم، في الدخان، وما بين النوم والصحو، أتت روح وغادرت، وددت لو أسالها أسئلة كثيرة، سوى أنني لم أستطع ذلك، هي من جهة والدي من جهة أخرى، وكذلك ساندرا وحتى خيال بيريفان كانوا جميعا يقفزون إلى هذه المعضلة التي في رأسي، صورة بيريفان كانت قد تبعثرت، حاولت جاهدا أن ألملم تفاصيل الصورة القديمة لكنني كنت أفشل، أردت أن أرى ذاك الوجه النوراني القديم واضحا، سوى أن وجه ساندرا كان يمنع ذلك محاصرا إياي من الجهات الأربع، كيف أتى الطائر الأسود وكيف غادر لا أتذكر الأمر جيدا، فقط أتذكر أن أمي أعطتني مفتاحا جديدا للحياة مع ساندرا ومن ثم غادرت، لعلها مثل كل أم تريد تزويج ابنها بأي شكل من الأشكال وأن تفرح بجيء حفيدها، أو لعلها ودت إخراجي من بئر الوحدة العظيم والمعتم وترميني إلى حضن ساندرا الدافئ.

المصدر: Middle East Online

الكتابة الساخرة لدى حليم يوسف في مجموعة الرجل الحامل

ريبر هبون
السخرية هي المادة الأبرز الذي يحكم فضاء مجموعة الرجل الحامل لحليم يوسف وهي باكورة أعماله%d8%b1%d9%8a%d8%a8%d8%b1-%d9%87%d8%a8%d9%88%d9%86 القصصية التي صدرت في عام 1991 ، والعنوان يعد ملفتاً وجاذباً ويدعو للتساؤل، وقد استمد الكاتب من البيئة التي عاش فيها وكذلك من الشخصيات التي أحاطت به كأدوات يسترسل ويحلق من خلالها ، حيث تطفح في القصص السخرية اللاذعة والنقد الصارم لطبائع الناس وطريقة عيشها وسلوك بعض أفرادها وجهلهم نتيجة طبيعة الجغرافية والنظام السياسي الذي فرض حياة معقدة يعاني ناسها من شظف العيش ومشقة الحياة والعزلة، ولعل السخرية والكوميديا في نقد الناس آليتان يتسم بهما حليم الشاب المتوقد والذي اتسم داخله بغليان متوثب ورفض لما هو سائد عبر قصص واكبت روح المجتمع وتجولت في أروقته
: متفحصة سحنات الشخوص ممن أثروا فيه إن سلباًُ أو إيجاباً ، ففي نظرة لعناوين القصص نجد الآتي

