أرشيف الوسم: د. مهيب صالحة

د . مهيب صالحة: “عذر أقبح من ذنب”

قيل أن الخليفة العباسي هارون الرشيد طلب من الشاعر أبي نواس أن يأتيه بعذر أقبح من ذنب .

وذات مرة مرَّ الخليفة من جانب أبي نواس فبادره الأخير ( ببعصة ) على دُبْره. صرخ هارون في وجه أبي نواس : ويحك يا هذا ماذا فعلت ؟!

أطرق أبو النواس وجهه خجلاً وقال : عذراً يا مولاي لقد ظننتك مولاتي السيدة زبيدة (زوجة هارون وابنة عمه).

ضحك هارون ضحكة فيها الكثير من المرح وروح الدعابة، وربت على كتف أبي نواس مردداً : هذا عذر أقبح من ذنب ..

إن صدقت صحة الرواية، فإنها تحمل في داخلها معنى عميقاً ، يشير إلى شفافية أبي نواس (المثقف)، وسعة صدر هارون (الحاكم)، وإلى عبارة بسيطة لكنها غنية بدلالاتها، صارت في الوعي الجمعي العربي لا تقل شأناً وخطورة عن شعرة معاوية التي توازن علاقة الحاكم بالمحكوم لإدامة الحكم، فهي تفتح نافذة لن تغلق، ربما لعقود أو لقرون، طالما الدولة العربية ترزح تحت نير الجهل والظلم والقهر والاستبداد.

وهذه النافذة لا تمرر رياح التغيير، ولا نور الحقيقة، إنما تورد من خلالها الأعذار الأشد قبحاً من ذنوب تقود إلى فشل ذريع تلو الفشل. فسوق الأعذار القبيحة يحجب الحقيقة عن الشعوب التي تتخوزق بالذنوب القبيحة، فالأعذار هنا تساق للتغطية على الذنوب. وفي الوقت ذاته يتلطى الحاكم والمثقف والسياسي خلفها هرباً من مسؤولياتهم التاريخية والأخلاقية، وحتى لا يُحملوا نفسهم عناء البحث في الأسباب والمقدمات والوسائل والأدوات والسياسات والاستراتيجيات والنتائج والقرارات الرشيدة، إما لجهل أو لمصلحة. وفي الحالتين فإن جميع الأعذار التي تساق هي أقبح بكثير من الذنوب، والذنب والعذر، هنا، سيان في زعم كل من الحاكم والمثقف والسياسي.

أما الشعوب فبعضها ينساق كالقطيع خلف قبح الذنوب والأعذار، ولا يكلف نفسه عناء التفكر بترهات الحاكم والمثقف والسياسي ولا بضلالاتهم وخداعهم لأنهم، منفردين أو مجتمعين ، صنع منهم أصناماً يتعبدها ، ويطيعها دونما خجل أو تأنيب من ضمير. وبعضها لا يكترث لمسألة ولا يمتعض من تجربة مريرة، وكل همه حياة هادئة لا يعكر صفوها دخيل أو متربص أو فضولي. وتبقى قلة قليلة مسكونة بهواجس الجمال، يأبى ضميرها الحي إلا أن يأخذها دائماً في مجرى سيرورة الثورة على القبح، ريثما يصحو الوعي الجمعي من غفوته المشحونة عبر التاريخ بشعرة معاوية الأموي وعبارة هارون العباسي . وكلاهما ، الشعرة والعبارة ، تفضحان زيف كل حاكم ومثقف وسياسي يستخدمهما للتضليل، وتستخفان بعقل الذين ينطلي عليهم هذا الزيف.

ثمة ذنوب تغتفر، من قبيل زلة لسان أو زلة ضمير أو زلة سلوك ، إذا كان تأثيرها محدود وعلى نطاق ضيق. وتزداد فرصتها بالغفران إذا الحاكم أو المثقف أو السياسي اعترف وأقر بالذنب وتراجع عنه ، فهذا يفتح النافذة إلى الداخل ليعبر من خلالها النور إلى الوعي الجمعي ، ويمهد الطريق للتغيير، لكنه تغيير جزئي محدود وبطيء. أما الذنوب القبيحة في الفكر والضمير والسلوك فلا دواء لها سوى التغيير الثوري الشامل، وتصبح الأعذار القبيحة التي تساق لتغطيتها جريمة وطنية ببعديها التاريخي والأخلاقي لأنها لا تؤجل التغيير فحسب بل تقضي على أية فرصة محتملة له. ويزداد الطين بلة إذا تحولت الأعذار القبيحة إلى أيقونات مقدسة تتعلق على رقاب العامة فتخنقها ببطء شديد ، وتخنق معها الحوامل الميكانيكية الجمعية للتغيير، وفي الوقت نفسه تعطل الحوامل الديناميكية للتغيير التي لا تتجمع بسهولة ويكون تراكمها ، في الأعم الأغلب، بطيئاً ومتقطعاً ومتشرذماً . وفي جميع الحالات يقع اللوم على الشعرة الأموية والعبارة العباسية ، اللتين تشكلان الإطار العام لسيرورات التغيير المتكاسلة. فمنذ تجربة محمد علي في مصر ـ وربما قبلها بكثير مذ قسم هارون الدولة بين ولديه الأمين والمأمون، بين العرب والعجم، بين السنة والشيعة، بعذر الحفاظ على الملك ـ وحتى هذه الآونة ، تساق عند كل فشل أو محنة نظرية المؤامرة كعذر أقبح من ذنب في الوقت الذي كل أنظمة الحكم التي تواترت على المنطقة حافظت على شعرة معاوية كوسيلة فعالة تستخدم في مقاومة التغيير.

ولم يكن سقوط مشروع محمد علي بفعل مؤامرة خارجية ـ فالدول تبحث عن مصالحها في جميع الأوقات والأحداث ـ بل لأنه بدأ من حيث انتهت أوروبا دون مراعاة الخصوصية المصرية والبناء عليها . فبناء صناعات كبيرة على أنقاض الإنتاج الصغير والإنتاج الحرفي، الذي كان مهماً آنذاك لاقتصاد مصر ، لم يكن خطوة موفقة بقدر ما غدا حجر عثرة في ظل التمسك بأنماط الإنتاج التقليدية في الريف المصري، وعدم نضوج مشروع سياسي وطني حاضن . وفي السياق ذاته لم يكن سوق نظرية المؤامرة لتبرير سقوط المشروع القومي العربي ( الناصري والبعثي ) أو المشروع الاشتراكي على الطريقة السوڤيتية أقل قبحاً من ذنوبِ لا تغتفر ارتكبت بحق الدولة ومؤسساتها وبحقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية في كل من مصر وسورية والعراق وليبيا والجزائر واليمن الديمقراطي . كما لم تكن الأعذار التي دائماً تساق في الهزائم أو التفريط بالحقوق الوطنية ، أو إهمال قضايا الناس والمساس بحقوقهم ومكتسباتهم … أقل قبحاً من هذه الذنوب . ولكن يبقى الأقبح منها كلها الحاكم والمثقف والسياسي الذي ينساق في مجاريها التي تزكم الأنوف وتصيب الرؤوس بالدوار.

د . مهيب صالحة / السويداء / أيار ٢٠١٩

كاتب وأكاديمي سوري

دكتوراة في الاقتصاد وعميد سابق كلية إدارة الأعمال، الجامعة العربية الدولية، سوريا aiu.edu.sy