رفسات الحمار الأبيض : الحمار رامز للبلادة البشرية والحنق على القيد المتربص بالناس ممن يعيشون –
.في رقعة هامشية على الحدود
صفقة مع عزرائيل : كوميديا تعج بالرموز الغامضة ، راحت القصة تحلق في فضاء فني ساخر وساحر –
.تهكمي مع غياب الفكرة وحضور اللغة الفنية
الرجل الحامل: نقد لحالة الخنوع ص31 : „باختصار شديد من يرفع ساق أمنا فهو أبونا“ وازدراء راح –
.الكاتب يعبر عنه عبر الوصف الجسدي للشخصية المزدرى منها
.دواليب الصوفي دولاب:نقد لازوداجية رجل الدين ومزاجيته التي يطوّع ما يعتقده حسب هواه –
اللحية الطائرة: يستمر الكاتب في تعرية الازدواجية المقيتة لدى رجل الدين انعكاساً لرداءة الحياة –
الاجتماعية والانغلاق السائد لدى الناس وحاجتها لقوة غيبية تجعلها تشعر أنها على ما يرام إزاء واقع عصي
. على التغيير
العنزة الغامضة: يتحدث عن ذلك الصوفي أسير الزواية ، والذي يعاني من شذوذه واضطرابه المتفاقم –
واهتمام الآخرين به ومحاولتهم في كسب وده ، ونجد في هذه القصة غلبة الوصف النفسي والجسدي على شخصية الصوفي وحشو ذلك الوصف بالسخرية والتهكم مع حس واضح للكوميديا وكأننا أمام مشهد حكائي
. ساخر هدفه إذكاء الحواس في فهمها لما يجول في مخيلة الكاتب وروح الاسترسال السردي لديه
رجل متعدد الأيدي: ينشغل الكاتب في ملاحقة العهر المهني لرجال التقية والوعّاظ ويكشف عن صور قاتمة-
.من الجهل والتجهيل واستغباء الناس
ممو يستيقظ من الموت : هنا الكاتب ينتقل إلى جو مغاير نسبياً لتتم المواجهة بين العاشق والمتآمر –
فيستحدث حكاية مم وزين على نحو أكثر عصرية حيث تنقلب الآية في هذه القصة على نحو انتصار التآمر
. على البراءة
:الهيكل العظمي العاشق –
أطلق الكاتب العنان للمخيلة لتتداخل مع الواقعي ولتنصب شباكاً متعدد المعاني والوجوه ، لرصد النزق الذي يكتظ به المكنون الداخلي للشخصية الفاحصة للمجتمع معبراً عن جثة لا تزال تصارع الأحياء على نحو مرمّز
. بالرسائل الاحتجاجية على رداءة السلوك الفردي أو الجمعي
مثلث بأربعة أضلاع : غاصت تعابير الكاتب في التخييل مجدداً وباتت الفكرة تائهة بين تلابيب الوصف –
.الجسدي والنفسي للشخصية
ما جرى في العام 2014 : محاولة الشرطي تغيير اسم 1514 ب 1967 وهما تاريخان يشيان بالهزيمة –
الأول يشير إلى تقسيم كوردستان ما بين الصفوية والعثمانية بعد معركة جالديران بينهما والآخر متعلق بهزيمة العرب من قبل إسرائيل ، حيث يضيع المنفلش ما بين تاريخ مجهول لشعب بلا دولة وآخر قائم بحكم
. وجود دول عربية
عطلة الأوكسجين: نقد لطريقة فهم الناس التقليدية للدين ، مرتبط ببدع غير معروفة تتحلق حول يوم –
الجمعة ص178 : „جاءه الصوت يشق السماء نصفين ،- اليوم جمعة ..يوم عطلة ..عطلة الأوكسجين
!عطلة…عطلة

. السيرة الذاتية لحذاء: إحاطة لرمزية الحذاء وهو يشير إلى الغنى ، المكانة الاجتماعية، السلطة والذل –
:حب بلا أرجل-
.رمزية الأرجل تتحلق حول الإمكانات المادية وبدونه يستحيل بقاء الحب في مجتمع الفقر وضحالة الفكر

:استنتاج *
من خلال موضوعات هذه المجموعة حول النقد الساخر لجملة المفاهيم الاجتماعية وسلوكيات الأفراد ، يمكن فهم طبيعة الحياة في التسعينيات في زمن الصمت المطبق والخوف من الرقابة وتفشي انعدام الثقة وتفكك الروابط وكذلك البيئة بشخوصها المتباينين إلهاماً للكاتب فجاءت عباراته مرمّزة ملغومة تسبر الأغوار عن حياة تعاش بشق الأنفس وتعكس طريقة تفكير الكاتب أنذاك وغليانه الداخلي والتي راحت النعوت تفصح
. عنها في معرض تطرقه للشخصيات ومسارات حياتها

: مآخذ*
غابت الحبكة الحكائية في نسيج تلك القصص واختفت الفكرة المحددة في متاهة الوصف والسرد على طريقة
النصوص الأدبية الهجينة ما بين القصة والخاطرة
كذلك الإفراط في التخييل حقق المتعة الفنية المتعلقة بتقنية الإدهاش عبر التشابيه وطغيان ذلك على نحو
. متكرر أخذ حيزاً كبيراً على حساب المغزى الذي ظل مبهماً

: خلاصة*
الرجل الحامل هو بداية ولوج الكاتب لفن القصة وسبر الواقع وإعادة صهره بقالب فني أضفى على اللغة تمايزاً واضحاً عن القصة القصيرة التقليدية والبيئة تمثل لدى الكاتب إلهاماً واضحاً عبّر عنها بصدق وكانت
. له متكأ في التعريف بهويته الأدبية للعالم والآخر

https://youtu.be/RTMUuNaHeZA