تموز نت

د. مهيب صالحة: منطقة آمنة أم منطقة احتلال، شروط تركيا المرفوضة

منذ إعلان دونالد ترامب انسحاب القوات الأمريكية من شمال سورية ، يتجدد طلب تركيا إقامة منطقة أمنة على طول حدودها مع سورية شرقي الفرات بعمق ٣٢ كم داخل الأراضي السورية وعلى مسافة ٤٦٠ كم . وتصر تركيا أن تكون إدارة المنطقة الآمنة بيدها وحدها بحجة أنها تمتلك كل المؤهلات لذلك ، وأنها نجحت غربي الفرات بإقامة منطقة خفض تصعيد خالية من الإرهابيين ، وبالتالي نقل تجربة غربي الفرات إلى شرقي الفرات ، من وجهة نظر تركيا ، سيحافظ على وحدة أراضي الدولة السورية ، ويمنع الكورد من انشاء أي كيان لهم هناك ، ويقضي على من تسميهم الكورد الإرهابيين من حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يتبع حزب العمال الكوردستاني المصنف إرهابياً في تركيا وفي الولايات المتحدة الأمريكية . إن تركيا تلعب مع الإدارة الأمريكية ، منذ إعلان ترامب ، لعبة القط والفأر من بوابة الاتفاق على تصنيف حزب العمال الكوردستاني في قائمة المنظمات الإرهابية . ولكن جناحه السوري لم يتورط قط بعمليات عسكرية ضد تركيا ، وفي الوقت ذاته اعتمدت عليه الولايات المتحدة للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية في منطقة مهمة شمال شرقي سورية على الحدود مع تركيا في إطار قوات سورية الديمقراطية ( قسد ) . وفي هذا السياق فإن حزب الاتحاد الديمقراطي السوري يستطيع سحب ذرائع تركيا ، وتبديد مخاوفها ، وتجنب ارتكابها حماقة ، يدفع ثمنها الكورد كما دفعوا ثمن احتلال عفرين ، وذلك بفك ارتباطه بحزب العمال الكوردستاني التركي لأن قضية الكورد السوريين قضية وطنية بامتياز ، وهي جزء مهم من قضية الشعب السوري الوطنية المتمثلة بالخلاص من الاستبداد والانتقال إلى دولة علمانية ديمقراطية ، مع لامركزية إدارية بوحدات موسعة تنمي روح المواطنة وتوفر ظروف التنمية المستدامة ، ويتساوى فيها جميع الأفراد والمكونات بالحقوق والواجبات . إن القضية الكوردية ، ككل قضايا المنطقة ، لا تحل بالجملة ، انما تحل في الأطر الوطنية لكل الدول الخمس التي تتقاسمها وفق ظروف القضية وظروف كل دولة التي تختلف من دولة إلى أخرى . ويستطيع عندئذِِ مجلس سورية الديمقراطية ( مسد ) باعتباره يمثل الإدارة الذاتية بجميع مكوناتها اجراء مفاوضات مع تركيا برعاية أمريكية لتجنيب المنطقة المزيد من التعقيدات ريثما يتفق الفاعلون في المسألة السورية على خارطة طريق لحلها .
ليس من قبيل الصدفة أن تتجاذب الإدارتان الأمريكية والتركية فكرة المنطقة الآمنة ، دونما بلوغ نقطة تسوية أو اتفاق بينهما . فتركيا تصر على تفردها بإدارة المنطقة الآمنة ، وترفض ضمنياً وجود أية قوات أممية أو غربية ، وأمريكا تصر على أن يكون لحلفائها الأوربيين دور فيها ، وتهدد تركيا بعقوبات اقتصادية شديدة إذا تعرضت لحليفها الكوردي في سوريا ، بينما يرفض الكورد المنطقة الآمنة بإدارة تركيا لأنها طرف في الصراع غير مستقل ، ولأنها تدعم الإرهاب في سورية ، وتحتل جزءاً من أراضيها .
وفي كل مرة تجدد تركيا مطالبتها بالمنطقة الآمنة يعود الحديث إلى نقطة البداية دونما أي تقدم بسبب فقدان الثقة بين جميع الأطراف ، سواء بين تركيا وأمريكا ، أو بين أطراف أستانا ( روسيا وايران وتركيا ) ، أو بين الأطراف السورية الداخلية وخاصة بين الإدارة الذاتية والنظام والمعارضة . ويعتبر تمسك أمريكا بحليفها الكوردي في سورية العقبة الكأداء أمام طموحات تركيا التي يفسرها بعض المراقبين أطماع قديمة لها في شمال سورية ، تثير مخاوف جميع الأطراف الأخرى . ومن جهة أخرى تدفع روسيا باتجاه فتح قنوات اتصال بين الحكومة التركية وحكومة دمشق من أجل تفعيل اتفاق أضنة ١٩٩٨ الذي يسمح لتركيا ملاحقة من تسميهم بالإرهابيين الكورد حتى عمق ٥ كم داخل الأراضي سورية بديلاً عن المنطقة الآمنة ، التي تطالب بها منذ سنوات ، ولا تتحقق . إن الاقتراح الروسي ، بدون أدنى شك ، يسعى إلى تشكيل كتلة صراع من أطراف أستانا التي تحتضن أطراف الصراع الداخليين باستثناء الكورد ، لأن قيام أي كيان كوردي شمال سورية ، وتحت أي مسمى ، يضاف إلى إقليم كوردستان العراق سوف يثير قلق دول أستانا جميعاً . وربما تدرك الإدارة الأمريكية ذلك مما يجعلها تعارض مواقف تركيا وشركائها في أستانا حيال الكورد ، وتترك قضيتهم دائماً مادة للبحث والمزايدة السياسية . إن الولايات المتحدة الأمريكية تدار بالمصالح والمكاسب وليس بالمبادئ ، وطالما مصالحها والمكاسب التي تحصل عليها في سورية أكبر مع الكورد فإنها تدعم توجههم حيال المنطقة الآمنة ، وغيرها من الموضوعات كموضوع التفاوض مع حكومة دمشق والاعتراف بالإدارة الذاتية شرقي الفرات . وفي اللحظة التي تتغير فيها مصالح ومكاسب أمريكا تتغير معها سياساتها ـ لنتذكر موقفها من الاستفتاء الذي أجرته حكومة البرزاني في إقليم كوردستان العراق ـ لذلك ليس من المتوقع أن تبقى سياسات الدول الفاعلة حيال المنطقة الآمنة شمال سورية كما هي الآن ، إذ لربما تتغير مع أي تغير بالمعطيات والوقائع والتقديمات .
إن تجربة الاحتلال التركي لمناطق سورية غربي الفرات منطقة ( الباب ـ اعزاز ـ عفرين ـ جرابلس ) لا تدعو للاطمئنان من جهة السوريين إذ أن تركيا تجري هناك تغييرات ديمغرافية عرقية وتطمس المعالم السورية لهذه المنطقة ، وحلفاؤها من الجماعات المسلحة المعارضة هم ممن ينتمون للإخوان المسلمين واشتقاقاتهم ، وهؤلاء يقدمون انتماءهم الديني إلى حكومة أردوغان الإسلامية على أي انتماء وطني . ونقل هذه التجربة إلى شرقي الفرات يعني المزيد من تعقيدات المسألة السورية ، وتعقيدات الحل السياسي ، وزيادة الفرقة بين مكونات الشعب السوري ، كما يكرس تقسيم البلاد إلى كونتونات أثنية وطائفية . وتفيد تجارب سابقة في مناطق كثيرة من العالم أن تدخل دول الجوار بمناطق النزاع ، بمسميات مختلفة ، يخفي غير ما يظهر ، فيتحول التدخل إلى احتلال غاشم .
إن تركيا لم تلتزم بتعهداتها في استانا حيال المنطقة معزولة السلاح ، وجبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة ، في إدلب . وهي تؤجل أي حل مع شركائها روسيا وايران ، والسبب هو أطماع تركيا التي لا تنتهي في عموم الشمال السوري مستغلة تناقضات السياسة الدولية تجاه المسألة السورية ، وعلاقاتها بجميع أطراف الصراع الدوليين والاقليميين في سورية . ولكن هذه الأسباب هي نفسها التي تحول دون قبول أطراف الصراع للمنطقة الآمنة بمقاييس ومواصفات وشروط تركيا . لقد أدار الجميع ظهره لمطالب تركيا في المنطقة الآمنة ، ولا يعني تجدد المطالبة التركية بين الفينة والأخرى أن أطراف الصراع ، وخاصة الولايات المتحدة ، التي تتذرع تركيا كل مرة بالتفاهم معها حول المنطقة الآمنة ، قد أداروا لها صدورهم ، لأن شروط تركيا لا تعني منطقة آمنة بقدر ما تعني منطقة احتلال .
د . مهيب صالحة / السويداء / نيسان ٢٠١٩
كاتب وأكاديمي سوري
دكتوراة في الاقتصاد وعميد سابق كلية إدارة الأعمال، الجامعة العربية الدولية، سوريا aiu.edu.sy

خاص تموز نت